حدث في الأول من شعبان

 في مستهل شعبان من عام 380 أصدر الخليفة العباسي الطائع لله أمره بتعيين الشريف الرضي، محمد بن الحسين العلوي، المتوفى سنة ، نقيباً للطالبيين، وهو ما يعبر عنه اليوم في بعض البلاد الإسلامية بنقابة الأشراف المنحدرين من العترة النبوية الشريفة.

وإضافة إلى نقابة الأشراف جعله الخليفة الطائع ناظراً على المساجد وعمارتها، وهو أشبه بوزارة الأوقاف الآن، وخوله كذلك أن يستخلف والده الشريف أبي أحمد الحسين بن موسى على النظر في المظالم والحج بالناس في سنة ثمانين وثلثمائة.
وكتب هذه الأمر، وكان يصطلح عليه آنذاك بالعهد، أبو إسحاق الصابئ، وهو على دين الصابئة، وسترد ترجمة موجزة له فيما بعد، وهذا نص العهد وقد أضفت له عناوين جانبية تشرح فقراته:
المقدمة
هذا ما عهد عبد الله عبد الكريم، الإمام الطائع لله أميرُ المؤمنين، إلى محمد بن الحسين بن موسى العلوي، حين وصلته به الأنساب، وقرنت لديه الأسباب، وظهرت دلائل عقله ولُبابته، ووضحت مخايل فضله ونجابته، ومهد له بهاءُ الدولة وضياء الملة أبو نصر بن عضد الدولة ما مهد عند أمير المؤمنين من المحل المكين، ووصفه به من الحلم الرزين، وأشار به من رفع المنزلة، وتقديم الرتبة، والتأهيل لولاية الأعمال، وتحمل الأعباء والأثقال، وحيث رغَّبه فيه، سابقةُ الحسين أبيه، في الخدمة والنصيحة، والمشايعة الصحيحة، والمواقف المحمودة، والمقامات المشهودة، التي طابت بها أخباره، وحسنُت فيها آثاره، وكان محمدٌ متخلقاً بخلائقه، وذاهباً على طرائقه: علماً وديانة، وورعاً وصيانة، وعفةً وأمانة، وشهامة وصرامة، وتفرداً بالحظ الجزيل، من الفضل الجميل، والأدب الجزل، والتوجه في الأهل، والإيفاء في المناقب على لداته وأترابه، والإبرار على قرنائه وأضرابه.
موضوع التقليد
فقلده ما كان داخلاً في أعمال أبيه من نقابة نقباء الطالبيين بمدينة السلام وسائر الأعمال والأمصار، شرقاً وغرباً، وبُعداً وقرباً، واختصه بذلك جذباً بضبعه، وإنافة بقدره، وقضاءً لحقِّ رحِمه، وترفيهاً لأبيه، وإسعافاً له بإيثاره فيه، إلى ما أمر أمير المؤمنين باستخلافه عليه من النظر في المظالم، وتسيير الحجيج في أوان المواسم؛ والله يعرِّفُ أميرَ المؤمنين الخيرة فيما أمر ودبر، وحسن العاقبة فيما قضى وأمضى، وما توفيق أمير المؤمنين إلا بالله عليه يتوكل وإليه ينيب.
الأمر بالتقوى
أمره بتقوى الله التي هي شعار المؤمنين، وسيما الصالحين، وعصمة عباد الله أجمعين؛ وأن يعتقدها سراً وجهراً، ويعتمدها قولاً وفعلاً، فيأخذ بها ويعطي، ويريش ويبري، ويأتي ويذر، ويورد ويصدر؛ فإنها السبب المتين، والمعقل الحصين، والزاد النافع يوم الحساب، والمسلك المفضي إلى دار الثواب، وقد حض الله أولياءه عليها، وهداهم في محكم كتابه إليها؛ فقال في سورة آل عمران: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}،  وقال تعالى في سورة التوبة:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ}.
الأمر بتلاوة كتاب الله
وأمره بتلاوة كتاب الله سبحانه مواظباً، وتصفحه مداوِماً ملازِماً، والرجوع إلى أحكامه فيما أحل وحرم، ونقض وأبرم، وأثاب وعاقب، وباعد وقارب؛ فقد صحح الله برهانه وحجته، وأوضح منهاجه ومحجته، وجعله فجراً في الظلمات طالعاً، ونوراً في المشكلات ساطعاً، فمن أخذ به نجا وسلم، ومن عدل عنه هلك وهوى وندم. قال الله عز وجل في سورة فُصِّلَت: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ}.
الأمر بضبط النفس
وأمره بتنزيه نفسه عما تدعو إليه الشهوات، وتتطلع إليه النزوات، وأن يضبطها ضبط الحكيم، ويكفها كف الحليم، ويجعل عقله سلطاناً عليها، وتمييزه آمراً ناهياً لها؛ فلا يجعل لها عذراً إلى صبوة ولا هفوة، ولا يطلق منها عناناً عند ثورة ولا فورة، فإنها أمارة بالسوء، منصبة إلى الغي؛ فالحازم يتهمها عند تحرُّك وطره وأربه، واهتياج غيظه وغضبه، ولا يدع أن يغضها بالشكيم، ويعركها عرك الأديم، ويقودها إلى مصالحها بالخزائم، ويعتقلها عن مقارفة المحارم والمآثم، كيما يعز بتذليلها وتأديبها، ويجل برياضتها وتقويمها، والمفرط في أمره تطمح به إذا طمحت، ويجمح معها أنَّى جمحت، ولا يلبث أن تورده حيث لا صَدْر، وتلجئه إلى أن يعتذر، وتقيمه مقام النادم الواجم، وتتنكب به سبيل الراشد السالم.
تذكير بأصله الشريف وجمال هذه المحاسن عليه
وأحقُّ من تحلى بالمحاسن، وتصدى لاكتساب المحامد، من ضرب بمثل سهمه في نسب أمير المؤمنين الشريف، ومنصبه المنيف، واجتمع معه في ذؤابة العترة الطاهرة، واستظل بأوراق الدوحة الفاخرة، فذاك الذي تتضاعف له المآثر إن آثرها، والمثالب إن أسفَّ إليها، ولا سيما من كان مندوباً لسياسة غيره، ومرشحاً للتقليد على أهله، إذ ليس يفي بإصلاح من ولي عليه، من لا يفي بإصلاح ما بين جنبيه، وكان من أعظم الُهجنة أن يأمر ولا يأتمر، ويزجر ولا يزدجر، قال الله عز وجل في سورة البقرة: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ}.
ماينبغي عليه عمله مع الأشراف
وأمره بتصفح أحوال من ولي عليهم واستقراء مذاهبهم، والبحث عن بواطنهم ودخائلهم، وأن يعرف لمن تقدمت قدَمُهُ منهم وتظاهَرَ فضلُه فيهم منزلتَه، ويوفيه حقه ورتبته، وينتهي في إكرام جماعتهم إلى الحدود التي توجبها أنسابهم وأقدارهم، وتقتضيها مواقفهم وأخطارهم: فإن ذلك يلزمه لشيئين: أحدهما يخصه وهو النسب الذي بينه وبينهم، والآخر يعمه والمسلمين جميعاً، وهو قول الله جل ثناؤه في سورة الشورى: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} فالمودة لهم والإعظام لأكابرهم، والإشبال على أصاغرهم؛ واجب متضاعف الوجوب عليه، ومتأكد اللزوم له؛ ومن كان منهم في دون تلك الطبقة من أحداثٍ لم يحتنكوا، أو جذعانٍ لم يقرحوا، مجرين إلى ما يزري بأنسابهم ويغض من أحسابهم، عذلهم ونبههم، ونهاهم ووعظهم؛ فإن نزعوا وأقلعوا فذاك المراد بهم، والمقصود إليه فيهم، وإن أصروا وتتابعوا، أنالهم من العقوبة بقدر ما يكف ويردع؛ فإن نفع وإلا تجاوزه إلى ما يوجع ويلذع، من غير تطرق لأعراضهم، ولا انتهاكٍ لأحسابهم، فإن الغرض منه الصيانة، لا الإهانة، والإدالة، لا الإذالة، وإذا وجبت عليهم الحقوق، أو تعلقت بهم دواعي الخصوم، قادهم إلى الإغفاء بما يصح منها ويجب، والخروج إلى سنن الحق فيما يشتبه ويلتبس؛ ومتى لزمتهم الحدود أقامها عليهم بحسب ما أمر الله به فيها، بعد أن تثبت الجرائم وتصح، وتبين وتتضح، وتتجرد عن الشك والشبهة، وتتجلى من الظن التهمة، فإن الذي يستحب في حدود الله أن تدرأ عن عباده مع نقصان اليقين والصحة، وأن تمضى عليهم مع قيام الدليل والبينة. قال الله عز وجل في سورة البقرة: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}.
حماية النسب من الدخلاء
وأمره بحياطة هذا النسب الأطهر، والشرف الأفخر، عن أن يدعيه الأدعياء، أو يدخل فيه الدخلاء؛ ومن انتمى إليه كاذباً، وانتحله باطلاً، ولم يوجد له بيتٌ في الشجرة، ولا مصداقٌ عند النسابين المهرة، أوقع به من العقوبة ما يستحقه، ووسمه بما يعلم به كذبه وفسقه، وشهره شهرةً ينكشف بها غشه ولبسه، وينزع بها غيره ممن تسول له مثل ذلك نفسه؛ وأن يحصن الفروج عن مناكحة من ليس لها كفؤاً، ولا مشاركها في شرفها وفخرها، حتى لا يطمع في المرأة الحسيبة النسيبة إلا من كان مثلاً لها مساوياً، ونظيراً موازياً، فقد قال الله تعالى في سورة الأحزاب: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}.
رعاية الضعفاء من الأشراف
وأمره بمراعاة متبتلي أهله ومتهجديهم، وصلحائهم ومجاوريهم، وأراملهم وأصاغرهم، حتى يسد الخلة من أحوالهم، ويدر المواد عليهم، وتتعادل أقساطهم فيما يصل إليه من وجوه أموالهم، وأن يزوج الأيامى ويربي اليتامى، ويلزمهم المكاتب ليتلقنوا القرآن، ويعرفوا فرائض الإسلام والإيمان، ويتأدبوا بالآداب، اللائقة بذوي الأحساب: فإن شرف الأعراق، محتاجٌ إلى شرف الأخلاق؛ ولا حَمْدَ لمن شرُفَ نسبُه، وسخُفَ أدبه، إذ كان لم يكسب الفخر الحاصل له بفضل سعيٍ ولا طلب، ولا اجتهادٍ ولا دأب، بل بصنعٍ من الله عز وجل له، ومزيد في المنة عليه، وبحسب ذلك لزوم ما يلزمه من شكره سبحانه على هذه العطية، والاعتداد بما فيها من المزية، وإعمال النفس في حيازة الفضائل والمناقب، والترفع عن الرذائل والمثالب.
إنابته عن أبيه في المظالم
وأمره بإجمال النيابة عن شيخه الحسين بن موسى فيما أمره أمير المؤمنين باستخلافه عليه من النظر في المظالم، والأخذ للمظلوم من الظالم، وأن يجلس للمترافعين إليه جلوساً عاماً، ويتأمل ظلاماتهم تأملاً تاماً؛ فما كان منها متعلقاً بالحاكم رده إليه، ليحمل الخصوم عليه، وما كان طريقه طريق الغشم والظلم، والتغلب والغصب، قبض عنه اليد المبطلة، وثبت فيه اليد المستحقة، وتحرى في قضاياه أن تكون موافقةً للعدل، ومجانبةً للخذل، فإن غايتي الحاكم وصاحب المظالم واحدة: وهي إقامة الحق ونصرته، وإبانته وإنارته، وإنما يختلف سبيلاهما في النظر: إذ الحاكم يعمل على ما ثبت وظهر، وصاحب المظالم يفحص عما غمض واستتر، وليس له مع ذلك أن يرد لحاكم حكومة، ولا يُعِلَّ له قضية، ولا يتعقب ما ينفذه ويمضيه، ولا يتتبع ما يحكم به ويقضيه، والله يهديه ويسدده، ويوفقه ويرشده.
رعاية الحجيج
وأمره أن يسير حجيج بيت الله إلى مقصدهم، ويحميهم في بدأتهم وعودتهم، ويرتبهم في مسيرهم ومسلكهم، ويرعاهم في ليلهم ونهارهم، حتى لا تنالهم شدة، ولا تصل إليهم مضرة، وأن يريحهم في المنازل، ويوردَهم المناهل، ويناوبَ بينهم في النَّهَل والعَلَل - النَّهَلُ أول شربة والعَلَل ثانيها - ويمكنهم من الارتواء والاكتفاء، مجتهداً في الصيانة لهم، ومعذراً في الذب عنهم، ومتلوماً على متأخرهم ومتخلفهم، ومنهضاً لضعيفهم ومَهيضهم، فإنهم حجاج بيت الله الحرام، وزوار قبر الرسول عليه السلام، قد هجروا الأوطان، وفارقوا الأهل والإخوان، وتجشموا المغارم الثقال، وتعسفوا السهول والجبال، يلبون دعاء الله عزَّ اسمه، ويطيعون أمره ويؤدون فرضه ويرجون ثوابه، وحقيقٌ على المسلم المؤمن أن يحرسهم متبرعاً، ويحوطهم متطوعاً؛ فكيف من تولى ذلك وضمنه، وتقلده واعتنقه، قال الله في سورة آل عمران: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا }.
رعاية المساجد والإذن له بأن يكتب اسمه بعد الخليفة على ما أصلح منها
وأمره أن يراعيَ أمورَ المساجد بمدينة السلام وأطرافها، وأقطارها وأكنافها، وأن يجبي أموال وقوفها، ويستقصي جميع حقوقها، وأن يلُمَّ شعثها، ويسد خللها، بما يتحصل من هذه الوجوه قبله، حتى لا يتعطل رسمٌ جرى فيها، ولا تنقض عادةٌ كانت لها، وأن يثبت اسم أمير المؤمنين على ما يعمره منها، ويذكر اسمه بعده بأن عمرانها جرى على يديه، وصلاحَها أداه قول أمير المؤمنين إلى فعله، فقد فسح له أمير المؤمنين بذلك تنويهاً باسمه، وإشادةً بذكره؛ وأن يولي ذلك من قِبَلِهِ من حسُنت أمانته، وظهرت عفته وصيانته، فقد قال الله تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ}.
السماح له باتخاذ الوكلاء
وأمره أن يستخلف على ما يرى الاستخلاف عليه من هذه الأعمال في الأمصار الدانية، والبلاد القريبة والبعيدة، من يثق به من صلحاء الرجال، وذوي الوفاء والاستقلال، وأن يعهد إليهم مثل الذي عهد إليه، ويعتمد عليهم في مثل ما اعتمد عليه، ويستقري مع ذلك آثارهم، ويتعرف أخبارهم، فمن وجده محموداً أقره ولم يزله، ومن وجده مذموماً صرفه ولم يمهله، واعتاض منه من ترجى الأمانة عنده، وتكون الثقة معهودةً منه؛ وأن يختار لكتابته وحجبته والتصرف فيما قرب منه وبعد عنه، من يزينه ولا يشينه، وينصح له ولا يغشه، ويجمله ولا يهجنه، من الطبقة المعروفة بالظَلَف، المتصونة عن النطف، ويجعل لهم من الأرزاق الكافية، والأجرة الوافية، ما يصدهم عن المكاسب الذميمة، والمآكل الوخيمة، فليس تجب عليهم الحجة إلا مع إعطاء الحاجة، قال الله تعالى في سورة النجم:{أَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى، وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى، ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى}.
وأمره بأن يكتب لمن يقوم ببينته عنده وتنكشف حجته له، إلى أصحاب المُعاوِن بالشد على يديه، وإيصال حقه إليه، وحسم الطمع الكاذب فيه، وقبض اليد الظالمة عنه، إذ هم مندوبون للتصرف بين أمره ونهيه، والوقوف عند رسمه وحده.
الخاتمة
وهذا عهد أمير المؤمنين إليك، وحجته لك وعليك، قد أنار فيه سبيلك وأوضح دليلك، وهداك وأرشدك وجعلك على بينة من أمرك، فاعمل به ولا تخالفه، وانته إليه ولا تتجاوزه، وإن عرض لك أمرٌ يعجزك الوفاء به، ويشتبه عليك وجه الخروج منه، أنهيته إلى أمير المؤمنين مبادراً، وكنت إلى ما يأمرك به صائراً، إن شاء الله تعالى.
وكُتِبَ في مستهل شعبان سنة ثمانين وثلثمائة.
وفيما يلي نبذة عن الخليفة والشريف والكاتب:
الخليفة العباسي الطائع لله
عبد الكريم بن الفضل المطيع لله ابن المقتدر العباسي، الملقب بأبي الفضل: من خلفاء الدولة العباسية بالعراق، أيام ضعفها وتسلط البويهيين عليها، ولد ببغداد سنة 317، ونزل له أبوه المطيع عن الخلافة سنة 363 في أيام عضد الدولة البويهي، وزوَّجه عضد الدولة ابنته سنة 369، وكان غرض عضد الدولة أن تلد ابنته ولداً ذكراً فيجعله ولي عهده، فتكون الخلافة في ولد لهم فيه نسب،  ومات عضد الدولة سنه 372، وخلفه ابنه بهاء الدولة، فقام بخلع الخليفة الطائع لله سنة 381، بعد أن مضت عليه في الخلافة 24 سنة، ولم يشفع له كونه زوج أخته، وعين محله الخليفة القادر بالله.
 وكان سبب خلع الطائع أن بهاء الدولة قلّت عنده الأموال وكثر شَغْبُ الجند عليه، وكان الوزير أبو الحسين بن المعلم قد غلب على بهاء الدولة وحكم في مملكته، فحسن له - من قبل - القبض على الطائع وأطمعه في ماله، وهوَّن ذلك عليه وسهَّله، فدخل بهاء الدولة في شعبان على الطائع مع أصحابه، فشحطوا الطائع بحمائل سيفه من السرير، ولفّوه في كيس، وأُخِذَ إلى دار السلطنة، وأكره بهاءُ الدولة الطائعَ على خلع نفسه، وأمر بالنداء بخلافة القادر بالله، واحتيط على الطائع بالله، وسملوا عيناه، ثم أُخِذَ فيما بعد إلى دار عند القادر بالله فبقي فيها مكرماً محترماً إلى أن مات سنة 393، وله 73 سنة، وصلّى عليه القادر بالله، وشيّعه الأكابر.
ورثاه الشريف الرضي فقال:
ما بعد يومك ما يسلو به السالي ... ومثل يومك لم يخطر على بالي
الشريف الرضي
محمد بن الحسين بن موسى، أبو الحسن، الرضي العلوي الحسيني الموسوي: أشعر الطالبيين، على كثرة المجيدين فيهم.
ولد سنة 359 ببغداد وكان والده الشريف أبو أحمد الموسوي، المتوفى سنة 400 عن 97 عاماً، نقيبَ أشرافها وأمير حجها، ويضرب المثل بتنسكه، ولي نقابة الطالبيين والمظالم والحج، ووقف الأوقاف الجليلة، وانتهت للشريف الرضي في سنة 380 نقابة الأشراف في حياة والده، وخلع عليه بالسواد، وجدد له التقليد سنة 403، له ديوان شعر، وكتاب المجازات النبوية، وكتاب مجاز القرآن،  ومختار شعر الصابئ، ومجموعة ما دار بينه وبين أبي إسحاق الصابئ من الرسائل، طبعت باسم رسائل الصابي والشريف الرضي، وحقائق التأويل في متشابه التنزيل، وخصائص أمير المؤمنين علي بن أبي طالب.
توفي سنة 406 في بغداد، وشعره من الطبقة الأولى رصفا وبيانا وإبداعا، واتسم بعزة النفس والطموح.
أبو إسحاق الصابئ
إبراهيم بن هلال بن إبراهيم بن زهرون الحراني: الأديب البليغ، نابغة كتاب جيله، صاحب الترسل البديع، والشعر النظيم.
ولد إسحاق في سنة 313 لأسرة تعرف بصناعة الطب، ومال هو إلى الأدب، فتقلد دواوين الرسائل والمظالم والمعاون تقليدا سلطانيا في أيام المطيع لله العباسي، ثم قلده معز الدولة الديلمي ديوان رسائله سنة 349، فخدمه وخدم بعده ابنه عز الدولة بختيار، وكان ابن عمه عضد الدولة يطمع في الاستيلاء على ملكه، فجرت بينهما معارك، وكان  أبو إسحاق الصابئ يكتب الرسائل من بختيار إلى عضد الدولة بما يؤلمه فحقد عليه، وفي النهاية حقق عضد الدولة طموحه وملك بغداد وقتل عز الدولة في سنة 367، وقبض على الصابئ  وسجنه وأمر بأخذ أمواله، وبقي في السجن إلى أن مات عضد الدولة وتولى الحكمَ ابنُه صمصام الدولة فأطلقه سنة 371، وتوفي في بغداد سنة 384 عن 71 عاماً.
كان أبو إسحاق الصابئ يحفظ القرآن ويشارك المسلمين في صوم رمضان، وكان صلبا في دين الصابئة، عرض عليه عز الدولة الوزارة إن أسلم، فامتنع.
وللصابئ كتاب التاجي في أخبار بني بويه، ألفه في السجن، وكتاب في أخبار أهله، و ديوان شعر، وكتاب الهفوات النادرة، وقد نشر الأمير شكيب أرسلان رسائل الصابئ في كتاب وعلق عليه حواشي نافعة.
ورثاه الشريف الرضي بقصيدة أولها:
أعلمت من حملوا على الأعواد ... أرأيت كيف خبا ضياء النّادي؟
وعاتبه الناس في ذلك لكونه شريفاً ورثى صابئاً، فقال: إنما رثيت فضله.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين