ولا تبخسوا الناس أشياءهم

 

لقد جاءت دعوة الأنبياء شاملة لكل مناحي الحياة، ولكل ما يُصلح الناسَ في معاشهم ومعادهم، ومن أُسُس دعواتهم التي جاءوا بها مع الأمر بعبادة الله وحده الدعوة إلى إقامة العدل وإعطاء الحقوق، والنهي عن الظلم والإفساد في الأرض، حتى تكون أمور الدين والدنيا خاضعة لسلطان الشرع.

فمما أمر شعيب قومه {وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفسِدُواْ فِي الأَرضِ بَعدَ إِصلَاحِهَا}، وكان قد تفشى فيهم البخس والتطفيف، فكذبوه واستكبروا وعتوا عن أمر ربهم فحق عليهم الهلاك.

ولما كان البخس مؤذناً بالعقوبة ومتوعَّداً بالويل، ولما كانت الأمة تعاني من بعض مظاهر البخس - وهي في أشد حالات محنتها وحاجتها للعدل والقسط- لزم التحذير منه وتوضيح صوره وبيان عاقبته.

فالبخس: هو نقص الشيء على سبيل الظلم. والله تعالى يقول في الحديث القدسي: (يا عبادي؛ إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا).

والنهي عن البخس يشمل جميع ما يمكن بخسه من القليل والكثير، والجليل والحقير، مادياً كان أو معنوياً، فهو يشمل بخس الحق، وبخس المال، ومطل الغني، وبخس البائع للمشتري والمشتري للبائع، والغشّ والحيَل التي تُنتقص بها الحقوق، وبخس الضعفاء كالأيتام والنساء ومن لا حيلة له وأكل حقوقهم، وبخس الأجير وتأخير حقه أو إهانته وإذلاله، وبخس العامل صاحبَ العمل بالتقصير أو عدم الوفاء بالتزامات العقد، وأن يخطب الإنسان على خطبة أخيه، أو يشتري على شرائه، أو يبيع على بيعه. وبخس المرأة زوجها بكفران العشير، وبخس الرجل زوجته بمنعها حقها أو عدم العدل بينها وبين أختها. وبخس الحقوق المعنوية كالعلوم والفضائل، ومن أعظم الظلم والبخس من يجعل لله نداً وهو خلقه، أو يكذّب رسله، أو ينتقص صحابة نبيه وزوجاته وآل بيته وينال منهم أو يرميهم بما برأهم الله منه.

ومن صور البخس التي تعاني منها الأمة بخس العلماء والدعاة، برميهم بأبشع التُّهم وتسفيههم  وانتقاصهم وعدم إنزالهم منازلهم، والزهد في علمهم وترك استفتائهم، وأن يظن الجاهل أن بإمكانه أن يفتي كما يفتون، ويفهم كما يفهمون، ويستنبط كما يستنبطون، فيقول: هم رجال ونحن رجال.

ومن صور البخس عدم نسبة الفضل لأهله؛ وغياب الإنصاف خصوصاً عند الخلاف أو الخصومة، بل السعي لإسقاط من تختلف معه، وإنكار جهود الآخرين ومنعهم حقوقهم، كمن يجاهد ويبخس إخوانه الذين شاركوه في المعركة وآزروه ويتنكر لهم، أو يحرمهم نصيبهم من الغنائم، أو يستأثر بالأمر دونهم، فكل هذا من البخس والظلم الذي نهى الله ورسوله عنه. وفي الصحيح: (ومن ادعى ما ليس له فليس منا وليتبوّأ مقعده من النار).

ومن البخس فرض المكوس. والمكّاسون الذين يفرضون ضرائب على الناس ليُمِرُّوهم إلى مأمنهم، والمكس أكل لأموال الناس ظلماً بغير حق، وهو من كبائر الذنوب، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في المرأة الغامدية التي زنت ثم تابت: (والذي نفسي بيده لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له). قال النووي: "فيه أن المكس من أقبح المعاصي والذنوب الموبقات". وقال الذهبي في الكبائر: "والمكاس فيه شبَهٌ من قاطع الطريق، وهو من اللصوص، وجابي المكس وكاتبه وشاهدُه وآخذُه من جندي وشيخ وصاحب راية شركاءُ في الوزر، آكلون للسحت والحرام "

  ومن البخس والظلم أن يبغي مسلم على مسلم أو فصيل على آخر، أو يسلبه سلاحه وماله ومتاعه، ولا يراعي حرمته، أو يأسر ويعتقل بغير حق، بل قد يتجرأ على الدم الحرام، أو يعتدي عليه ويأخذه بالظِّنَّة، ويعظُمُ الظُّلم قبحاً بنسبة الجريمة إلى الشرع - والشرع منها براء-، واختلاق الأعذار لتبرير المعصية، والاستنكاف عن الرضوخ للشرع ورد المظالم إلى أهلها. فكل هذا من الإفساد في الأرض والكبائر التي توجب غضب الجبار ومقته. ولن ينفع الظالمَ ذرائعُ ينجو بها من لوم الخلق وقد علم الخالق السرّ وأخفى {يَستَخفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَستَخفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُم إِذ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرضَى مِنَ القَولِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعمَلُونَ مُحِيطًا}

إن أسباب البخس لا تكاد تخرج عن: الكِبْر والعُجبِ واتّباع الهوى والحسد.

فـ(الكِبْرُ بطَرُ الحَقِّ وغَمْطُ النَّاسِ) وبطَرُ الحق: ردّه وجحدُه. وغمطُ الناس: احتقارهم وازدراؤهم ورؤية الفضل عليهم، ودفع حقوقهم وجحدها والاستهانة بها. وفي الصحيح (إنَّ الله أوحى إليَّ أن تواضعوا حتى لا يفخر أحدٌ على أحد، ولا يبغي أحدٌ على أحدٍ).

فكيف إذا اجتمع مع الكِبْرِ والعُجبِ شهوةُ السلطة والمال والسلاح، وعمِيَ القلبُ بالحَسد والغِلّ، واتُّبِع الهوى حتى أصبح صنماً يعبَد!  { أَفَرَءَيتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلم وَخَتَمَ عَلَى سَمعِهِ وَقَلبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَوَة فَمَن يَهدِيهِ مِن بَعدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ}، فيتأوَّلُ الظلم بهواه، ويشرعن البخس بهواه، ويستنكف عن الحق بهواه. فحينئذ لا تسل عما يقوده إليه من البخس والظلم والبغي والعدوان.

إن بخس الناس أشياءهم ظلم يهدم المجتمع، ويُشيع الهرج، ويدفع لأخذ الحق بالقوة، فيختل الأمن، ويشيع الفساد، وتنقلب الموازين، وتتفرق القلوب وتنتشر الضغينة والشحناء.  وتسود شريعة الغاب. وهو من أسباب المحق، وزوال البركة، وتعجيل العقوبة، ونزول البلاء، وتسلط الأعداء. (مَا مِنْ ذَنْبٍ أَجْدَرُ أَنْ يُعَجِّلَ اللَّهُ لِصَاحِبِهِ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا, مَعَ مَا يُدَّخَرُ لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْبَغْيِ, وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ).

والله هو الحكم العدل، نهى عن البخس وأمر بالقسط والعدل، فقال: {وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ} وقال: { إِنَّ اللَّهَ يَأمُرُ بِلعَدلِ وَالإِحسَانِ}، فبالعدل قامت السموات والارض. وبالعدل والإنصاف وعدم البخس حتى مع الخصوم والمخالفين نزل القرآن، {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}، فنهى أن يحمِلَ المؤمنين بغضُهم للكفّار على ألّا يعدلوا، فكيف إذا كان البغض لفاسق أو مبتدع أو متأوّل من أهل الإيمان؟

وكما إن البخس ماحق للبركة جالب للبلاء، فإن العدل وإعطاءَ الناس حقوقَهم خيرٌ وقوّة للأمة في نفسها وأمام أعدائها، فلا قوة لها إلا بإقامة العدل والقسطاس، وإعطاء كل ذي حق حقه من غير وكس.

إن من يطلب النصر عليه أن يأخذ بأسبابه، من العدل والإنصاف واجتماع الكلمة وصدق التوكل والإعداد، فإن فعلنا ذلك انتصرنا، وسخر الله لنا جنوده وأعزّنا، وإن خالَفْنا السنن هُزِمنا مهما كانت الشعارات براقة. فلسنا بأكرمَ على الله من جيش فيهم نبيه صلى الله عليه وسلم وصحبه، أصابهم ما أصابهم لمخالفة نفر قليل منهم.

لنتجنبِ الظلم والبخسَ لأجل المشردين، لأجل اليتامى، لأجل الأرامل والثكالى، لأجل من يصبحون ويمسون تحت العذاب من الجرحى والمعتقلين. ولا نكن سبباً في زيادة البلاء وتخلُّفِ النصر.

ومن فعل شيئاً من الظلم أو البخس فعليه أن يتوب إلى الله، ويعيد الحقّ إلى أهله، ويتحلّلَ ممن أوقع به البخس قبل ألا يكون دينارٌ ودرهم وإنما الوزن يومئذ بالحسنات والسيئات، ولا يكن سبب بلاء عامّ  {وَاتَّقُواْ فِتنَة لَّا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُم خَاصَّة}، وليتذكر أن أُمّة أُهلِكت كان أعظم ذنوبها بعد الشرك بخس الناس أشياءهم. وليخش وعيد الله {أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}!

فهل نراجعُ مسيرتَنا ونصححُ أخطاءَنا ونعدلُ فيما بيننا لنضعَ أرجلَنا على طريقِ النصر والتمكين!

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين