ظاهرة «الشرعيين» في الجماعات الدينية المسلحة (3-3)

 

إن فكرة «تطبيق الشريعة» بحدّ ذاتها قابلة -مع حالة الجهل العام وضعف الإمكانات وعدم الاستقرار- لأن تكون آلة لتشتيت الثورة وإشاعة التناحر بين فصائلها الإسلامية، فضلا عن غيرها وتسميم الحاضنة الشعبيّة وإصابتها بالدوار نتيجة للخوف من المجهول والشعور بالقلق خاصة بعد التطبيقات السيئة والمشوّهة للشريعة وحالة الاقتتال بين «الشرعي» و «الشرعي» وفق خلافات عقدية وفقهية غير مفهومة لدى عامة الناس.

فإذا أضيف إليها مبدأ «السلطة» و «البيعة» و «السمع والطاعة» فنحن أمام أشكال مختلفة ومشوهة لدول متجاورة ومتناحرة، وبالتالي فالقانون الطبيعي الذي يحكم مثل هذه الحالة هو قانون «البقاء للأقوى»، وحيث إنها طارئة أو وهمية ولا تملك مقوّمات البقاء الذاتي أصلا ولا حظّا من الاعتراف الدولي والذي هو شرط أساس في بقاء أي دولة معاصرة، فإن هذا الصراع سيكون صراعا عبثيا بحتا، ليمهّد الطريق في النهاية للقوى المتمكنة إقليميا وعالميا لرسم مصالحها على هذه الأرض بعد أن تهدأ قعقعة السيوف، وتختفي تلك الرايات، وتنتهي نشوة الجلد والرجم وإقامة الحدود ونبش القبور، والتي لم تكن في الحقيقة سوى مظاهر مستعجلة وموهومة للتعبير عن القوة والسيطرة.

نعم إن الشرعيين ليسوا كلهم سواء، لأن الفصائل التي ينتسبون إليها ليست سواء أيضا، كما أن مؤهلاتهم واستعداداتهم مختلفة ومتباينة بطبيعة الحال، وقد تلمس في بعضهم قدرا لا بأس به من الوعي والواقعية والمرونة السياسية والتفاوضية، لكن أصواتهم تضيع في غمرة الحماس والمزايدات الطوباوية الجوفاء، وربما يشعر كثير من هؤلاء بالحرج لأن أفكارهم لا تعبّر عن المستوى المطلوب للتمسك بثوابت الشريعة التي تدندن حولها خطابات الفصائل الأخرى، كما أنهم سيخسرون القدرة على تجنيد الشباب المندفع نحو الجنّة والحور العين، والذين لا تستهويهم في العادة الخطابات السياسية والدبلوماسية واستيعاب الحاضنة الشعبية والعلاقات الخارجية، ومن ثَمّ فهم يجدون طريقهم الأسهل للجنة عبر الخطابات التعبوية الواضحة، التي لا تتطلب جهدا عقليا ولا اجتهادا دينيا.

لا أدري كيف يقرأ «شباب الحور» هؤلاء ما ورد في نصوص القرآن والسنّة المطهّرة من أفق سياسي عريض لإدارة الواقع وبناء التحالفات والمفاوضات وربما التنازلات بما تقتضيه المصلحة العامة، وفق القراءة الدقيقة لتوازن القوى ومتطلبات المرحلة، فهذا النبيّ الكريم يوسف -عليه السلام- يرضى أن يكون ركنا في حكومة مصر التي تدين بدين مخالف لدينه {ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك}، وهذا نبينا الأكرم -عليه الصلاة والسلام- الذي يقيم دولته الأولى بالتحالف الصريح مع القبائل اليهودية، ثم يهمّ بإعطاء ثلث ثمار المدينة للقبائل المشركة التي تحاصره بسيوفها يوم الأحزاب لعلها ترجع عن عدوانها، ثم قبوله للتحالف مع خزاعة المشركة لمواجهة حلف قريش وبكر.

فكيف يفهم هؤلاء الشرعيون «عقيدة الولاء والبراء» و «المحافظة على الثوابت» و «تطبيق الشريعة» أكثر مما فهمها ومارسها رسول الله والأنبياء السابقون -عليهم جميعا الصلاة والسلام-.

إن المشكلة التي يعاني منها هؤلاء والشباب المندفع وراءهم وأمامهم هي القراءة المقطّعة للنصوص الدينية، النصوص المبتورة عن سياقها، وعن غاياتها ومقاصدها، والتي تدفع للمزيد من المغامرات والمجازفات، ثم التشبّث بمعاني الثواب الأخروي والابتلاء القدري بعد كل خراب ودمار.

الحلقة السابقة هـــنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين