نظرات في كتاب أم القرى للأستاذ عبد الرحمن الكواكبي رحمه الله

 

بسبب ما أثير حول الكواكبي في الفترة الأخيرة ، أحببت أن أتعرف على فكره من خلال كتابه " أم القرى" ، وأضع ملاحظاتي حول أهم القضايا التي طرحها في هذا الكتاب .

والحقيقة أنني بعد قراءتي للكتاب تبين لي ان الأستاذ عبد الرحمن الكواكبي رحمه الله : علامة وأديب ، ومفكر عملاق ، وذو اطلاع واسع ، وصاحب ذكاء خارق ، وله أسلوب بليغ في الكتابة ، وهو من أسرة سنية أقامت في حلب منذ القرن التاسع الهجري .

وله جوانب مضيئة في الدعوة للإصلاح ومعالجة الفتور والضعف والأمراض التي اصابت الأمة الإسلامية ، وحاول أن يقوم بتوصيف الداء فأنكر التعصب المذهبي ، والجمود الفقهي ، وما عليه بعض الطرق الصوفية وما فيها من منكرات وعقائد باطلة ، وكذلك التنبيه على تقصير العلماء في نشر العلم للقضاء على الجهل، وسكوتهم على ظلم الولاة ، بل وتقديم الفتاوى الباطلة التي تتماشى مع أهوائهم، بالإضافة إلى الإشارة إلى إهمال تعليم المرأة وعدم الاهتمام بها، وغير ذلك من أفكار ناضجة في الارتقاء والنهضة لا خلاف عليها.

وعند الاستمرار في قراءة الكتاب نجد أن الصفحات الأخيرة منه (من الصفحة 190 الى الصفحة 217 ) هي التي تمثل الفكر الحقيقي للكواكبي، وهي محل النقد الذي وجِّه إليه ، وكانت مثار الشك والريب في توجهاته التي يقوم عليها مشروعه الإصلاحي .

وسألخص أهم القضايا التي تعتبر محل نقد شديد لأفكاره ومشروعه مع توثيق ذلك من خلال النقول مما قاله في كتابه " أم القرى" :

1- الدعوة إلى فصل الخلافة عن السلطنة ، وجعل الخلافة في العرب والسلطنة للأتراك :

أ‌- وهذه الدعوة في حقيقتها متأثرة تأثراً كبيراً بالنظام البابوي في الفاتيكان ، فالبابا الذي اتخذ مقره في روما ، هو الذي يتوج الملوك رعاية لسلطان الدين ، وكذلك يريد الكواكبي أن يجعل الخليفة عربياً : هو الذي يرعى شؤون الدين وشعائره ، ويتخذ من مكة المكرمة مقراً له ، ويكون السلطاني العثماني تحت إمرته .

ب‌- عندما طرح الكواكبي هذه الدعوة فإنه بذلك خدم أعداء الأمة من الأوربيين الغربيين وغيرهم الذين كانوا يتربصون بالإسلام وبدولته الذي كانت متمثلة في السلطنة العثمانية ، لأن ساسة الدول الاستعمارية يحذرون أشد الحذر من تمكين الجامعة الاسلامية التي كان يدعو إليها السلطان عبد الحميد رحمه الله تعالى ، وهذا يهدد الغربيين في اجتماع كلمة المسلمين وارتباطهم برابطة الاسلام، وعندما يطرح الكواكبي هذا المشروع فهو يقوض مساعي السلطان عبد الحميد ، لأنه يعلم علم اليقين أن العرب لم يكونوا مهيئين في تلك الفترة لقيادة الأمة الإسلامية ، ويستحيل أن يستجيب لهم بقية العالم الإسلامي ابتداء من الأتراك الذين يعتبرون أنفسهم حماة للدين ويلقب السلطان بخادم الحرمين، وبالتالي فإن هذه المشروع هو أقرب لتفتيت الأمة الإسلامية أكثر منه خدمة لدينها .

2- البعض أراد أن يجعل من هذه الدعوة أقرب إلى فصل الدين عن السياسة ، وأنه أقرب إلى المشروع الليبرالي العلماني ، لذلك استند بعض العلمانيين إلى هذه الدعوة ليجعل من الكواكبي أول من دعا إلى الفكر العلماني ، ولكن في حقيقة الأمر إنه بعيد عن ذلك بعدا كبيراً لأنه صرح أثناء الكتاب أنه مع دعوته إلى الفصل بين السلطة الدينية والسلطة السياسية ، لكن ينبغي أن تكون السلطة السياسية خاضعة لتعاليم الدين حيث قال : (لا يفوتك أن مطمح نظر الجمعية منحصر في النهضة الدينية فقط ، وتؤمل أن يأتي الانتظام السياسي تبعًا للدين ، ولا شك أن لا يقوم بالهدي الديني ويغار على الدين أمة مثل العرب ) .

3- مما يؤخذ على الكواكبي المبالغة في في التمجيد في العرب وأنهم أولى بحفظ الحياة الدينية ، وأن فيهم خصالاً لا تتوفر في غيرهم من الأقوام ، حيث قال : (النظر العميق في أحوال وخصال جميع الأقوام المسلمين الموجودين وخصائص مواقعهم والظروف المحيطة بهم واستعدادهم ، وجدت أن لجزيرة العرب ولأهلها بالنظر إلى السياسة الدينية مجموعة خصائص وخصال لم تتوفر في غيرهم ، فرأت الجمعية أن حفظ الحياة الدينية متعينة عليهم لا يقوم فيها مقامهم غيرهم مطلقًا ، وأن انتظار ذلك من غيرهم عبث محض ) .

أ‌- الكواكبي بهذا الطرح يؤسس للفكر القومي ، فالعرب الذين جاءت فيهم رسالة الإسلام وحملوها للعالم كانوا منصبغين بها تماماً ، وللعرب فضل كبير في نشره ، ولكن الضعف الذي أصابهم في عصر الكواكبي لا يجعلهم متميزين عن غيرهم من الشعوب الإسلامية لتؤهلهم لقيادة الأمة الإسلامية .

ب‌- لم يكتف الكواكبي بهذا التمجيد للعرب : ولكنه قد غمط حق بقية الشعوب الإسلامية ، وتنكر للجهود العظيمة التي قدمتها تلك الشعوب في خدمة الإسلام ، ونشر تعاليمه، والدفاع عن أتباعه ، فقوله : (حفظ الحياة الدينية متعينة على العرب ، لا يقوم فيها مقامهم غيرهم مطلقًا ، وأن انتظار ذلك من غيرهم عبث محض ) ، فليس من الإنصاف القول بأن انتظار القيام بحفظ الإسلام من غير العرب عيث محض ، فهناك من دول الإسلام التي قامت على يد غير العرب فحفظوا الإسلام كالسلاجقة الأتراك والزنكيين والأيوبيين والمماليك وغيرهم ممن كانت لهم المواقف المشرفة في خدمة الإسلام والوقوف أمام أعدائه . 

4- مما يؤخذ على الكواكبي تودده للدول المستعمرة الغربية ، وتهوين وقوع الأمم تحت حكمهم ، بل الدعوة إلى طاعتهم ، وعدم محاربتهم ، حيث دعا إلى : ( تمحيص أمهات المسائل الدينية التي لها تعلُّق مهم في سياسة الأُمة ، وفتح باب النظر والاجتهاد تمحيصًا للشريعة وتيسيرًا للدين ، وسد أبواب الحروب والغارات والاسترقاق اتباعًا لمقتضيات الحكمة الزمانية ، وفتح أبواب حسن الطاعة للحكومات العادلة والاستفادة من إرشاداتها وإن كانت غير مسلمة ) .

5- محاولته التلاعب في معنى الجهاد ، وإسقاط فريضته ، وأن الجهاد بمعنى القتال قاصر على قتال المشركين وأهل الكتاب من العرب فقط ، حيث قال : 

( نجد نحوًا من خمسين آية بأساليب شتى كلها تنهى عن الإلحاح في الهداية إلى الدين

فضلاً عن التشديد والإلزام بالقتال كقوله تعالى : { إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ } ( القصص : 56 ) { وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } [ النحل : 125 ] { لَسْتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ } [ الغاشية : 22 ] .

ويجدون آيتين في التشديد إحداهما { فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} [ الحجر : 94 ) والأخرى { وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ } [ الحج : 78 ] ، وبمراجعة أسباب نزول هاتين الآيتين يعلمون أنهما نزلتا في حق المشركين والكتابيين من العرب ، ولا يوجد في القرآن مُلْزِمٌ لاعتبار عمومية حكمها . وإذا دققوا البحث يجدون أن ليس في علماء الإسلام مطلقًا من يحصر معنى الجهاد في سبيل الله في مجرد محاربة غير المسلمين ، بل كل عمل شاق نافع للدين والدنيا ، حتى الكسب لأجل العيال يسمى جهادًا ، وبذلك يعلمون أن قِصَر معنى الجهاد على الحروب كان مبنيًّا على إرادة الفتوحات والتوسل للتشجيع حين كان مجال للفتوحات ، كما أعطي اسم الجهاد مقابلة لاسم الحروب الصليبية التي أشعل نارها المسيحيون ) .

6- ومما يؤخذ على الكواكبي الظلم الكبير الذي وقع به تجاه كبار السلاطين العثمانيين ، واتهامهم بالخيانة ، وعدم غيرتهم على أهل الإسلام ، ودفاعه المبطن عن الصفويين : 

أ‌- فقد اتهم السلطان "محمد الفاتح" أنه قدم المُلك على الحكم ، حيث اتفق مع الملك الإسباني "فيردينان" وزوجته " إيزابيلا" لإزالة ملك بني الأحمر في الأندلس وخذلهم، مقابل إطلاق يده في أوربا التي تدين بالمذهب الأرثوذكسي

ب‌- واعتبر أن السلطان "سليم الأول" غدر بالعباسيين واستأصلهم في الوقت الذي كان يتم فيه قتل المسلمين والتنكيل بهم وتنصيرهم 

ت‌- وانتقد قيام السلطان "سليم" بقتال الصفويين ورفضه للوساطات التي قام بها (نادر شاه واشرف خان)، واتهم السلاطين العثمانيين بالتآمر مع القياصرة الروس للاستيلاء على بلاد التتار والقفقاس

ث‌- ثم مساعدتهم للهولنديين ضد المسلمين في جاوة .

وهذا نص كلامه : 

( وأما سلاطين آل عثمان الفخام فإني أذكر لك أنموذجًا من أعمال لهم أتوها رعاية للملك وإن كانت مصادمة للدين ، فأقول : هذا السلطان محمد الفاتح وهو أفضل آل عثمان قد قدم الملك على الدين فاتفق سرًا مع "فرديناند " ملك الأراغون الإسبانيولي ثم مع زوجته " إيزابيلا" على تمكينهما من إزالة ملك بني الأحمر آخر الدول العربية في الأندلس ورضي بالقتل العام والإكراه على التنصر بالإحراق وضياع خمسة عشر مليونًا من المسلمين بإعانتهما بإشغاله أساطيل أفريقية عن نجدة المسلمين وقد فعل ذلك في مقابلة ما قامت له به رومية من خذلان الإمبراطورية الشرقية عند مهاجمته مكدونيا ثم القسطنطينية . وهذا السلطان سليم غدر بآل العباس واستأصلهم حتى إنه قتل الأمهات ؛ لأجل الأجنة ، وبينما كان هو يقتل العرب في الشرق كان الإسبانيول يحرقون بقيتهم في الأندلس . وهذا السلطان سليم ضايق إيران حتى ألجأهم إلى إعلان الرفض . ثم لم يقبل العثمانيون تكليف نادرشاه لرفع التفرقة بمجرد تصديق مذهب الإمام جعفر كما لم يقبلوا من أشرف خان الأفغاني اقتسام فارس كي لا يجاورهم ملك سني . وقد سعَوْا في انقراض خمس عشرة دولة وحكومة إسلامية ومنها أنهم أغروا وأعانوا الروس على التتار المسلمين وهولانده على الجاوة والهنديين . وتعاقبوا على تدويخ اليمن فأهلكوا إلى الآن عشرات ملايين من المسلمين يقتل بعضهم بعضًا لا يحترمون فيما بينهم دينًا ولا أخوة ولا مروءة ولا إنسانية حتى إن العسكر العثماني باغت المسلمين مرة في صنعاء و زبيد وهم في صلاة العيد ) .

7- وصفه أكثر السلاطين العثمانيين بالرياء والنفاق في اتخاذهم شعائر الإسلام للوصول إلى مآربهم السياسية ومصالحهم الشخصية، وأنهم يقدمون الملك على الدين حيث قال : (احترام الشعائر الدينية في أكثر ملوك آل عثمان هي ظواهر محضة ، وليس من غرضهم بل ولا من شأنهم أن يقدموا الاهتمام بالدين ) .

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين