ما يقال عن الإسلام للأستاذ عباس محمود العقاد

 

اختارها وأعدها للنشر وصححها: مجد مكي

1 – سبحانك ربي علَّمت بالقلم، علَّمت الإنسان ما لم يعلم، ولك الحمد على ما أنعمت وأوليت، وعلى محمد النبي الأمي الصلاة وأفضل التسليم.

أما بعد، فقد سئل ناقد قرأ كتب الجاحظ عن نقده لها، فقال: إن كتب الجاحظ تعلم العقل قبل أن تعلم الأدب أي أنها غذاء عقلي قبل أن تكون غذاء فنياً، وهي في الحقيقة جمعت أعلى صور البيان مع سعَة الآفاق الفكرية وهي تشقق المعاني وتفرعها في أجمل صورة من صور الفن، فهي غذاء الذوق ودقة المنطق العقلي المستقيم، وقد تنوعت كتابات الجاحظ، فكتب في التاريخ وفي الاجتماع وفي الفلسفة بلغة الأديب التي تأتي بأدق المعاني البكر، وتضعها في زينة اللفظ الجميل الجزْل المصقول، وفي كثير من الأحيان في لفظ مزدوج موزون.

ولعلنا لو سألنا ناقداً ينهج منهاج ناقد القرن الثالث الهجري عن كتابة عباس محمود العقاد، وكتبه لأجاب بما أجاب به صاحبه في القرن الثالث: أن كتب العقاد تغذي العقل، وتعلم الفكر، ويتذوقها ذو الذوق البياني السليم.

لقد جمعت كتابة العقاد بين عمق التفكير وجمال التعبير، وأحياناً تقرؤها، فتقرأ لعالم كبير يربط بين المعاني ربطاً محكماً دقيقاً، بحيث يأخذ بعضها بحجز بعض، وفي الوقت نفسه ترى فيها صوراً بيانية رائعة، وأحياناً تقرؤها فتحس بجمال التعبير يعلو حتى تظن أن دقة التفكير قد ذهبت، ولكن ما تتكشف لك من بعد رواء اللفظ المعاني الأبكار.

2 – لقد عرفت العقاد منذ أكثر من أربعين سنة، عرفته قارئاً له، ثم عرفته صديقاً، كنت أقرأ للعقاد في السياسة منذ سنة 1921، ثم قرأت له في الأدب، وأول ما قرأت له في الأدب (كتاب الفصول)، فرأيت نوعاً من الأدب، لم أقرأه لغيره من الأدباء، وجدت فيه علماً وأدباً، وجدت فيه ثروة من الألفاظ والأساليب الفنية، ووجدت فيه ثروة من العلم، فتفتح عقلي وقلبي لقراءته، ثم تتبَّعت الفصول الأدبية التي كان يخصص لها يوماً في الأسبوع في الصحيفة التي يكتب بها، وقرأت له مراجعات في الأدب والحياة، وقرأت له ديوان الأربعين الذي أخرجه، فوجدت شعره كنثره، تحليلاً دقيقاً عميقاً، ولفظاً جميلاً، وعرفت من شعره لماذا أعجب بابن الرومي حتى كتب فيه كتاباً، ولم يعجب بالبحتري، كما أعجب بابن الرومي، فقد كان لابن الرومي تحليل عميق في شعره، ولم يكن مثله للبحتري مع بلوغه أعلى درجات الصياغة والصور البيانية الرائعة، وعلمت من نثره وعمق المعاني فيه ودقة التعبير لماذا أعجب بسعد زغلول الكاتب والخطيب، فوق إعجابه به زعيماً مجاهداً.

3 – ولقد ارتبطت بالعقاد صديقاً عندما قدَّمت له كتابي في (الخطابة) في سنة 1934، فقد كتب فيه صفحة كاملة في صحيفة (الجهاد) التي كان هو كبير محرِّريها في ذلك الإبان، وقد نقد الكتاب نقداً علمياً دل على قراءة عميقة، وإن كان التقريظ أكثر من التفنيد، وقد أعجب به في الحالين، وقد همَّ صديقنا الأستاذ سيد قطب بالرد عليه في تفنيده ولكني لم أقتنع بالرد كما اقتنعت بتفنيد العقاد لما فنَّده، لقد كانت نقطة النقد في بيان تأثير الألفاظ المحولة بالإبهام، أهي أبلغ تأثيراً، أم الألفاظ الواضحة المبنية المفصلة؟. فسجلت في كتابي أن الواضح أقوى تأثيراً. والعقاد رحمه الله تعالى رأى كما روى جوستاف لوبون: أن الألفاظ العامة التي يشوبها بعض الغموض أقوى تأثيراً، ومثَّل لها بوقت الغبش إذ أن نوره الذي يخالطه بعض الظلمة يكون له أثر في النفس أقوى من الشمس في وضح النهار، وقد اقتنعت بتفكيره كل الاقتناع بل أني لاحظت ما لاحظ في أثناء التجارب، ولكن كسلت عن التغيير بعد أن أخذ الكتاب طريقه.

وإن الفكرة في ذاتها واضحة التطبيق فأكثر الخطباء الذين يقودون الجماهير يعمدون إلى الألفاظ التي لها عموم، ولا يمكن أن يتم لها حصر، وتعيين، وتفعل تلك الألفاظ ما يفعله السحر في النفوس، وروعة الغبش، والصبح يتنفس.

ومن ذلك الوقت التقت نفسي بنفس العقاد، وفكري بفكره، وانعقدت بيننا مودة صادقة لم يقطعها بعد في اللقاء الشخصي، لأن اللقاء الأدبي والروحي مستمر، ولقد كان يقوي بيننا الاتصال الروحي إلى درجة أني كنت أفكر في أمر، وتجول بنفسي خواطر حوله، وأتمنى لو سجلت هذه الخواطر، ثم أقرأ بعد ذلك مقالاً للأستاذ العقاد، فأجد كثيراً من هذه الخواطر قد سجلها يراعه البارع، وأحياناً يكتب في موضوع عام فيبلغ بي الاتحاد النفسي أن أعتقد أنه جاء بما عندي في نفسي، وإن لم أفكر فيه من قبل، والأفكار كالأشخاص، فقد تلتقي برجل لم يكن لك به سابق معرفة، ولكنك مع ذلك تحس بأنك تعرفه من قبل للالتقاء النفسي بينكما، فكذلك الأفكار والآراء، يتلقاها القارئ، فيحس بقوة تأثيرها في نفسه بأن الكاتب يأتي بما عنده، وإن لم يكن قد قرأها من قبل، أو جالت بخاطره.

4 – لقد كان لي بالعقاد صحبة فكرية، وخصوصاً أنه انصرف في الشطر الأكبر من حياته إلى الكتابة في الإسلام، وكنت أخالفه في بعض كتاباته،ولكنها مخالفة الصاحب لصاحبه، فإن اختلفا في فكرة لا يختلفان في منهاجهما، ولا في قلوبهما، ولا في أكثر الآراء.

لقد اتجه العقاد إلى دراسة الإسلام منذ نشأته، ثم صار كاتبه المدافع عنه في أشطر حياته، فإنه منذ رأى إمام الجيل الأستاذ الشيخ محمد عبده، وهو صبي، وسمع كلمات منه وجَّهته، وفتحت قلبه وأمله، قد اتجه إلى الإسلام، حباً في دينه، وحباً في إمامه، فأحب الإمام وأصحابه، واستولى على قلبه من بعده الصاحب الأول للإمام: سعد زغلول الذي كان تلميذه البكر، والذي حمل ما كان يحمله الإمام في التعليم والتوجيه.

كتب العقاد عن الإسلام معرِّفاً، مبيِّناً لحقائقه، ومدافعاً عنه، ومجادلاً من يتهجمون عليه من كتاب الفرنجة وكتاب العرب، ولم يعتره وهن، ولا مداهنة في القول مهما يكن مكان مخالفه في المجتمع.

وكانت دراسته للإسلام مقرِّراً ومدافعاً دراسة موضوعية يدرسه كما هو في القرآن والسنة، وكما انعقد عليه إجماع العلماء، لا يتجه إلى إخضاع الأحكام الإسلامية لأطوار المجتمع، بل يعتبرها حاكمة للمجتمعات وليست محكومة بها، فلم يكن يتصور الإسلام خادماً للمجتمعات يسير وراء مخدومه كما يهوى بعض الكتاب، بل يتصوره حاكماً عليها، وينبغي أن تخضع له ولا يخضع لها.

5 – ومن أعظم الآثار الإسلامية التي دبجها قلم ذلك الكاتب العبقري: – العبقريات – وقد اتجه العقاد في كتابتها إلى تجلية شخصية كل عبقري التي تبدو من بيان خواصه النفسيَّة والدينيَّة التي اختصَّ بها، فلم يسرد تاريخ العبقري، بل إنه يبدي ملامحه الموضحة له، وإنه بهذا كان يظهر العبقري بما اختصَّ به من مواهب وخلق، وعلم وفكر، ولعله لو اتجه إلى السرد التاريخي لاختفت تلك الصورة الموضحة لشخصه وهو يريد أن يكشفها، لا أن يخفيها، ويريد أن يقرِّب للناس معاني الرجل، كما يوحي بها الكلم والفعل.

 ما كان يهمه من أخبار الصدِّيق ما قامت به جيوشه من فتوح، ولكن يهمه روحه الطاهرة التي تتجلى في وصاياه للجيوش وإرادته الحازمة في وقفته للردة، وشدَّته في الحق التي تتجلى في خشونته في القول، مع أحب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وهو عمر رضي الله عنه، ويصور بذلك التقاء الرفق بالحزم، والقوة بالرحمة، والعزة بالطيبة.

وإن منهاج العقاد في العبقريات هو المنهاج الذي يوصله لغايته، وهي تصوير معاني الرجال وملامح شخصياتهم، فما كان ليصل إلى هذه الغاية إلا بهذا المنهاج الذي اختاره، وارتضاه.

وليس من حق أحد أن يلزم كاتباً بمنهاج معين، ما دام منهاجه يوصله إلى غايته، وهدفه من كتابته من غير التواء في التفكير، ولا تقطيع لأوصال القول، بل تكون الموضوعات متآخية، كل موضوع يفتح الطريق للذي يليه، حتى يصل الكاتب إلى هدفه من غير أن ينبتَّ به الطريق، أو يلتوى عليه المقصد أو النتائج.

ولم يلاحظ أحد من الذين قرأوا العقاد في عبقرياته أنه قد اضطربت الأفكار فيما يقرأ أو التوت فيه مقدمةٌ على نتيجتها، ولذلك نقرر هنا أن العقاد يصل بمنهاجه إلى ما يريد من غير اعوجاج، وبطريق مستقيم.

وإن الذين يحسبون أن ثمة منهاجاً للكتابة في تاريخ الرجال أو في العلوم يكون كمنطق أرسطو يلتزم في أقيسته وأشكال براهينه، ليكلفون الكتَّاب شططا، ويقيدونهم بشروط قد يكون التزامها مقيِّداً للفكر، فوق أنها إلزام بما ليس بلازم.

6 – ولقد لاحظت أن بعض الذين يتصدون لنقد الكاتبين يفرضون على غيرهم منهاجاً، وبدل أن ينقدوا في الموضوع يسهل عليهم أن ينقدوا الشكل، كما يتخلص المحامي من عناء الدفاع بالدفع الشكلي.

وعند هؤلاء النقد أكثر من الرغبة في التحقيق، وأذكر أن كاتباً لم يقرأ من كتاب إلا مقدمته، ويعلق بكلمة في المقدمة، وأخذ يمط في القول، ويبدي ويعيد، مع أن ما قاله مردود عليه في موضوعات الكتاب، ولكنه يريد أن يولد نقداً حيث لا موضع له، أو يكسل عن القراءة، ويقف عند كلمة عارضة، ويوسع في معناها، بلا متسع فيها.

وأذكر ثانية أن كاتباً يشغل منصباً كبيراً يشغل كرسي الأستاذية في إحدى الجامعات العربية نقد كتاباً لي في (ابن تيمية) والكتاب يقع في 550 صفحة، فكان نقده في المنهاج، ذلك أنني كتبت في حياة ابن تيمية، قبل أن أكتب في عصره، وأخَّرت الكتابة في العصر عن الكتابة في التعريف بالشخص، وشدَّد في اللوم، لأني خالفت المنهاج الذي ظن أنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وعجبت من تشديده في اللوم، لأني لا أفهم أن المنطق يسوغ لإنسان أن يكتب في عصر عالم، قبل أن يعرف شخص العالم وأباه وأمه وتعلمه، وانتقل عجبي إلى استضحاك من ذلك النقد الصغير، ولو كان الكاتب يشغل منصب أستاذ في إحدى الجامعات العربية غير المصرية، وهو منصب كبير.

إن المنهاج ليس واحداً أو طريقاً واحداً، بل يتعدُّد بتعدد الموضوعات والغاية، والصورة الجامعة أن تكون الأبواب والفصول متناسقة غير متنافرة، وكل نقد يوجه في ذلك يجب أن يكون أساسه موضوعياً، من حيث عدم تماسك الموضوعات، لا لمجرد أن ذلك منهاج الغربيين أو غيرهم، وليس العقاد دون الذين وضعوا المنهاج لمن لا يتكلمون إلا في المنهاج.

7 - لا أحسب أني أستطرد عندما أتكلم ذلك الكلام الموجز عن كاتب العربية وأنا أكتب في كتاب من كتبه، وقبل أن أعرض للكتاب أنهي كلمتي عن كاتبه، بأن العقاد كان مستقيم النفس والفكر والخلق استقامة قامته المديدة، وكان يكتب لنفسه، ولا يكتب لغيره، فهو لا يكتب لإرضاء هوى الناس، أو رجاء مثوبة من الناس، ولكنه يكتب ما يراه الحق، وما يعتقد أن فيه نفعاً للناس، لا يهمه غضب الغاضبين، ولا مسايرة الحاكمين، ولكن يهمه أن يكتب ما يكون استجابة لضميره الذي بين جنبيه، وقد تحمل آلام السجن، والتقتير عليه في الرزق في سبيل ذلك، ولم يتحول من اليمين إلى الشمال، ولا من الشمال إلى اليمين، بل سار في خط مستقيم لا عوج فيه ولا التواء.

وإن أبلغ ما نقوله للكاتب العظيم في قبره هو ما قاله صفيُّه المرتضى سعد زغلول يخاطب قاسم أمين صديقه وهو واقف على قبره: (يا قاسم غيرك يكتب ليرضى، وأنت تكتب لتنفع).

8 – ونعود من بعد ذلك إلى الكلام في كتاب العقاد: (ما يقال عن الإسلام) فالكتاب كما يدل عنوانه: موضوعه مايكتبه الغربيون أو غير المسلمين عن الإسلام، و قد ابتدأ ببيان طوائف الكاتبين عن الإسلام، فقسمهم أولاً إلى طائفتين إحداهما مخلصة، والأخرى باغية، فالمخلصة يدخل في عمومها الذين يطلبون معرفة الإسلام، ليعرفوا حقيقته، لا يقصدون إلا معرفة الحق، ويدخل في عمومها الذين لم يرتضوا دينهم، ورأوا في الإسلام ما يرتضونه، و هؤلاء يتكلمون في الإسلام بحماسة، ولكن كلامهم لا يخرج عن الاقتناع بالحق، من غير أن يذعنوا له ليكونوا في زمرة المؤمنين بالله ورسوله.

والطائفة الباغية ذكر أنها متعددة الأصناف والأشكال، منهم من يحسبون الدين كالجنس والوطن، يطعنون في الإسلام لأنه ليس عندهم فهم في عصبية جاهلية مستحكمة، حتى إن منهم من يتكلم في المسيح عليه السلام ناقداً بأنه سامي يهودي.

ومن هذه الطائفة الباغية: الماديون الملحدون الذين يعمُّون بهجومهم كل الأديان، ويخصون الإسلام، لأنه بأحكامه الاجتماعية يقف حائلاً دون بغيتهم.

ومن هذه الطائفة: المبشرون، فإن هؤلاء في سبيل غايتهم يطعنون في الإسلام، ولا يطلبون الحقائق التي جاء بها محمد عليه الصلاة والسلام، بل يطمسونها، ويريدون أن يطفئوا بأقوالهم نور الحق.

ويقرر رضي الله عنه في هذا التمهيد أن أخطر المغرضين جميعاً طائفتان تملكان من وسائل الدعاية ما ليس لطائفة أخرى من طوائف المغرضين، وهي طائفة الصهيونية وطائفة الاستعمار.

وإن ذلك صدق لا ريب، وقد يتخذ الاستعمار الطوائف الأخرى المغرضة سبيلاً لتحقيق أهدافه.

9 – وإن الكتاب قسمان: قسم هو تلخيص وتعليق لأبحاث من كتبوا عن الإسلام، ويبلغ ذلك نحو عشرين بحثاً ورسالة، والآخر بحوث للعقاد فيها ردود على بحوث كتبت، أو أفكار انتشرت عن الإسلام، وهي باطلة، وكلا القسمين يدور حول موضوعات مختلفة منها ما هو عن الألوهية في العقيدة الإسلامية، وعن أثر الإسلام في أفريقية، وأثره في سود أمريكا، وعن الدين والسياسة في باكستان، وبعضها عن بعض رجال الإسلام، فيكتب عن بطولة صلاح الدين مقارناً بخلق خصومه، ثم يكتب عن الدعوة الإسلامية وعن الرق في الإسلام، وعن الإسلام والجماعة المتحدة، والإسلام والنظم الاجتماعية، وعن القرآن والإصلاح في الإسلام، وبعضها عن تفسير القرآن في العصر الحديث، والصيام في القرن العشرين، وقد يكتب مناقشاً وباحثاً ومدافعاً.

وهو في كتابته تعليقاً أو إنشاء يتجه إلى دراسة الإسلام دراسة موضوعية لا يحاول الخروج عن أصوله، بل يعمل على الدعوة إلى أصوله من غير انحراف، ولا تغيير ولا تبديل، لأنه يدعو إلى الإسلام كما هو لا كما يريده المنحرفون عنه.

10 – ولنضرب مثلاً بكلامه عن الإسلام في النظم الاجتماعية، فهو يقول: (إنما أقام الإسلام قواعد الاقتصاد التي يقام عليها كل نظام صالح، ولا يتصور أنها تناقض نظاماً منها كان بالأمس أو يكون بعد زمان طويل أو قصير).

قرر الإسلام أن يمنع الاحتكار وكنز الأموال، وقرر أن يمنع الاستغلال بغير عمل، وقرر أن يتداول المجتمع الثروة، ولا تكون دُولة بين الأغنياء، وقرر أن يكون للضعفاء والمحرومين حصة سنوية لا تقل عن جزء من أربعين جزءاً من ثروة الأمة كلها، وقد يزاد عليها بأمر الإمام وإحسان المحسنين.. وإذا تقرر هذا في مجتمع إنساني فلا حرج عليه أن تخذله نظاماً من نظم المعيشة الاقتصادية كيفما كان، ولا خوف على مجتمع قط يمنع فيه الاحتكار والاستغلال، وإهمال العاجزين عن الكسب والعمل، ومن شاء فليسم هذا النظام بما شاء) ( ).

وقد قال العقاد أيضاً في التعليق على بحث نشر في إحدى المجلات الفرنسية عن مسايرة المبادئ الإسلامية للنظم الاقتصادية الحديثة: (التضارب بين نظام رأس المال، و نظام المادية الاقتصادية خير جواب على من يطالبون الإسلام بمجاراة النظم الحديثة كلما تقلبت بها أطوار الاجتماع، فقد كان نقاد الإسلام بالأمس يزعمون أن حياة الأمم رهن بنظام المعاملات التي تقوم على الشركات والمصارف، واستغلال رؤوس الأموال والأرباح، وإن الإسلام يغل أيدي المسلمين، ويعوق حركة التقدم؛ لأنه لا يقيم المعاملات كلها على هذا النظام، ثم شهد العالم نظاماً آخر ينكر رؤوس الأموال أصلاً، ويبطل الملكية مالاً وعقاراً،ويطلب من الإسلام أن يصنع صنيعه في مواجهة الأزمات العصرية، ولا يعلم أحد إلى أيِّ مدى يطول بها البقاء، وعلى أيِّ حال من الأحوال تتطور بين اليوم وبين هذا الغد القريب... فكيف كان الإسلام يؤدي حق الدين لو أنه تقلب بين هذه النظم الطارئة، وكيف يجمع بينها أو يحض المسلمين على اتباعها في مواطنها وعهودها ) ( ).

هذه كلمات العقاد، وإنا لنرجو أن يقدرها حق قدرها الذين يريدون أن يؤولوا القرآن، أو يحرفوا الكلم فيه عن مواضعه ليرضوا به حكماً طارئاً، أو ليخضعوه لحكم زمني، قد تغيره أحوال الزمان، ألا فليعلم هؤلاء وخصوصاً رجال العلم الإسلامي أن الإسلام له أحكامه ومبادئه.

ولقد كنا نود أن يصرح العقاد رضي الله عنه بنصِّ القرآن على تحريم الفائدة؛ لأنها كسب بالانتظار من غير تعرض لمخاطر الخسارة، وإن الاحتكار يشبهها في أنه كسب بالانتظار، إذ أن المحتكر يدَّخر البضاعة حتى يتغير زمن العرض فيها من كثرة إلى قلة، ولكنا نكتفي منه بالإشارة إلى تحريم الإسلام الاستغلال من غير عمل، فإن نظام الفائدة كسب من غير عمل، ومن غير أيِّ مخاطرة.

11 - والعقاد في ذلك الكتاب يتعرَّض لموضوعات يكتب فيها كتابة الفاهم المدرك لما يكتب. لقد شاع بين العلماء في هذا العصر أن تُفسَّر الآيات الكونية في القرآن على مقتضى النظريات العلمية الحديثة، وهو يقرر في هذا معاني ثلاثة كلها مستقيم لا خطأ فيه.

أولها: أننا نفهم القرآن كما كان يفهمه العرب، فالمعاني اللغوية للألفاظ، والسنة التي سهلت للعرب فهم القرآن أمران ضروريان،ولكن حدود المعاني تفهم بما جدَّ من علوم مقررة، وحقائق ثابتة، فمثلاً عبارات القرآن الواردة في أن الأرض مبسوطة تفهمها على ضوء الحقيقة المقررة، وهي أن الأرض كرة، وأن بسطها هو للنظر كما يفهم العربي، وكما نرى نحن، وهذا لا يمنع التكوير في الحقيقة.

ثانيها: أنَّ القرآن لا يفسر بالنظريات التي لم تستقر، أو التي تكون دلائلها مبنية على الظن، لا على براهين ثابتة، تجعلها حقائق ثابتة لا يسع العقل إنكارها.

ثالثها: أن القرآن يجب أن يفهم على أنه كتاب دين يأتي بالأحكام الشرعية وليس كتاب علم لتقرير النظريات الكونية، وإن كان ما يشتمل عليه صدق لا ريب فيه.

ويقول في ذلك: (إننا مطالبون بأن نفهم القرآن الكريم في عصرنا، كما كان يفهمه العرب الذين حضروا الدعوة المحمديَّة لو أنهم ولدوا معنا، وتعلموا ما تعلمناه، وعرفوا ما عرفناه، واعتبروا بما نعتبر به من حوادث الحاضر وحوادث التاريخ منذ الدعوة المحمدية إلى اليوم، ولكن التفكير العصري شيء، وإقرار النظريات العلمية المتجدِّدة شيء آخر. ثم يقول: (وكل ما يجب على المسلم أن يؤمن به: أن كتابه إلهي يأمر العقل بالبحث والتفكير، ولا ينهاه عنه، ولا يصده عن النظر والتأمل في مباحث الوجود، وأسرار الطبيعة، وخفايا المجهول كيفما كان، ولكنه لا يأمره بالتماس التوفيق بين نصوصه وبين نظريات العلوم كلما ظهرت منها نظرية بعد نظرية يحسبها العلماء ثابتة مقررة، وهي عرضة بعد قليل للنقض أو التعديل، بل لا يأمره الكتاب بالتوفيق بين الكيفيات التي يفهمها العلم، والكيفيات التي يقدرها العقل لفهم المسائل الكونية في بداءتها الأولى ونهايتها الأخيرة بعد طوايا الغيب المجهول) ( ).

وهكذا يبدو أن العقاد رحمه الله تعالى وجزاه عن الإسلام خيراً يرى أن من الضروري الوقوف عند نصوص القرآن وفهمها العربي على ألا تقتصر على الصور التي كانت تجري في عقل العربي، بل تشمل الألفاظ ما يجري صوره في عقولنا من غير أن نخرج عن حدود المعنى العربي، ولا أن نبتعد عن المعاني الأصلية للعبارات، ولا نحمل الألفاظ ما لا يحتمل.

وهو بهذا يقارب رأي الغزالي الذي يقرِّر أن المعاني العربية والآثار النبوية هي المفتاح لكل ما يفهم من معاني القرآن المتَّصلة بالعلوم.

12 – ونرى العقاد في هذا الكتاب يقف إمَّا مدافعاً عن المبادئ الإسلامية المقرَّرة الثابتة، وإمَّا مصحِّحاً لأخطاء الذين يكتبون في الإسلام، وإمَّا حامياً للإسلام من المسلمين الذين يذهب فرط تقديرهم للمدنية الغربية أو تأثرهم بالحضارة الحديثة أن يقرِّبوا بغير الحق بين هذه الحاضرة والإسلام، أو يؤلوا القرآن بتأويل يخرجه عن معناه، من غير دليل من أصول الدين.

وهو في كتابته الكاتب الثبت، والعالم المحقق الذي يتقصَّى المرامي والغايات، ويتَّجه إلى اللب.

ولقد كنا نود أن يقرأ العقاد الذين يكتبون في الفقه الإسلامي من الغربيين، ويتحدثون عن مصادره، وجلهم من الذين علموا اللغة العربية نحواً وصرفاً ومتنَ لغة، ولم يدرسوا قانوناً. والفقه الإسلامي لا يعرف مزاياه إلا الذين درسوا القانون، أو الذين يستطيعون أن يوازنوا بين ما أتى به من مبادئ وحلول للمشاكل الإنسانية وما اشتملت عليه القوانين قديمها وحديثها من مبادئ وحلول للمشاكل.

فإن أولئك المستشرقين يفترون على الفقه الإسلاميِّ الكذبَ، ويفهمونه على غير حقيقته للهوى أو الجهل، وما أحوجهم إلى مثل العقاد يرد كيدهم في نحورهم، ولكن الله تعالى يتولى الإسلام في علومه وعقيدته ومبادئه وفقهه برعايته، وما أفل للإسلام نجم إلا بزغ له نجم آخر.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. 

المصدر: مجلة الكتاب العربي، العدد 6، نوفمبر 1964

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين