وقفات مع الاستفزازات الأوربية لتركيا (2-2)

 

إن الحالة التركية الأوربيّة إحدى أهم المؤشّرات لصورة العلاقة المستقبلية بين العالم الإسلامي والغرب، وفي الجانبين من يمكن أن يساعد في حل الأزمة الراهنة، وفيهما أيضا من يمكن أن يسارع للانزلاق في حرب دينية أو حضارية مفتوحة. 

إن الشعوب الأوربيّة -في تقديري- وحتى الشعب الأميركي لازالت بعيدة إلى حد كبير عن أجواء الصراع هذه، وهي غير متحمّسة ولا راغبة في استذكار التاريخ ولا العودة إلى الماضي الذي كانت تحكمه الكنيسة والشعارات الدينية، لأنه يمثّل لهم مرحلة مظلمة وبائسة، وقد بذلوا الكثير الكثير على طريق التحرر والانعتاق حتى وصلوا إلى «أستاذية العالم» في صناعة الدولة الحديثة بقيمها الجديدة وما تبع هذا من طفرات هائلة في مجال العلم والصناعة والتنمية الشاملة.

نعم هناك دوائر ولوبيات قد تستفيد من استعادة التاريخ وإذكاء روح «الحروب الصليبيّة» لكنّها بكل تأكيد لا تمثّل تلك الشعوب، ولا الثقافة السائدة هناك، وقد رأينا بشكل واضح كيف تعاطفت مجموعات وشرائح واسعة من الأميركيين مع المسلمين بعد تصريحات ترامب، حيث نظروا إليها على أنها انقلاب على القيم الأميركية نفسها أكثر من كونها عدوانا على المسلمين. إنه من المؤسف حقا أن لا نجد من دولنا العربية والإسلامية وحتى من تركيا اهتماما جادّا بهذا الملف، على خلاف اللوبيات الصهيونية ثم الإيرانية التي تنشط بشكل استثنائي للتأثير على الرأي العام بل والضغط على مركز القرار نفسه.

إن عدد الأقليات والجاليات العربية والإسلامية في الغرب أكثر بكثير من اليهود والإيرانيين، لكنها مجتمعات ضائعة وغير موجّهة، وكنت قد كتبت في هذا الموضوع على صحيفة العرب القطريّة (المسلمون في الغرب حضور في الشارع وغياب في المشروع) بعد جولة ليست بالقصيرة في بعض الدول الأوربيّة.

إننا حينما ننجح في مخاطبة الشعوب الأوربية وصناعة الرأي العام فيها فإننا نسهم بالنتيجة في تشكيل الإطار السياسي الحاكم، لأننا نخاطب شعوبا حرّة ولها القدرة على المشاركة الفاعلة في القرار بل وفي صاحب القرار، وإن أخطر ما يمكن أن نقع فيه في هذا المجال هو أن نستفز هذه الشعوب بخطاب يؤكّد لهم مخاوفهم منّا نحن المسلمين، خاصة إذا اقترن هذا الخطاب ببعض العمليّات الإرهابيّة العبثيّة والتي تتبناها بعض المجموعات المنحرفة المنتسبة إلى الإسلام، كما حصل هذا الأسبوع في وسط مدينة لندن.

إن تركيا بحاجة أن تُطمئن الشعوب الأوربية بحقيقة مشروعها، وأن نهوضها يشكل رافدا كبيرا لأوربا ولاقتصادها ولا يمكن أن يكون مصدر قلق لها، وعليه فإن الرد الصحيح على الإساءات التي توجهها بعض الحكومات الأوربية إنما يكون بإحراج هذه الحكومات أمام شعوبها، وليس بالخطاب الذي يعزز من شعبية هذه الحكومات.

إن تركيا أيضا بحاجة إلى تمتين صلتها بالعالم العربي والإسلامي خاصّة السعوديّة ودول الخليج ليس للاستقواء بهم على أوروبا، بل لإقناع الأوربيين بأن هناك مصالح مشتركة كبيرة يمكن تحقيقها بدلا من الصراعات الدينية أو القومية، كما أن تصوير أردوغان (سلطانا) أو (أميرا للمؤمنين) كما يحلو لبعض الإسلاميين عندنا يسيء لعلاقة تركيا مع الدول العربية والإسلامية ويخدم اللوبيات التي تعمل ضدّه في الغرب.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين