عبد الرحمن الكواكبي في كتابات الشيخ محمد الغزالي

 

يقول الشيخ محمد الغزالي رحمه الله عن نفسه: "إنني من عشاق الحرية في أوسع دائرة مستطاعة، وباسم الإسلام أود لكل إنسان على ظهر الأرض أن يستمتع بأكبر قسط من الحريات المتاحة وألا يكسف شعاع هذه الحريات ظل لحكم جائر أو متعصب أو مستبد." [معركة المصحف في العالم الإسلامي]

وكتب عنه تلميذه الشيخ يوسف القرضاوي: "والشيخ الغزالي من عشاق الحرية ودعاتها، وهي من العناصر الأساسية في برنامجه الإصلاحي، وهو عدو الاستبداد أياً كانت صورته ولا يقبله بحال، ولو تسربل باسم الدين، بل يرى أن الاستبداد باسم الدين أشد خطر من غيره. من أجل ذلك قسا على بعض مراحل التاريخ الإسلامي، حين رأى الشورى معطلة والخلافة تنتقل بحكم الوراثة إلى سفيه أو صبي لم يبلغ الحلم. وحين قرأ في كتاب "العواصم من القواصم" للإمام أبى بكر بن العربي أن البيعة تنعقد باثنين أو بواحد، لم يطق صبرا على هذا الكلام الذى اعتبره فارغا لا وزن له، ولا دليل عليه. وهو ما جعل العلامة محب الدين الخطيب يعقب عليه في مجلة "الإخوان المسلمين" تحت عنوان: "هل الحكم الشرعي كلام فارغ؟ "، ورد عليه الشيخ الغزالي بمقال: "هل هو حكم شرعي؟ " [الإسلام والاستبداد السياسي]

انطلاقاً من هذه المقدمة، لم نعد بحاجة للتخمين حول موقف الشيخ الغزالي من كتابات الكواكبي، فالغزالي والكواكبي يجمعهما عشق الحرية، وبغض الاستبداد، ولو تسربل باسم الدين، وبالفعل فقد ذكر الغزاليُّ الكواكبيَّ في مواطن مختلفة من مؤلفاته، وكان ينقل عنه مستشهداً بكلامه، ومتبنٍ له وشارح. 

ففي كتابه مائة سؤال عن الإسلام، يرى الغزالي أن ما دعا الكواكبي لتأليف "طبائع الاستبداد" هو "رغبته في إنصاف الإسلام ممن حكَموا باسمه وكذَبوا عليه"، ويقتبس من كتاب الكواكبي الفقرة التالية: "المستبِدُّ يتحكم في شؤون الناس بإرادته لا بإرادتهم، ويحكم بهواه لا بشريعتهم، ويَعلم من نفسه أنه الغاصب المعتدي، فيضع كعب رجله على أفواه الألوف المؤلَّفة، يسدُّها عن النطق بالحق ومطالبتها به! والمستبِدُّ يَوَدُّ أن تكون رعيته بقرًا تُحلَب وكلابًا تَتذلل وتَتملق! وعلى الرعية أن تدرك ذلك فتعرف مقامها منه؛ هل خُلقَت خادمةً له أو هي جاءت به ليخدمها فاستخدمها؟ والرعية العاقلة مستعدة أن تقف في وجه الظالم تقول له: لا أريد الشر! ثم هي مستعدة لأن تُتبِعَ القولَ بالعمل، فإن الظالم إذا رأى المظلوم قويًا لم يجرؤْ على ظلمه" 

وفي كتابه تراثنا الفكري في ميزان العقل والشرع، يتحسَّر الغزالي عن غياب الأقلام الأصيلة عن الساحة، فيقول: "واليوم أبحث في ميدان الأدب الديني عن أمثال لمحمد فريد وجدى وعبد الوهاب عزام ومن قبلهما محمد رشيد رضا فلا أجد وأبحث في الميدان السياسي عن أمثال لعبد الرحمن الكواكبي، وعبد العزيز جاويش فلا أجد، وأبحث في ميدان الشعر عن امثال لحافظ والجارم ومحرم ومطران وبدوى الجبل فلا أجد، توجد أقلام مريضة تخدم العلمانية والخنوثة والضعف والشرود، صلتها بالتراث العربي كصلة اسكندر ديماس أو آرثرصنان دوبل به"

بل إن الغزالي يرى أن الكواكبي من أعاظم الرجال الذين تفانوا في سبيل إقامة حكم إسلامي نظيف يعتمد على أمة فيها أخلاق القرآن ومناهجه، واتجاهاته، وذكر من هذه الأسماء بالإضافة لعبد الرحمن الكواكبي: جمال الدين الأفغاني ، ومحمد عبده، وأحمد عرابي ، وحسن البنا ، وغير هؤلاء ممن نظروا إلى المسلمين على أنهم أمة واحدة، وإلى أسقامهم الموروثة على أنها علة مشتركة، وعالجوها بروح يستهدف كتاب الله وسنة رسوله مباشرة. ويبدو أن الأحوال التي واجهها أولئك الزعماء كانت أعتى عليهم مما يقدرون، أو على الأصح مما تقدر عليه الأمة المهيضة التي يجاهدون من أجلها، ومن ثم فلم يستطيعوا تحقيق ما يبتغون! [من هنا نعلم]

وضاق صدر الشيخ الغزالي بمن لمز الكواكبي فكتب عن ذلك: "اطلعت أمس على مجلة أحبها فقرأت فيها لمزا للأديب الحر المصلح عبد الرحمن الكواكبي وتفسيقاً لرجلين من بناة النهضة الإسلامية الحديثة.. وأنا أحد تلامذة (المنار) وشيخها محمد رشيد، وأستاذه الشيخ محمد عبده. وأنا أعرف أن المتنبي غفر الله له كان يحب المال إلى حد البخل ويحب الإمارة إلى حد الجنون. ومع ذلك أطرب لشعره، وأستجيده وأستزيده، وإذا لم يكن أميرا لشعراء العرب فهو من قممهم. إنني لا أجعل عيبا ما يغطى مواهب العبقري، ثم لحساب من أهدم تاريخنا الأدبي والديني؟ ولمصلحة من أشتم اليوم علماء لهم في خدمة الإسلام وكبت أعدائه كفاح مقدور؟ ومن يبقى من رجالنا إذا أخذت تاريخ الشيخين أبى بكر وعمر من أفواه غلاة الشيعة، وتاريخ على بن أبى طالب من أفواه الخوارج، وتاريخ أبى حنيفة من أفواه الإخباريين، وتاريخ ابن تيميه من ابن بطوطة وابن فلان، وتاريخ محمد بن عبد الوهاب من أفواه الترك.. الخ! وددت لو أعنت على محاكاة أبى حامد الغزالي مؤلف (إلجام العوام عن علم الكلام) فألفت كتابا عنوانه (إلجام الرعاع والأغمار عن دقائق الفقه ومشكل الآثار) لأمنع الصغار عن مناوشة الكبار وأشغلهم بما يصلحون له من أعمال تناسب مستوياتهم، وتنفع أممهم بهم". [علل وأدوية]

ويأسى الغزالي لأن جهود الكواكبي تبعثرت مع تمكن الاستبداد السياسي فيقول: "ومات عبد الرحمن الكواكبي منكمشا بعد ما صودرت كتبه وحوربت مدرسته، والحق أن مصلحين كثيرين، ونهضات شتى، تعثرت ثم تلاشت أمام ما بعثره الاستبداد السياسي من عوائق وسدود هنا وهناك. [الإسلام والمناهج الاشتراكية]

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين