الاجتماع الحق والائتلاف المنشود

 

مقدمة:

صارت هذه الكلمات اليوم –على عظمتها وجلالها- مجالاً للمتاجرة والمزاودة لدى كثير من الناس، فحرفوها عن مغزاها وجوهرها.. كلمةُ حقٍ أريد بها باطل، فصار لابد من البيان -نصيحةً للمسلمين- لحقيقة الاجتماع المنشود والائتلاف الحق، حتى لا يروج على كثير من الناس ما يُسوّق من دعوات تستغل هذه الأسماء الشرعية لمآرب باطلة!

1- الائتلاف أمر الله ورضوانه، والتشعب والتفرق من لعب الشيطان بابن آدم

لقد أمر الله تبارك وتعالى هذه الأمة بالاجتماع والائتلاف ووحدة الكلمة ورصِّ الصفوف ونبذِ التنازع والتفرقِ والاختلافِ، وتركِ الشقاق والتفرق والتحزب، يقول الله سبحانه وتعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [آل عمران:103 ]. 

ويقول: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} [الصف:4].

وقال أيضاً: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَاوَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَاتَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى:13].

قال صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ اللَّهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلَاثًا وَيَكْرَهُ لَكُمْ ثَلَاثًا فَيَرْضَى لَكُمْ أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَيَكْرَهُ لَكُمْ قِيلَ وَقَالَ وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ وَإِضَاعَةِ الْمَالِ) [ 1 ]

ولقد تفتّتتُ الأمةُ اليومَ وتشرذمت لما ضحك علينا الشيطانُ وقسَمنا شيعًا وطوائفَ، وبدَّدنا أقساماً وأحزاباً، كلُّ حزبٍ بمالديهم فرحون، وكلُّ طائفةٍ بما عندهم مقتنعون {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [المؤمنون:53].

قد نجحَ الشيطانُ في تفريق قلوبنا، وشقِّ صفوفنا؛ ووصل إلى أعماقنا ودواخلنا، وزرع فيها الضغائنَ والأحقادَ، والكراهية والحسد؛ فصرنا نختلف على أبسط الأشياء، ويهجرُ بعضُنا بعضاً على أتفه الأمور، فضلاً عن التناحر والاقتتال، ولكنه رجسُ الشيطان وخبثُه، وصدَقَ النبي صلى الله عليه وسلم إذ يقول: (إنَّ الشَّيطانَ قد أيِسَ أن يعبُدَه المصلُّونَ في جزيرةِ العربِ ولَكنْ في التَّحريشِ بينَهم). [ 2 ]

عن أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه قال: كان النَّاسُ إذا نزلوا تفرَّقوا في الشِّعابِ والأوديةِ ، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: (إنَّ تفرُّقَكم في الشِّعابِ والأوديةِ إنَّما ذلكم من الشَّيطانِ). [ 3 ]

فلم ينزلوا بعد ذلك منزلاً إلا انضم بعضهم إلى بعض.

2-التف رّقُ يوهِنُ بيضةَ الإسلام

قال تعالى {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال:46].

أتى بفاء التعقيب فقال ناهياً لنا عن التنازع والاختلاف {وَلَا تَنَازَعُوا} فإذا حصل التنازع والاختلاف ذكر مباشرةً عواقبَ ذلك فقال {فَتَفْشَلُوا} وليس الفشل وحده فقط وإنما أيضا {وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} أي تضعف قوتُكم وتتلاشى هيبتُكم وتصيروا لقمةً سائغةً لعدوكم.

ولننتظر المزيد من الفشل الذريع وتبدُّدِ القوةِ وذهابِ الهيبةِ، وحلول الوهن، إن أصررنا على التناحر والاختلاف الذميم فيما بيننا.

ها هو يجتمع العالم علينا ونحن نختلف.. وتتكالب الأمم ضدنا ونحن نزداد تشتتاً واختلافاً، وتزيد الهجمات علينا من كل حدَب وصوب.. ومكرُ الليل والنهار ضدنا جميعاً، ونحن منشغلون ببناء أمجادٍ ممزقةٍ موهومة!

ففي الوقت الذي يتحتم علينا أن نجتمع على أعدائنا، فإذا بنا نكشِفُ ظهورنا لهم، ونُظهِرُ خلافاتنا أمامهم، وندعوهم من حيث نعلم أو لا نعلم بأن يزيدوا في ضربنا والاستهانة بنا، لأنهم يروننا نكيدُ لبعضنا، ونتناحر فيما بيننا؛ فأين عقولُنا !؟ أم أين دينُنا الذي ندّعيه ونحامي عنه، ونرفعُ شعاره ورايته !؟

بل من المخزي أنَّ المتربِّصَ بنا صار يحرِّكُنا كالدمى بسبب خلافاتنا وولاءاتنا الضيقة، التي مزَّقت عباءةَ الإسلام، لتفصِّل انتماءاتٍ مشوهةٍ ممسوخة!

فهذا عدوُّنا اليومَ يبلغُ قمةَ صَلَفه وبطشِهِ بأهلنا في وادي بردى، فيُمطرُهم الموتَ في كلِّ لحظةٍ.. وفي حلب وإدلب حيث لم تمهلهم غاراتُ البطش، وأسلحةُ الدمار الشامل وقتاً ليتنفسوا...

ألا فإننا بخلافنا وتناحُرِنا وتفرُّقِنا نحملُ كِفلاً عظيماً من هذا الإجرام..بل لعلنا شركاء به، شعرنا أم لم نشعر بذلك !  

فلو جمعنا كلمتنا، وشبكنا أيدينا، ورصصنا صفَّنا، لقلبنا المعادلة على العالم كله، ولوقفنا سبباً عظيماً أمام يد البطش والإجرام التي أبادت شعبنا.

بل العجب لما يصل الخلاف بيننا إلى أن نستبيح دماء بعضنا، ونسطو على سلاح بعضنا، ونفرحَ بتحرير بعضٍ مما تحت أيدي بعضنا !! طاشت العقول، ورق الدين في النفوس، ألا فليعلم هؤلاء أن النبي صلى الله عليه وسلم بريء ممن هذه حاله، فعن الحسن البصري قال: "شَهِدْتُهُمْ يَوْمَ تَرَامَوْا بِالْحَصَى، فِي أَمْرِ عُثْمَانَ حَتَّى جَعَلْتُ أَنْظُرُ فَمَا أَرَى أَدِيمَ السَّمَاءِ مِنَ الرَّهْجِ، فَسَمِعْتُ كَلَامَ امْرَأَةٍ مِنْ بَعْضِ الْحُجَرِ، فَقِيلَ لِي: هَذِهِ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ، فَسَمِعْتُهَا تَقُولُ: إِنَّ نَبِيَّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ بَرِئَ مِمَّنْ فَرَّقَ دِينَهُ وَاحْتَزَبَ". [ 4 ]

مع أنهما اسمان شرعيان, المهاجري والأنصاري, لكن لما كان هناك موالاة ومعاداة عليهما, ونصرة في هذين الاسمين، خرجت عن اسم الإسلام بعامة، صارت دعوى جاهلية.

3- سبب الخلاف إنما هو البغي والهوى

عندما أخبر الله عن أهل الكتاب واختلافهم، كشف سبب تفرقهم مع ما عندهم من العلم الذي كان يجب أن يجمعهم، ويحسم الخلاف الذي وقعوا فيه،وما ذاك إلا لبغي بعضهم على بعض، يقول الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللّهِ فَإِنَّ اللّهِ سَرِيعُ الْحِسَابِ}[آل عمران:19].

وقال سبحانه وتعالى: {وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى لَّقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِن بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ}[الشورى: 14].

قال أبو العالية عن قوله تعالى: {إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} "بغياً على الدنيا وطلبِ ملكها وسلطانها، فقتل بعضُهم بعضاً على الدنيا من بعد ما كانوا علماء الناس". [ 5 ]

وقال الطبري في معناه: "أنهم أتوا ما أتوا من الباطل على علم منهم بخطأ ما قالوه، وأنهم لم يقولوا ذلك جهلاً منهم، ولكنهم قالوه واختلفوا فيه تعدياً من بعضهم على بعض، وطلب الرياسات والملك والسلطان". [ 6 ]

فالذي فرَق أهلَ الكتاب هو تنازعُهم على السلطة والملك، وحبُّ الرئاسة والظهور والسعي لحصول ذلك ولو بظلمِ الناس وأخذِ أموالهم وقطعِ رقابهم.

4- الاجتماع المنشود والائتلاف الحق

صارت هذه الكلمات اليوم –على عظمتها وجلالها- مجالاً للمتاجرة والمزاودة لدى كثير من الأدعياء، فحرفوها عن مغزاها وجوهرها،كلمة حق أريد بها باطل، فصار لابد من البيان -نصيحةً للمسلمين- حقيقة الاجتماع المنشود والائتلاف الحق، حتى لا يروج على كثير من الناس ما يسوق من دعوات تستغل هذه الأسماء الشرعية لمآرب باطلة!

إن الاجتماع الحق والائتلاف المنشود هو ما كان على هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم في سلمه وحربه ومهادنته وكل شأنه، ومن ذلك ما يلي:

أ‌- مراعاة أولويات المرحلة وقيمها، ومن هذا قوله صلى الله عليه وسلم لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: (لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية لأمرت بالبيت فهُدم، وجعلت له بابين، بابا شرقيا وبابا غربيا، فبلغت به أساس إبراهيم) [ 7 ]

ومن ذلك مراعاته صلى الله عليه وسلم لحال النجاشي في الحبشة، وأنه لايمكن أن يكون منه غير هذا الذي هو فيه، ولما مات نعاه وصلى عليه هو وأصحابه، [ 8 ]

ومن هذا ما كان من هدي الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما أوقف حد القطع عام المجاعة، لأنه راعى طبيعة المرحلة وأولوياتها.

أما اليوم فقد صار تجاوز تلك الأولويات والتنطع مثاراً للمزايدة على المسلمين، ولاختبارهم في دينهم !

ب‌- الاجتماع لا يكون على البغي والظلم، بل إن الاجتماع يكون لإقامة العدل، وإن الاجتماع على الظلم والجور والانحراف هو سبب من أسباب الهزيمة، بل يجب الاجتماع على إنكار الباغي وردعه فضلا عن الدخول تحت رايته !

ت‌- مراعاة المصلحة العامة على الخاصة: من قواعد الاجتماع والائتلاف أن يكون لحفظ المصلحة العامة، مصلحة الأمة، وليس لحفظ مصلحة شخص أو جماعة أو حزب! بل إن النبي صلى الله عليه وسلم سلم بعد صلح الحديبية رد أبا جندل بن سهيل بن عمرو، [ 9 ]، وهذا معلم واضح في حفظ مصلحة الأمة على حساب مصلحة شخص أو جماعة.

ث‌- تقليل الأعداء وجبهات الصراع: لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعيد النظر في التعامل مع أعداء المسلمين، فلم يكن يفتح على نفسه جبهات معادية هو في غنىً عنها حينئذٍ، بل كان يسعى دائماً إلى تقليل جبهات الصراع والمحافظة على بيضة المسلمين والسعي في زيادة قوة الدولة الإسلامية.

فحرصه صلى الله عليه وسلم على كسب ودّ وعطف القبائل لا استعداءَها ومحاربتِها كان له أثر في نشر الإسلام والتفرغ لجهات أكثر عداءً وتهديداً لأمن المسلمين.. 

فاستعداء الدول المجرمة اليوم على المسلمين ليس في صالحنا وليس من الحكمة بمكان، لا سيما والمسلمون اليوم في وضع مؤسف من الضعف والتشرذم واجتماع القوى العظمى عليهم ودماؤهم التي تُهراقُ في كل لحظة.

لقد استطاع رسول الله صلى الله عليه وسلم بصلح الحديبية أن يُخمد جبهة قريش المعادية التي طالما حاربت المسلمين وكادت لهم، وتفرغ بعدها مباشرة لفتح جبهة على عدوٍ لدود لا تقل عداوته عن عداوة قريش؛ ألا وهو يهود خيبر فأراد رسول الله أن يتفرغ للقضاء على يهود نهائيا في منطقة المدينة المنورة للتخلص من أقوى أعداء المسلمين في المنطقة الشمالية، ولتكون تلك المنطقة أمينة عندما يحين موعد محاسبة قريش.

وبالفعل استطاع رسول الله القضاء على اليهود عسكرياً في شبه الجزيرة العربية، فانتصر على يهود خيبر انتصاراً ساحقاً، وطلبَ من تبقى منهم الصلحَ على أن يحقن المسلمون دماءهم.

وقبل رسول الله صلّى الله عليه وسلم استسلامهم بشرط حقن دمائهم، وأبقاهم على أرضهم على أن يكون لهم نصف ثمرها مقابل عملهم فيها.

كما انتهى النبي من يهود فَدَك، ويهود وادي القرى، ويهود تيماء؛ ليتفرغ بعدها لتأديب قبائل الأعراب لتوطيد الأمن في المنطقة الشمالية للمدينة المنورة بصورة خاصة، ومنع غارات الأعراب على المدينة، وحماية الدعاة من غدر القبائل، ثم بعد ذلك حان موعد محاسبة قريش فكان فتح مكة المبين.

فهذه معالم هاديات في حقيقة الائتلاف والاجتماع الذي يتضمن مقاصد الشريعة ويحقق مراميها، لاسيما ونحن اليوم في زمان يتداعى كثير من الناس بكلام ظاهره الحق ودونه باطل وهوى.

اللهم ارزقنا كلمة الحق والعدل في الغضب والرضا، واجمع كلمتنا على ما يرضيك، وفرج عن الشام وانصر المجاهدين.

1 - رواه الإمام مسلم في صحيحة برقم/3236.

2 - أخرجه مسلم/2812

3 - إسناده صحيح، أخرجه عبد الحق الإشبيلي في الأحكام الصغرى/526،وأبو داود/2628

4 - حديث حسن، الجامع في العلل ومعرفة الرجال لأحمد بن حنبل، رقم/334.

5 - تفسير الطبري:3/142.

6 - تفسير الطبري:3/142

7 - أخرجه مسلم 1333

8 - الهيثمي في مجمع الزوائد من حديث حذيفة بن أسيد الغفاري

9 - دلائل النبوةة للبيهقي

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين