رغمَ الجرَاحَاتِ فالمسلُم  لا يعرِفُ اليَأسَ

 

 

الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى وبعد: فقد شاءت إرادة المولى تباركت أسماؤه أن تكون طبيعة الحياة الدنيا على النحو الذي تصدَّر في بيان سورة الملك، والشاعر المسلم [هو أبو الحسن التهامي رحمه الله.] يقول:

جُبِلت على كدَرٍ وأنت تريدها     صفواً من الأقذار والأكدار

ومكلِّف الأيام ضدَّ طباعها       متطلِّب في الماء جذوة نار

ومن مستلزمات الابتلاء في الدنيا حمل أمانة التكليف. والسابر لأغوار القبول بتحمُّل هذه الأمانة يجد فيه مناطاً للتشريف، فلطالما هو مدخلٌ لمقام العبودية. والإيمان قوة خفيَّة في النفس البشرية ما إن تحكَّمت في شعاب القلب وخالطت بشاشته، ولامست شغافه؛ فإنها تجعل من المستحيل ممكناً!. وامتلاك المرء لتصوراتٍ إيمانية، وفي مقدمتها الإيمان بالقدر؛ كلُّ هذا يبعث برسائل مطمئنة إلى النفس، إذ الشدائد تستجيش مكنون القوى الإيمانية وتعمل على تفعيلها على أرض الواقع!. ولا غرابة أبداً أن يستقبل صاحبُها، المصاب بكثيرٍ من التجمُّل والصبر، وهو يعلم يقيناً أنَّه تحت مظلَّة قدَر مولاه. عن الحسن بن عبيد الله عن ثعلبة البصري قال: قال لنا أنس بن مالك: لأحدِّثنكم بحديثٍ، لا يحدِّثكم به أحدٌ بعدي: كنَّا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم  جلوساً فضحك، وقال:" أتدرون ممَّ ضحكت؟ ". قالوا: الله ورسوله أعلم. قال:" عجبت للمؤمن!. إنَّ الله تبارك وتعالى لا يقضي له قضاء إلا كان خيراً له "[ أخرجه أحمد، وقال الهيثمي: رجاله ثقات.]. وعن محمَّد بن مسلم، قال: بلغني أنَّ رجلاً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم  فقال: يا رسول الله أوصني، ولا تكثر عليَّ. قال:" لا تتهم الله في شيءٍ قضاه لك "[ الرضا عن الله بقضائه والتسليم بأمره، ابن أبي الدنيا ص: 21.]. وقال علقمة في معنى قوله عزَّوجل: [مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ] {التغابن:11} .

قال:" هي المصيبة تصيب الرجل فيعلم أنها من عند الله فيسلِّم لها ويرضى "[ تفسير الطبري، (23/ 421).].

وعن سفيان الثوري رحمه الله، في قوله عزَّوجل: [وَبَشِّرِ المُخْبِتِينَ] {الحج:34}

قال :" المطمئنين الراضين بقضائه المستسلمين له "[ تسلية أهل المصائب، محمَّد المنبجي الحنبلي، ص: 198].

يقول [ديل كارنيجي] في كتابه دع القلق وابدأ الحياة:" لقيت [هنري فورد] قبل وفاته فسألته، وهو في الثمانية والسبعين من عمره: هل عانيت من القلق شيئاً؟ فأجاب: لا! إني أعتقد أنَّ الله قديرٌ على تصريف الأمور، وأنَّه تعالى في غير حاجةٍ إلى نصيحةٍ مني، فأنا أترك له تصريف أموري بحكمته جلَّ شأنه؛ فعلامَ إذن يتولاني القلق؟! ". قلت: فالمسلم أولى بهذا التصور في الحياة، لما يمتلكه من رصيدٍ إيمانيٍّ واضحِ المعالم، قريبٍ إلى الوجدان!.    

وفي خضمِّ الظروف الصعبة التي يمرُّ بها المسلمون اليوم في أصقاعٍ شتَّى من بلدان المسلمين، وعلى كلِّ ذرَّة تراب من أراضيهم مَظلَمةٌ، إلى درجة أنَّ العالَمَ برمّته ينظر إلى الدماء التي تُسفك، والقيم الإنسانية التي تنتهك، فلا يراها تقع إلا على المسلمين! حتى أصبح لنا في كلِّ بلد نائحة، فبدأ اليأس يعشعش في جنبَات أهل الإسلام!. بيْد أنَّ المؤمنين منهم سرعان ما يتسارع إلى أذهانهم مثل هذه التساؤلات .... لماذا نحبس أنفسنا في دائرة القلق وفي جنح الظلام، نحبسها عن الضياء لينير الطريق لأناسٍ سوانا قد لا يستحقونه؟. ومرَّة أخرى، لماذا نقف في الظلمات وفي الكون شموس؟!. وإذا كانت مقاليد السموات والأرض بيد الله، والفاعلية الكاملة في هذا الكون له وحده تبارك في علاه، وإذا كان هو جلَّت حكمته يخلق ما يشاء ويختار، والخِيَرة ليست لنا من الأمر في شيء؛ فلماذا إذن نجزع وينتابنا القلق، ويأسرنا اليأس فنرتمي في أحضانه، ونسلم نفوسنا لحبائله، ولماذا يحترق القلب سعاراً على المرموق المطلوب؟ ونحن نعلم أنَّ إرادة الله هي النافذة ومشيئته هي الغالبة؟!. وأنَّ الشجرة الصلبة تثبت في وسط العواصف.  

وبفضل الإيمان بالله، فإنَّ مهارة التعامل مع الضغوط النفسية، تحتاج إلى التعامل معها بالعقل مع إبعاد المشاعر.

والعصبة المؤمنة في حال شيَّعت بعض شهدائها، تدرك تماماً اصطفاء المولى جلَّت حكمته لهم، ليكونوا في علييِّن وفي سجِّل الخالدين، وتقف مليَّاً عند بيان سورة آل عمران: [وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ] {آل عمران:140}

وفي حال تعرَّض بنوها لجراحاتٍ أو مرضٍ ما، نجدها تعزِّي أنفسها ببعض نصوص السنَّة من مثل الحديث الذي رواه الإمام مسلم في صحيحه: دخل النبي صلى الله عليه وسلم  على أمِّ السائب رضي الله عنها، فقال لها: ما لكِ تزفزِفين؟ قالت: الحمَّى لا بارك الله فيها. فقال: لا تسبِّي الحمَّى فإنها تُذهِب خطايا بني آدم كما يذهب الكيرُ خبَث الحديد ". وعن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم  أنه قال:" والذي نفسي بيده ما على الأرض مسلم يصيبه أذىً من مرضٍ فما سواه، إلا حطَّ الله عنه خطاياه كما تحطُّ الشجرة ورقَها "[ أخرجه أحمد، وابن حبَّان.]. وعن أبي بكرٍ الصديق رضي الله عنه  قال: قلت: يا رسول الله كيف الصلاح بعد هذه الآية: [مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ] {النساء:123}

قال: غفر الله لك يا أبا بكر! ألست تمرض؟  ألست تحزن؟. قال: قلت: بلى يا رسول الله. قال: فذاك بذاك "[ حديث حسن أخرجه أحمد وابن حبَّان.].  

وحدث أن مرض عمران بن حصين رضي الله عنه  مرضاً عضالاً نام على إثره على جريد النخل مدَّة ثلاثين عاماً، وذات يومٍ دخل عليه أخوه، وشرعَ يبكي فسأله عمران: ما يبكيك يا أخي؟ فقال: هذه الحال التي أنت عليها!. فقال عمران: لا تبكِ يا أخي، فإنَّ أحبَّه إلى الله أحبَّه إليَّ!. وبين يدي وفاة معاذ بن جبل رضي الله عنه ، وسكرات الموت تنزل به؛ يتوجَّه إلى الباري عزَّوجل قائلاً: أي ربِّ. اخنقني بخنقاتك فوعزَّتك إنك لتعلم أنَّ قلبي يحبُّك!.     

ومهما عصفت نوائب الدهر بالمسلم، خاصًّة في ظروفٍ معيشيةٍ حرجة في بعض المناطق الساخنة، إلى درجة أنَّ لقمة العيش عزَّ وجودها، وشعرتُ بكثيرٍ من الأسى، عندما سئل أحد العلماء المعاصرين عن رجلٍ لا يجد سَحورَاً أو عَشاءً يتغذَّى به هل يجوز صيامه؟!. فإني أذكِّر هذا الأخ المسلم ببعض مواقف أسلافنا المسلمين: قال عبد الله بن عبد الحكم للشافعيِّ رحمه الله: إن عزمت أن تسكن البلد - ويعني مصر - فليكن لك قوت سنة، ومجلس من السلطان تتعزَّز به. فقال الشافعيُّ: يا أبا محمَّد، من لم تعزُّه التقوى فلا عزَّ له، ولقد ولدت بغزَّة، وما عندنا قوت ليلة، وما بتنا جياعاً قطُّ. وعن عامر بن عبد قيس، قال:" ما أبالي ما فاتني من الدنيا بعد آياتٍ في كتاب الله قوله: [وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ] {هود:6}

وقوله: [مَا يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ] {فاطر:2}

وقوله: [وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] {الأنعام:17}

وعلى الذين يتخوفون على مستقبل الإسلام، وينتابهم القلق على كيانه، بعد هذه الموجة العارمة من الحرب عليه وعلى أهله، والتي أخذت طابعاً دولياً؛ فالمطَّلع على إفلاس البشرية من الحلول المستوردة يرى في الإسلام المخلِّص والمنقذ لها من التيه والتخلف الحضاري. قال شاعر الإسلام إقبال:

إذا رأيت النجوم شاحبةً متكدِّرةً تخفق، فاعلم أنَّ الفجر قريب.

هاهي ذي الشمسُ قد ذرَّ قرنها من الأفق، وولَّى الليل هارباً على أدباره.

إنَّ عاصفة الغرب قد أعادت المسلم إلى الإسلام.

فإنما تكون اللآلىء في البحر المتلاطم الهائج.

لقد دبَّ دبيب الحياة في الشرق، وجرى الدم الفائر في عروقه الميِّتة.

وذلك سرٌّ لا يفهمه ابن سينا والفارابي.

إنَّ إقبال ليس يائساً من تربته الحقيرة، فإنها إذا سُقٍيت أتت بمحصولٍ كبيرٍ.

لقد صمد الإسلام في حياته المديدة، لما هو أعنف وأقسى من هذه الضربات الوحشية، التي توجَّه اليوم إلى طلائع البعث الإسلامي في كلِّ مكان. وكافح وهو مجرَّدٌ من كل قوة غير قوته الذاتية وانتصر، وبقي، وأبقى على شخصية الجماعات والأوطان التي كان يحميها، وهو مجرَّد من السلاح!... لقد كافح الإٍسلام - وهو أعزل - لأنَّ عنصر القوة كامنٌ في طبيعته. كامنٌ في بساطته ووضوحه وشموله، وملاءمته للفطرة البشرية، وتلبيته لحاجاتها الحقيقية. كامنٌ في الاستعلاء عن العبودية للعباد بالعبودية لله ربِّ العباد؛ وفي رفض التلقِّي إلا منه، ورفض الخضوع إلا له من دون العالمين. كامنٌ كذلك في الاستعلاء بأهله على الملابسات العارضة كالوقوع تحت سلطان المتسلِّطين. فهذا السلطان يظلُّ خارج نطاق الضمير مهما اشتدت وطأته. ومن ثم لا تقع الهزيمة الروحية طالما عمر الإسلام القلب والضمير، وإن وقعت الهزيمة الظاهرية في بعض الأحايين؛ وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين