الرَّحمة في القرآن الكريم

 

لفظ (الرَّحمة): مفهومٌ إسلاميٌّ أصيلٌ، ورد ذكرُه في القرآن الكريم في نحو ثمانية وستين ومائتي موضع( 268)، وقد ورد في أكثر مواضعه بصيغة الاسم، نحو قوله سبحانه: 

(.. إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ).[سورة البقرة: 37]. 

وورد في أربعة عشر موضعاً بصيغة الفعل، نحو قوله سبحانه: 

(.. قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).[سورة ا?عراف 149].

ولفظ (رَحِمَ) يدلُّ على الرِّقة والعطف والرأفة. يُقال: رحِمَهُ يرحمُه: إذا رقَّ له، وتعطَّف عليه، والرُّحمُ والمَرحَمَةُ والرَّحمةُ بمعنى واحد. والرَّحِم: علاقة القرابة، وسُمِّيتْ رحمُ الأنثى رَحِماً من هذا؛ لأنَّ منها ما يكون ما يرحمُ ويرِقُّ له من ولد.

ولفظ (الرَّحمة) في القرآن ورد على عدَّة معانٍ، نستعرضها تالياً: 

1-الرَّحمةُ التي هي: (صفة) الله جلَّ وعلا، تثبت له على ما يليق بجلاله وعظمته، من ذلك قوله عز وجل:

(.. وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ? فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ[سورة ا?عراف 156].

(وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ ? إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ)[سورة ا?نعام 133].

و(الرَّحمة) كـ (صفةٍ) للَّه سبحانه هي الأكثرُ وروداً في القرآن الكريم. 

1-الرَّحمة بمعنى (الجنَّة)، من ذلك قوله تعالى:

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَ?ئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ ? وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ[سورة البقرة: 218].

أي: يطمعون أن يرحمَهم الله، فيدخلَهم جنَّته بفضل رحمته إيَّاهم. 

2-الرَّحمة بمعنى (النُّبوة)، من ذلك قوله سبحانه: 

(..وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ ? وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ).[سورة البقرة 105]. 

قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: يختص برحمته: أي: بنبوَّته، خصَّ بها محمداً صلى الله عليه وسلم. وهذا على المشهور في تفسير (الرَّحمة) في هذه الآية. ومن هذا القبيل قوله تعالى: 

(قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى? بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ)[سورة هود:28]، 

أي: نبوَّة ورسالة.

3-الرَّحمة بمعنى: (القرآن)، من ذلك قوله تعالى: 

(قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَ?لِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ)[سورة يونس 58].

فـ (الرَّحمة) في هذه الآية: القرآن. وهذا مَرْوِيٌّ عن الحسن والضَّحاك ومجاهد وقتادة. 

4-الرَّحمة بمعنى: (المطر)، من ذلك قوله تعالى: 

(وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ ? حَتَّى? إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ ? كَذَ?لِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى? لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ[سورة ا?عراف: 57].

قال الطَّبري: و(الرَّحمة) التي ذكرها جلَّ ثناؤه في هذا الموضع: المطر. ومن هذا القبيل قوله عزَّ وجلَّ: 

(فَانْظُرْ إِلَى? آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ? إِنَّ ذَ?لِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى? ? وَهُوَ عَلَى? كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)[سورة الروم: 50].

5-الرَّحمة بمعنى (النِعمة والرِّزق)، من ذلك قوله سبحانه: 

(..ِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ ? قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ ? عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ)[سورة الزمر 38].

قال الشَّوكاني: الرَّحمة: النِّعمة والرِّزق. ومن هذا القبيل قوله عزَّ من قائل:

(قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ ? وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا[سورة ا?سراء 100].

قال البَيْضاوي: أي: خزائن رزقه، وسائر نِعَمِه. ومنه قوله عزَّ وجل:

(مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا ? وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ ? وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ[سورة فاطر 2].

6-الرَّحمة بمعنى (النَّصر)، من ذلك قوله تعالى: 

(قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً ? وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا[سورة ا?حزاب 17].

قال القرطبي: أي: خيراً ونصراً وعافية.

7-الرَّحمة بمعنى (المغفرة والعفو)، من ذلك قوله تعالى:

(وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ ? كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى? نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ? ..ٌ).[سورة ا?نعام:54].

أي: أنَّه سبحانه يقبل من عباده الإنابة والتَّوبة. ومن ذلك أيضاً قوله تعالى:

(قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى? أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ ? إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ? إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ[سورة الزمر 53].

أي: لا تيأسوا من مغفرته وعفوه.

8-الرَّحمة بمعنى (العطف والمودَّة)، من ذلك قوله سبحانه:

(مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ ? وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ? ..). [سورة الفتح 29].

قال البغوي: متعاطفون متوادُّون بعضهم لبعض، كالولد مع الوالد. ونحو هذا قوله عز وجل:

(ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى? آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً… ). [سورة الحديد 27].

أي: مودَّة فكان يوادُّ بعضهم بعضاً. 

9-الرَّحمة بمعنى (العِصمة)، من ذلك قوله تعالى:

(وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي ? إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي ? إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ[سورة يوسف: 53].

قال ابن كثير: أي: إلا مَنْ عصمه الله تعالى. 

10-الرَّحمة بمعنى (الثَّواب)، من ذلك قوله سبحانه:

(وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا ? إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ[سورة ا?عراف 56].

قال سعيد بن جبير: الرَّحمة ههنا: الثَّواب. 

11-الرَّحمة بمعنى (إجابة الدُّعاء)، من ذلك قوله سبحانه:

(ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا[سورة مريم: 2].

قال الشَّوْكاني: يعني إجابته إيَّاه حين دعاه وسأله الولد. 

وعلى الجملة، فإنَّ لفظ (الرَّحمة) من الألفاظ العامّّة والشَّاملة، التي يدخل في معناها كل خير ونفع يعود إلى الإنسان في دنياه وآخرته؛ ومن هنا فلا غرابة أن نجد في كتب التفسير مَنْ يفسِّر لفظ (الرَّحمة) في موضع بمعنى من معانيه، ويفسِّره آخر بمعنى آخر، ويحكم ذلك كله في النهاية سياق الكلام وعِلْم المفسِّر.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين