هو بطل الجهاد الأول والأعظم ضد الصليبيين، أسس دولةً من الخراب والأنقاض، وكانت دولةً قويةً باهرة، أقامَها على قواعد الشريعة، وحقَّق فيها العدل والأمان والعُمران، كان شديد الهيبة، عظيم السياسة، يُقرِّب العلماء، ويحمي الضعفاء، ويهابُهُ الأقوياء. هو رائد الجهاد الإسلامي في عصره، وقد استرد إمارة (الرُّها) من الصليبيين، وذلك أكبرُ نصرٍ حازَه المسلمون يومذاك، لأنه قَتل اليأسَ في نفوسهم، وأيقظ فيهم الحميّة، وأعطاهم الثقة باسترداد بقية المناطق. وهو ما سعوا إليه ونالوه، وصلاحُ الدين الأيوبيّ الذي نال الشهرة الأكبر في ذلك لأنه استعاد بيت المقدس من الصليبيين، رجلٌ عظيمٌ جداً، ولكنّه بنى على جهود عماد الدين، وابنه نور الدين من قبل، وأتمَّ المسيرة وحسناً فعل، إن لكلٍّ منهم فضلَه المشهود والمحمود والخالد، ولكنَّ فضل المتقدِّمِ أكبر.
كانت له معرفةٌ عميقةٌ بأحوال المسلمين، الجيِّدِ منها والسيِّئ، فتعامل معها ببراعةٍ وذكاء، وكانت له معرفةٌ عميقةٌ بالتناقضات بين القوى المختلفة، الموالية والمعادية والمحايدة، فعمل على توظيف هذه التناقضات لصالح مشروعه في طرد الصليبيين. وكانت هاتان المعرفتان من أهم أسباب نجاحه.
كان غايةً في الشجاعة، والإقدام، والقوة، والكرم، والكتمان، وكان صاحبَ قرارٍ ومفاجأةٍ ومبادرةٍ، لا ينام ولا يُنيم، سريع الحركة والانتقال. جمع إلى الطيبة الحذر، وإلى التواضع الهيبة، وكان يأخذ بالأسباب بعناية، ويُحسن التوكُّل على الله عزَّ وجلَّ أحسن التوكل.
أقبلَتْ عليه الدنيا من كل حدبٍ وصوب فزهد فيها، فكان زهده زُهد الواجد لا زهد الفاقد، وزهد المختار لا زهد المضطرّ، عشق الشهادة فاطّلع الله عز وجل على صدقه فأكرمه بها. عجز أعداؤه عن الظفر به في ميادين القتال، فكلّفوا واحداً من الباطنيِّين فاغتاله وهو نائمٌ في خيمته سنة (541? – 1146م)، وعمره أربعة وستون عاماً، ففاز ميتاً كما فاز حيّاً. إن المتأمِّل في هذا البطل الأُعجوبة يَشعر بأنه من أندر الرجال العظام في تاريخ الأمّة، بل يشعر بأن مجموعةً من أعظم الرجال النادرين اجتمعت في إهابه وشكّلت شخصيته.
قال عنه ابن كثير الدمشقي: (وقد كان من خيار الملوك، وأحسنهم سيرةً وشكلاً، وكان شجاعاً مقداماً حازماً. وكان من أشدِّ الناس غيرةً على نساء الرعية، وأجودِ الملوك معاملةً، وأرفقِهم بالعامة).
رحمك الله أيها البطل النادرُ المثال، لقد صدق فيك من وصفك بأنك قاتل اليأس في الأمة، وباعث الأمل فيها، وصانع المستحيل، ورجل المَهمَّات الصعبة، وأنك أعظم أبطال الجهاد الإسلامي وأوّلهم ورائدهم أيام الحروب الصليبية.
العــماد
رأيتك يا عمادُ فتى الجهادِ |
|
ورمزاً للشهامة والإيادِ |
ويرقى هامة الأجبال([4]) صقراً |
|
ويأنس بالمنام وبالسُّهاد |
***
كأنَّ الريح أهدتْهُ بساطاً |
|
وقالت: كُنْ له رهنَ انقياد |
***
سمعتك والمنايا الحمرُ تعوي |
|
وأثباجُ الغواشي في تمادي |
***
وأحسنَ لي أبي لمّا دعاني |
|
عماداً فالعمادُ من القياد |
***
وأهداك "الرها" ربُّ البرايا |
|
فقلتَ اليومَ وافاني مُرادي |
***
وها هو بعد ألفٍ في حمانا |
|
هتافٌ لم يزل فينا ينادي |
***
عمادَ الدين صار النصرُ ظلاً |
|
لخطوك في الجبال وفي الوهاد |
[1])) غرثان: جائع.
[2])) صادي: ظمآن.
[3])) النقاع: جمع نقع، وهو غبار المعركة.
[4])) الأجبال: جمع جبل.
[5])) حمائل السيف.
[6])) الأرياح: جمع ريح.
[7])) الآد: القوّة.
التعليقات
يرجى تسجيل الدخول