المد والجزر في تاريخ الإسلام -1-

 

حال العرب قبل الإسلام

كان العرب قبل الإسلام أمة كادت تكون منعزلة عن العالم، قد فصلتها عن العالم المتمدن المعمور البحار من ثلاث جوانب، وصحراء من جانب، وكانت من الانحطاط والانقسام والضعة والخمول بمكان لا تطمع فيه حينا من الدهر إلى غزو البلاد، ولا تحلم بالانتصار على الدول المجاورة لها في المنام، ولا تحدّث به يوما من الأيام.

هذا، ودولتا فارس والروم يومئذ سيدتا العالم، وزعيمتا الشرق والغرب، وقد أحاطت ممتلكاتهما بشبه جزيرة العرب، إحاطة السوار بالمعصم، وإنما زهد الفرس والرومان في فتح هذه الجزيرة لوعورتها، وقلة خيراتها ومواردها، وما يكلفهم ذلك من رجال وأموال، هم في غنى عن إنفاقها في هذه الصحراء المجدبة، وفي هذه الأمة الفقيرة، وإنما اكتفوا برقابتهم السياسية عليها، وبإماراتهم التي أنشئوها على ثغور هذه الجزيرة الواسعة ولهواتها (1).

هكذا كانت هذه الأمة التي ما كانت لتمثل دورا مدهشا في تاريخ العالم عن قريب، كانت أمة بدوية موهوبة - ولكن مواهب ضائعة - لا يرفع الناس بأفرادها في العراق والشام ومصر رأسا، إذا مروا بهم تجارا أو ممتارين (2)، ولا يحسبون لهم حسابا، ولا يهمهم شأنهم ألا ما يهم أهل المدن شأن الأعراب المستغربين في اللباس، والصورة واللسان، ولا يذكرونهم - إذا ذكروهم - إلا بذلاقة لسانهم، وفصاحة منطقهم، وشجاعتهم، وجودة خيلهم، ووفائهم، إلى غير ذلك مما قد تعرفه الأمم المتمدنة عن الأمم البدوية.

آراء رجال ذلك العصر في العرب

وإذا أردت أن تعرف منزلة العرب عند أهل العالم، قبل الإسلام، والنظرة التي كان ينظر إليهم بها جيرانهم في الشرق والشمال (3)، فاستعرض الآراء التي أبداها رجال ذلك العصر، من أهل البصر والمعرفة، ووافق عليها العرب أنفسهم وزادوا عليها، فمما حفظه لنا التاريخ من هذه الآراء، ما قاله إمبراطور الدولة الفارسية لسفراء المسلمين. جاء في كتاب البداية والنهاية لابن كثير الدمشقي بعدما ساق حديث رسل المسلمين في مجلس يزدجرد: قال: "فتكلم يزدجرد فقال: إني لا أعلم في الأرض أمة كانت أشقى ولا أقل عددا، ولا أسوأ ذات بين منكم، قد كنا نوكل بكم قرى الضواحي ليكفوناكم، لا تغزوكم فارس، ولا تطمعون أن تقوموا لهم، فإن كان عددكم كثر، فلا يغرنكم منا، وإن كان الجهد (4) دعاكم، فرضنا لكم قوتا إلى خصبكم، وأكرمنا وجوهكم، وكسوناكم، وملكنا عليكم ملكا يرفق بكم" فقال المغيرة بن شعبة: "أيها الملك، إنك قد وصفتنا صفة لم تكن بها عالما، فأما ما ذكرت من سوء الحال، فما كان أسوأ حالا منا، وأما جوعنا فلم يكن يشبه الجوع، كنا نأكل الخنافس والجعلان، والعقارب والحيات، ونرى ذلك طعامنا، وأما المنازل فإنما هي ظهر الأرض، ولا نلبس إلا ما غزلنا من أوبار الإبل وأشعار الغنم ، ديننا أن يقتل بعضنا بعضا، وأن يبغي بعضنا على بعض، وإن كان أحدنا ليدفن ابنته وهي حية، كراهية أن تأكل من طعامه، وكانت حالنا قبل اليوم على ما ذكرت لك، فبعث الله إلينا رجلا ... الخ (5) ".

وجاء في هذا الكتاب أيضاً: " .... وقد بعث أمير الفرس، يطلب رجلا من المسلمين ليكلمه، فذهب إليه المغيرة بن شعبة، فذكر من عظم ما رأى عليه من لبسه، ومجلسه، وفيما خاطبه به من الكلام في احتقار العرب، واستهانته بهم، وأنهم كانوا أطول الناس جوعا، وأبعد الناس دارا، وأقذر الناس قذرا وقال: ما يمنع هؤلاء الأساورة (6) حولي أن ينتظموكم (7) بالنشاب، ألا تنجسا من جيفكم، فان تذهبوا نخلّ عنكم، وإن تأبوا نُزركم مصارعكم ، قال : فتشهدت وحمدت الله وقلت: لقد كنا أسوأ حالا مما ذكرت حتى بعث الله رسوله ... الخ (8) ".

وفي هذا الكتاب أيضا: "وذكر الوليد بن مسلم: أن ماهان طلب خالدا ليبرز إليه فيما بين الصفين، فيجتمعا في مصلحة لهم، فقال ماهان: إنا قد علمنا أن ما أخرجكم من بلادكم الجهد والجوع، فهلموا إلى أن أعطي كل رجل منكم عشرة دنانير، وكسوة وطعاما، وترجعون إلى بلادكم، فإذا كان من العام المقبل بعثنا لكم بمثلها (9) ".

وهذا كله يدل على ما كان يساوي العرب عند الروم، وعلى ما كان لهم من قيمة ومنزلة عندهم.

--------

1 ـ لهواتها: أطرافها البعيدة.

2 ـ الممتار: من يجلب الميرة وهي الطعام.

3 ـ كان جيران العرب في الشرق الفرس وجيرانهم في الشمال الرومان.

4 ـ المشقة والبلاء.

5 ـ البداية والنهاية (ج 7 ص 41 - 42).

6 ـ الأسوار عند الفرس: القائد، جمعه أساور وأساورة.

7 ـ ينتظموكم: يشكوكم.

8 ـ البداية والنهاية (ج 7 ص 109).

9 ـ البداية والنهاية (ج 7 ص 10).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين