عماد الدين زنكي

هو بطل الجهاد الأول والأعظم ضد الصليبيين، أسس دولةً من الخراب والأنقاض، وكانت دولةً قويةً باهرة، أقامَها على قواعد الشريعة، وحقَّق فيها العدل والأمان والعُمران، كان شديد الهيبة، عظيم السياسة، يُقرِّب العلماء، ويحمي الضعفاء، ويهابُهُ الأقوياء. هو رائد الجهاد الإسلامي في عصره، وقد استرد إمارة (الرُّها) من الصليبيين، وذلك أكبرُ نصرٍ حازَه المسلمون يومذاك، لأنه قَتل اليأسَ في نفوسهم، وأيقظ فيهم الحميّة، وأعطاهم الثقة باسترداد بقية المناطق. وهو ما سعوا إليه ونالوه، وصلاحُ الدين الأيوبيّ الذي نال الشهرة الأكبر في ذلك لأنه استعاد بيت المقدس من الصليبيين، رجلٌ عظيمٌ جداً، ولكنّه بنى على جهود عماد الدين، وابنه نور الدين من قبل، وأتمَّ المسيرة وحسناً فعل، إن لكلٍّ منهم فضلَه المشهود والمحمود والخالد، ولكنَّ فضل المتقدِّمِ أكبر.

كانت له معرفةٌ عميقةٌ بأحوال المسلمين، الجيِّدِ منها والسيِّئ، فتعامل معها ببراعةٍ وذكاء، وكانت له معرفةٌ عميقةٌ بالتناقضات بين القوى المختلفة، الموالية والمعادية والمحايدة، فعمل على توظيف هذه التناقضات لصالح مشروعه في طرد الصليبيين. وكانت هاتان المعرفتان من أهم أسباب نجاحه.

كان غايةً في الشجاعة، والإقدام، والقوة، والكرم، والكتمان، وكان صاحبَ قرارٍ ومفاجأةٍ ومبادرةٍ، لا ينام ولا يُنيم، سريع الحركة والانتقال. جمع إلى الطيبة الحذر، وإلى التواضع الهيبة، وكان يأخذ بالأسباب بعناية، ويُحسن التوكُّل على الله عزَّ وجلَّ أحسن التوكل.

أقبلَتْ عليه الدنيا من كل حدبٍ وصوب فزهد فيها، فكان زهده زُهد الواجد لا زهد الفاقد، وزهد المختار لا زهد المضطرّ، عشق الشهادة فاطّلع الله عز وجل على صدقه فأكرمه بها. عجز أعداؤه عن الظفر به في ميادين القتال، فكلّفوا واحداً من الباطنيِّين فاغتاله وهو نائمٌ في خيمته سنة (541? – 1146م)، وعمره أربعة وستون عاماً، ففاز ميتاً كما فاز حيّاً. إن المتأمِّل في هذا البطل الأُعجوبة يَشعر بأنه من أندر الرجال العظام في تاريخ الأمّة، بل يشعر بأن مجموعةً من أعظم الرجال النادرين اجتمعت في إهابه وشكّلت شخصيته.

قال عنه ابن كثير الدمشقي: (وقد كان من خيار الملوك، وأحسنهم سيرةً وشكلاً، وكان شجاعاً مقداماً حازماً. وكان من أشدِّ الناس غيرةً على نساء الرعية، وأجودِ الملوك معاملةً، وأرفقِهم بالعامة).

رحمك الله أيها البطل النادرُ المثال، لقد صدق فيك من وصفك بأنك قاتل اليأس في الأمة، وباعث الأمل فيها، وصانع المستحيل، ورجل المَهمَّات الصعبة، وأنك أعظم أبطال الجهاد الإسلامي وأوّلهم ورائدهم أيام الحروب الصليبية.

 

                                                         العــماد

 

رأيتك يا عمادُ فتى الجهادِ
وكفئاً للتحدِّي والتصدِّي
وأشهادي الميادين اللواتي
تنام بمقلةٍ وتظلُّ أختٌ
وسيفاً صائلاً لا غمد يأوي
هماماً همُّهُ فوقَ الثريّا
ويأتي الحرب مشتاقاً إليها
ويشرب من نجيع الهول كأساً

 

 

ورمزاً للشهامة والإيادِ
وأشهادي الحواضر والبوادي
رأتْك مظفَّراً في كل نادي
لها يقظى لترصُد كل غادي
إليه فغمده هام الأعادي
وفي الجلَّى يصير إلى ازدياد
ويُسرع وهو غرثانٌ(
[1]) وصادي([2])
ويلقى في النقاع(
[3]) أحبَّ زاد

 

ويرقى هامة الأجبال([4]) صقراً
وأما نومه فعلى فراشٍ
فإن كان السهاد أجال فكراً
يناجي الله خِرْ لي يا إلهي
ويمضي بعد ذاك إلى خِباءٍ

 

 

ويأنس بالمنام وبالسُّهاد
من الصخر المدمَّى والرماد
وأوقد فيه أقباس الزِّناد
فما تختار لي فوق اجتهادي
ليسجد والدموعُ على النجاد(
[5])

 

 

                                                            ***

كأنَّ الريح أهدتْهُ بساطاً
فلا تعجبْ إذا ما عاش يطوي
يصلّي الصُّبح في ربع موالٍ
ومن صارت له الأرياحُ(
[6]) خيلاً
وشمساً إن تغبْ عادت بأبهى
ولا تعجبْ فما للسيفِ مأوى
وما للشمس إعياءٌ ووهنٌ
كذاك عماد كان ولا أُغالي
وفي الضرّاءِ أحزان البواكي

 

 

وقالت: كُنْ له رهنَ انقياد
بلاد الله من جبلٍ ووادي
ويُحيي الليل في ربع معادي
يكنْ كالخضرِ في طيِّ البلاد
حلاها في العلوِّ والاتِّقاد
من الإعياء في ساحِ الجِلاد
ولا مأوىً لريْثٍ أو رُقاد
وأشهادي له بِيضُ الأيادي
وفي السرّاء أفراح الشوادي

 

 

                                                            ***

سمعتك والمنايا الحمرُ تعوي
تقول لها: دعيني إنَّ قلبي
أماتت فيَّ خوفَ الموتِ حتّى
"فأيّاً شئتِ يا طُرقي فكوني"
سأقطعها ويحميني يقيني
سيفدي المسلمين دمي وملكي
ووعد الله في سمعي نداءٌ
بأنَّ المسلمين إلى انتصار

 

 

وأثباجُ الغواشي في تمادي
مليءٌ بالمُنى الخُضر الجياد
غدا عندي دهاقاً من شِهاد
سبيلاً من رياضٍ أو قتاد
وحُبّي للشهادة خير حادي
وما لي من طريفٍ أو تِلاد
وفي عيني وعقلي والفؤاد
وأوله "الرها" وأنا المُفادي

 

 

                                                                           ***

وأحسنَ لي أبي لمّا دعاني
به أدركتُ غُرّان المزايا
شببت على الفصائل مذ يفاعي
كانّ اسمي إلى الحسنى دعاني
ويهدي اللهُ من يأوي إليه

 

 

عماداً فالعمادُ من القياد
ومنها في الوغى صَوْلي وآدي(
[7])
فطابت نيّتي وزكا اعتقادي
فللّه انقيادي واجتهادي
حفيّاً صادقاً نهج الرشاد

 

 

                                                                           ***

وأهداك "الرها" ربُّ البرايا
وكانت للصليبِ بغير حقٍّ
أضافت للغلاب هدىً وبرّاً
وبعضُ النصر يأتي وهو عارٌ
وخطَّ الدهرُ أسطرهُ بنورٍ

 

 

فقلتَ اليومَ وافاني مُرادي
فعادت وهي جذلى للعماد
وحفظاً للعهود وللذياد
ونصرُك للنبالة والسداد
وبالإجلال جزلاً لا المِداد

 

 

                                                                           ***

وها هو بعد ألفٍ في حمانا
بني الإسلام موتوا كي تفوزوا
وسيروا سيرتي فالنصرُ حقٌّ

 

 

هتافٌ لم يزل فينا ينادي
بدنياكم وفي يوم المعاد
لعُشّاق السيوف وللجياد

 

 

                                                                           ***

عمادَ الدين صار النصرُ ظلاً
وآخِرُ ما انتصرت به اغتيالٌ

 

 

لخطوك في الجبال وفي الوهاد
سموْتَ به إلى السبعِ الشداد

 

 

[1])) غرثان: جائع.

[2])) صادي: ظمآن.

[3])) النقاع: جمع نقع، وهو غبار المعركة.

[4])) الأجبال: جمع جبل.

[5])) حمائل السيف.

[6])) الأرياح: جمع ريح.

[7])) الآد: القوّة.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين