تنقية الثقافة الإسلامية

 

ضرورة الانتفاع من عبر الزمان، ومر القرون، تقودنا إلى حديث عن الثقافة الإسلامية السائدة، وجرائم الاسترخاء والفناء التي تسرح فيها.

إن هذه الثقافة اختلطت بها عناصر سامة من جهالات الدهماء، وأهواء الخاصة، وخرافات أهل الكتاب، وزيغ الجاهليات القديمة، وإيحاءات الحكام الطاغين.. وكم أذكر حاجة المسلمين بين الحين والحين إلى علماء نقدة من الصنف العبقري الذي قال فيه الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - : (يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين).

وكما اختلطت بالثقافة الدينية هذه المواد الضارة، فإنها نقصت أجزاء مهمة.. لتكون صورة صحيحة للقيم والغايات الإسلامية. وهذا النقصان هو السبب في اضمحلال العلم الديني داخل حدود العالم الإسلامي وخارجه.. ولا أريد الآن ضرب أمثلة كثيرة من علوم الكلام والتفسير والحديث والفقه.. فإن الأمر في هذه الميادين يحتاج إلى مؤتمرات تنعقد باستمرار.. لمصادرة الزوائد المؤذية واستكمال العناصر المفقودة. وإنما أضرب المثل من علمين شعرت - وأنا أحدث الجماهير - بمدى عجزنا فيهما.. الأول علم التاريخ والثاني علم الدعوة. إن التاريخ يسجل الوقائع ويستخلص منها العبر..

وعلم التاريخ الإسلامي في كلا المجالين مقصِّر. ونظرة عجلى إلى الأربعة عشر قرناً التي غبرت، وإلى الأقطار الفيحاء التي انداح فيها الإسلام خلال هذه المدة الطويلة، ونظرة أخرى إلى الهزائم والانتصارات، وظروف التقدم والتأخر التي عرضت لهذه الأمة..

تبرز بقوة أن علم التاريخ لم يتناول إلا مساحة محدودة من الزمان والمكان وأن حساب الأرباح والخسائر مضطرب حيناً ومعدوم حينا آخر.

وأن محاكمة الأشخاص والأشياء إلى المُثل الإسلامية غامضة أو ضائعة.. بل إن الوحدة الجامعة للأمة كلها على اختلاف الأعصار والأمصار تائهة في هذا التاريخ الطويل..

كأن الأمر قصة مؤسسة افتتحت لها فروعاً في عواصم عديدة ثم طال الأمد، ونسي الأصل ما تفرع عنه هنا وهناك..!!

ولولا لقاء الحجيج في مكة ما عرف مسلمو (داكار) و(لاجوس) على المحيط الأطلسي أن لهم إخوة في (إندونيسيا) و(الفليبين) على المحيط الهادي..!!

أين التاريخ الذي يعرض هذا الكيان الطويل العريض في نسق واحد.. صفحات متقاربة؟ عندما كان تاريخ الإسلام سنين عدداً كان الصحابة يروون لأولادهم مغازي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعلاقة هذه الأمة بغيرها.

إعادة كتابة التاريخ:

فلما طال التاريخ وجد نفر من الرجال قد يروون الجد والهزل، وقد يعقبون بعبر قليلة أو لا يعقبون.

ثم عجز التاريخ عن ملاحقة التحرك الإسلامي، ثم عجز أقبح العجز عن لفت الأنظار إلى غارات العدو على هذه الأمة. فإذا (الفليبين) مثلاً تضيع منا في صمت.. وهذا العنوان جلبته الصليبية الغازية الشرق العالم الإسلامي ووضعته على مجموعة الجزر القريبة من إندونيسيا. وكانت هذه الجزر إسلامية مائة في المائة ثم أخذ الغزو النصراني يلح عليها، ويتغلغل فيها قرناً بعد قرن حتى وضع عليها اسم (فيليب الثاني) ملك أسبانيا.. فأصبحت (الفليبين).

ومضى التنصير في طريقه الدامي.. ومنذ قرن كان المسلمون نصف السكان.. وهم الآن خُمس السكان. والمراد الإجهاز عليهم واستئصال بقيتهم. ماذا كان يصنع الترك والعرب خلال هذه الحقب المشئومة؟

أين كتاب التاريخ والمعلقون على أحداثه الكبرى؟ لقد سكتوا كما سكت إخوان لهم من قبل بعد كارثة الأندلس..

كأن ضياع الأندلس سقوط بضعة دريهمات من جيب ثري متلاف!!

عندما كنا طلاباً درسنا للشيخ الخضري محاضرات عن التاريخ العباسي.. وضعها رجل ذكي بصير.. ساق الأحداث بين يدي شرح ضاف للصعود والهبوط، والنصر والهزيمة قلت: ما أحوج أمتنا إلى مثل هذا المؤرخ يلقي الضوء على تاريخها كله طوال أربعة عشر قرناً، متناولاً بقلمه الكشاف أبعاد هذا التاريخ على خطوط الطول والعرض، وأجناس الدول التي صنعته أو شاركت فيه.

إن ذلك لزام علينا حتى نواجه الردة المجنونة التي وقفت بتاريخ الإسلام العام، وجعلت العرب يضعون لهم تاريخاً، والترك تاريخاً، والعجم تاريخاً، والهنود تاريخاً...

إن التأريخ لرسالة واضحة الهدف، انتظمت أجناسا شتى، وعاشت أعصاراً متطاولة.. رسالة مفروض أن تبقى إلى آخر الدهر..

إن هذا التاريخ يجب أن يكتب بأسلوب أجمع، وأفق أوسع مما هو الآن!! ذاك عن علم التاريخ..

أما الدعوة إلى الإسلام فشأنها عجيب..

أين دور أجهزة الإعلام والدعوة؟ في عصرنا الحاضر توجد أنواع من الإعلام تخدم بذكاء ودهاء ألوانا شتى من الإلحاد والانحراف. والأجهزة الخادمة للعلمانية والصهيونية والصليبية بلغت من النجاح حداً كاد يقلب الحق باطلاً، ويجعل النهار ليلاً. أما الإسلام.. فإن الجهود الفردية التي بلَّغت رسالته من قديم لا تزال تواصل عملها بكلال وقصور..

وأكاد أوقن بأنَّه لولا عناية علياً ما بقي للإسلام اسم ولا كتاب.. فإن أجهزة الدعاية الإسلامية وهم كبير.. حتى بعد قيام جامعات كبرى على الاهتمام بعلوم الدعوة وطرائق نشرها..

معروف أن الدعوة إلى الله تعالى عبادة يقوم بها المسلم القادر.. مرضاة لربه.. وابتغاء ما عنده.. وقد نشط أفراد كثيرون لتبليغ الإسلام في أرجاء العالم، وشرح صدور به كانت مغلقة.

والجهد الفردي مهما قارنه من إخلاص قليل الثمر.. إنه يشبه نشاط التجار الصغار أمام الشركات الكبرى.

أين عمل الحكومات الإسلامية؟.. وأين ما وضعته من خطط لنشر رسالة عالمية؟! إن الفساد السياسي عندنا كان السرطان الذي أودي بحضارتنا ورسالتنا خلال قرون مضت.. إن حكامنا كانوا القشرة العفنة في كياننا من زمن بعيد.! ولكي نعرف الفروق بين نشاط ونشاط.. نلفت النظر إلى أن الفاتيكان استطاع بأجهزته المنظمة أن يجعل عشرين دولة في أمريكا الجنوبية تتبع مذهباً واحداً وتنطق لغة واحدة..

أما نحن ففي الشام وحده جمدنا نحلاً داخل الكيان الإسلامي، أو وفرنا لها النماء المستغرب.. فبقيت النصيرية واليزيدية والدرزية إلى جانب اليهودية والنصرانية.. بقيت داخل قطر إسلامي واحد ألف عام!!

أين أجهزة الدعوة.. بل أين أجهزة التعليم العادي؟؟!! وكان في الهند عشرات الملايين من المنبوذين.. هل فكرت الحكومات الإسلامية في اجتذاب هؤلاء إلى الإسلام، وحركت العلماء لدرس أحوالهم وكسب جانبهم؟ إن ما كان على الدولة أن تقوم به نهض به أفراد احتساباً..

ولا ننكر نجاحهم في توسيع دائرة الإسلام شرقا وغربا. لكن الأفراد قد ينجحون في نشر الإسلام لسهولة تعاليمه، ومواءمته للفطرة..

بيد أنهم يعجزون عن تعليم اللغة العربية، وتيسير قواعدها. والعرب الآن سُبع.. أو ثُمن مسلمي العالم الإسلامي. وقد نشأ عن توقف العربية ، وعجز اللهجات المحلية أن اهتبل أعداء الإسلام الفرصة فقاموا بعملين مهمين عميقي الآثار:

الأول: نشر اللغات الأوروبية، خصوصاً الإنجليزية والفرنسية..

الثاني: كتابة اللغات القومية بالحروف اللاتينية..

ومعنى ذلك أن ما كتب باللغات المحلية والحروف العربية عن الإسلام خلال ألف عام أمسى لا قيمة له. انقطعت صلة الأجيال الجديدة به.. وسهل الطريق أمام هؤلاء ليتصلوا بثقافات أخرى، وديانات أخرى عن طريق اللغات العالمية التي تساندها الدول الاستعمارية!!

هذا جانب من عجزنا عن تبليغ دعوتنا.. أما علم الدعوة نفسه، وتكوين الدعاة الأكفاء لما يناط بهم.. فالكلام فيه مر المذاق.. وربما كان في حديثنا المستأنف ما يشير إلى ما نقصد.

* * *

نظرت بعيداً عن دار الإسلام، وراقبت زحام الفلسفات والملل التي تتنافس على امتلاك زمام العالم. فوجدت الإعلاميين أو الدعاة يختارون من أوسع الناس فكراً، وأرقهم خلقاً، وأكثرهم حيلة في ملاقاة الخصوم، وتلقف الشبهات العارضة. حتى البوذية - وهي دين وثني - رزقت رجالاً على خط خطير من الإيمان والحركة.. لقد طالعت صور الرهبان البوذيين الذين يحرقون أنفسهم في (فيتنام) ليلفتوا الأنظار إلى ما يصيبهم من اضطهاد.. وعرتني رجفة لجلادة الرجال والنساء الذين يفعلون ذلك! فلما رجعت بصري إلى ميدان الدعوة في أرض الإسلام غاص قلبي من الكآبة! كأنما يختار الدعاة وفق مواصفات تعكر صفو الإسلام، وتطيح بحاضره ومستقبله.. وما أنكر أن هناك رجالاً في معادنهم نفاسة، وفي مسالكهم عقل ونبل.. بيد أن ندرتهم لا تحل أزمة الدعاة التي تشتد يوماً بعد يوم. والغريب أن الجهود مبذولة لمطاردة الدعاة الصادقين، من العلماء الأصلاء، والفقهاء الحكماء.. للقضاء عليهم، وترك المجال للبوم والغربان من الأميين والجهلة والسطحيين يتصدون للدعوة ويتحدثون باسم الإسلام، ووراء ذلك مخطط استعماري مدروس بدهاء، تنفذه الحكومات المدنية بدقة..

حتى لا يبقى للإسلام لسان صدق، وحتى تبقى العقول الختلة هي التي تحتكر الحديث عن هذا الدين المظلوم! ويوجد الآن شباب وشيوخ يعملون في ميدان الدعوة، أبرز ما يمتازون به الجهل.. بالنسب التي تكون معالم الدين، وتضبط شعب الإيمان! تصور تلميذاً يقال له: ارسم خريطة لجزيرة العرب، ووضح مكان الحرمين بها.. فإذا هو يرسم الخريطة وليس بها إلا الربع الخالي.. فإذا سألته: وأين مكان الحرمين؟ وضع نقاطا بين تبوك والأردن! أو تلميذا يقال له: ارسم خريطة لنهر النيل.. فإذا هو يجعل فرعي الدلتا يبدأان من الخرطوم لا من القاهرة.

إن كلا التلميذين ساقط لا محالة في هذا الاختبار.. فما الرأي إذا اختير كلاهما مدرساً للجغرافيا؟!

أعداد غفيرة من المتحدثين في الدعوة يشبهون هذا المدرس الجهول. قضايا صغيرة تتضخم في رءوسهم، وقضايا تستخفي، وحماس في موضع البرود، وبرود في موضع الحماس، وأحاديث ضعيفة أو منكرة تصحح، وصحيحة تضعف و ترد.

 كنا ضيوفاً عند أحد الناس.. فسكب في يدي قطرات من ماء الكلونيا.. فإذا أحد الدعاة يصرخ: حرام! نجس! فقلت له! دعني ورأيي، إن مالكا ـ رضي الله تعالى عنه ـ يرى ريق الكلب وعرقه طاهرين.. ويراهما غيره نجسين.. فلنتعاون فيما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه. فقال: اليد التي بها (كولونيا) نجسة، وتحرم مصافحتها!

وعلمت أني أحدث من لا يستحق المحادثة.. علمت أني أمام امرئ مسعور!

ورأيت طالبا في القاهرة يريد أن يدخل كلية الطب بجلباب وقلنسوة.. وسألته: لم هذا الشذوذ؟ قال: لا أتشبه بالكفار في ارتداء البدلة الفرنجية.. قلت : التشبه الممنوع يكمن في انحلال الشخصية، وإعلان التبعية النفسية والفكرية لغيرنا، ولقد لبس الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ جبة رومية كانت ضيقة الأكمام.. فلما أراد الوضوء أخرج ذراعيه أسفل.. ولكن الطالب الأحمق أبي وترك الدراسة الجامعية.

فهم خاطئ:

وكنا يوما في حفل جامع وكنت ألقي محاضرات (ذات بال) في موضوع خطير.. ورأى أحد الصحافيين التقاط صورة للجمع الحاشد.. ولكن الداعية نهض يمنع التصوير.. فلما أصر الصحافي على المضي في عمله اتجه الداعي إلى الآلة ليكسرها. وجاءني الواعظ الغيور يسألني: لماذا لم تمنع التصوير؟ قلت: لأني أراه مباحاً! قال: ألم يقل الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (إن أشد الناس عذابا المصورون؟) قلت: إنه يعني صانعي التماثيل للعبادة.. ولا يتصور أن يكون هذا الصحافي أشد عذاباً من الزناة والقتلة والمرابين والظلمة.. قال: الحديث عام فلماذا تخصصه؟ قلت: خصصه الواقع الذي لا يمكن تجاهله.. فالوثنيون كانوا يعبدون أصناماً مجسمة ولم يعبدواً صوراً شمسية.. وعندما تكون الصورة الشمسية لصنم أو لصليب أو لمعنى ديني مرفوض فسنحرمها.

أما التقاط الصوت في شريط مسجل، أو التقاط الظل والملامح على ورقة لأغراض علمية أو اجتماعية فلا علاقة له بالوثنية، ولا يحكم عليه بتحريم.. بل هو كما نبَّه مسلم في صحيحه ليس (إلا رَقْماً في ثوب). قال: هذا الكلام مردود، ومحاضرتك عن الوحدة الإسلامية، وعن التناحر بين المسلمين لا تقبل.. ما دامت مقرونة بإقرار التصوير! وشعرت بالضيق.. ثم كظمت غيظي ورفضت مواصلة النقاش.

وأحيا آخرون السنة النبوية بالأكل على الأرض، واستخدام الأيدي، رافضين الأكل على الموائد، واستعمال الشوك والملاعق. قلت: من قال: إن الأكل على المائدة، أو استخدام الملاعق مخالف للسنة؟

إن فهم هؤلاء الناس للدين غريب، وإثارة هذه القضايا دون غيرها من أساسيات الإسلام مرض عقلي.. إنه ضرب من الخبال.

إن المؤامرات تستحكم يوما بعد يوم لاغتيال الإسلام أو الإجهاز عليه جهرة.. فكيف يشتغل قوم بهذه السنن فقط ثم يتساهلون في الواجبات وعظائم الأمور؟!!

ورأيت يوماً رجلاً حليق الشارب والرأس بالموسى، وله لحية مشوشة وغير مهذبة فساورني خاطر أنه قادم من عمرة. واحترمت في نفسي هذا الظاهر الموقوت.

ولكني أعدت النظر في هيئته فوجدته مكحل العينين، وثوبه إلى نصف الساق أو أعلى. فقلت: هذا رجل من المنتسبين إلى الدين والحديث فيه، وهو بهذا السمت يرى أنه جمع المجد من أطرافه كلها. ورمقته ثم تشاغلت عنه.. ولكنه جاءني يسألني بأدب: أنت فلان؟ قلت: نعم! قال: قرأت رسالة وزعت علينا تصفك بأنك تهاجم السنة! وأنك مع الشيخ (أبي رية) في تكذيب الأحاديث!!

قلت في سكون: وقعت هذه الرسالة في يدي...! قال: ما رأيك في هذه التهم؟ قلت: ما رأيك أنت؟ هل قرأت لي كتباً؟ قال: نعم، قرأت كتابك (خلق المسلم): قلت: في هذا الكتاب وحده أكثر من ألف حديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي فقه السيرة وكتابين آخرين نحو ألفي حديث. فإذا أثبت رجل في عشر مؤلفاته نحو ثلاثة آلاف حديث فكيف يتهم بتكذيب السنة؟ ! قال: إنك رددت حديثاً صحيحاً رواه البخاري ومسلم.. وهو أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أغار على بني المصطلق وهم غارون! قلت على عجل: لقد رددت الفهم القذر الذي استقر في ذهن بعض الناس لما قرأ هذا الحديث...

لقد فهم أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - يأخذ الناس على غرة، ويغير عليهم دون أن يدعوهم إلى الإسلام، كأنه قاطع طريق يطلب المغانم.. هذا الغباء في فهم السنة هو الذي كذبته. ولم أكذب الحديث نفسه! وعلماء المسلمين قاطبة قرروا أنه لابدَّ من الدعوة قبل القتال. وكاتب الرسالة التي هاجمتني يرى أن الحرب الإسلامية لا يسبقها عرض دعوة، ولا تنوير ذهن.. يرى أن الدعوة كانت قديماً ثم نسخت، وأمسى القتال هجوماً مباغتاً أو أخذاً على غرة.. فهل إذا زيفنا هذا التفكير العطن، أسرع الجهال إلى اتهامنا بتكذيب السنة؟!! إننا نحمي السنة من أفهام الأراذل.

قال: وحديث آخر من الصحاح رددته.. وهو حديث (أنه ما من يوم يجيء إلا والذي بعده شر منه) قلت: بل رده حديث آخر: (أمتي كالغيث لا يدري أوله خير أم آخره) وحديث حذيفة الذي رواه مسلم وجاء فيه (أن بعد الخير شراً وبعد الشر خير).

ومن جملة الأحاديث الواردة في القضية يُفهم أن تاريخ الإسلام بين مدٍّ وجزر، وغربة وإيناس، ونصر وهزيمة .. أما القول بأن الإسلام يسير كل يوم إلى الهاوية، وأن مستقبله مشئوم.. فقول مكذوب. قال: هذا ظاهر الحديث. قلت: هذا ظاهر فهمكم أنتم لحديث لم تبلغ عقولكم غوره..! بم سينزل عيسى ابن مريم؟ وحديث نزوله صحيح؟ أليس نزوله لمقاتلة الصليبيين، ونصرة التوحيد، وذبح الخنزير، ووضع الجزية.. ألستم تقرءون هذا.. فأين الهاوية التي ينتهي إليها الإسلام حتما؟!!

هل السلفية التي تزعمونها هي اتهام رجل بتكذيب السنة لأنه أول حديثاً يشعر ظاهره بسوء مستقبل الإسلام.

أي تدين هذا الذي تزعمونه، وأي دعوة هذه التي تنشرون.. الحق أن هناك أناسا يشتغلون بالدعوة الإسلامية.. وفي قلوبهم غُل على العباد، ورغبة في تكفيرهم أو إشاعة السوء عنهم.. غل لا يكون إلا في قلوب الجبابرة والسفاحين.. وإن زعموا بألسنتهم أنهم أصحاب دين، إن فقههم معدوم، وتعلقهم إنما هو بالقشور والسطحيات.

إن الاكتراث البالغ بالشكل يتم عادة على حساب الموضوع كما أن الاهتمام الشديد بالنوافل يكون على حساب الأركان..

وأذكر أني دخلت المسجد النبوي عقب أذان المغرب وجلست في انتظار الصلاة التي قدرت أنها ستقام تواً.. فإذا شخص يقول لي بكبرياء: لماذا لم تصل النافلة؟ فقلت له: هما ركعتان لمن شاء! لا إلزام هنالك! قال: أعني تحية المسجد.. قلت: لا إلزام كذلك.. وما هي إلا لحظات حتى أقيمت الصلاة وتهيأنا للفريضة.. وقال لي مراقب للحوار: أيمكن أن يكون قبل المغرب أربع ركعات؟ فقلت له: لا.. وهذا امرؤ يريد الاستطالة عليَّ بغير علم ولو أنه صرف نشاطه في تعليم اللغة العربية لرجل أعجمي لكان ذلك أرجي له عند الله من النوافل التي يريد توبيخنا على تركها.

إن هناك مشتغلين بالعلم الديني، قاربوا مرحلة الشيخوخة ألفوا كتباً في الفروع، وأثاروا معارك طاحنة في هذه الميادين.. ومع ذلك فإن أحداً منهم لم يخط حرفاً ضد الصليبية أو الصهيونية، أو الشيوعية أو العلمانية.

إن وطأتهم شديدة على الأخطاء بين أمتهم، وبلادتهم أشد تجاه الأعداء الذين يبغون استباحة بيضتهم. بأي فكر يحيا أولئك؟ تصور شخصاً ذهب إلى خياط ليصنع له جلباباً! فهو يقول له: أريد الكم مضاعف الأساور، واصنع عروة في كل طرف تكون مكشوفة لتظهر منها الأزرار.. لكن بلغني أن الصيحة الأخيرة مضاعفة العري وتغطيتها، اصنع لي عروتين في كل كم وغطها بحيث تخفي من تحتها الأزرار!! وإذا كان لديك (كباسين) بدل الأزرار ربما كان ذلك أفضل، وقد رأيت البعض يصنع ثلاث عراوي لوضع ثلاثة أزرار.. ماذا ترى؟ أيكون ذلك خيرا أم.. الخ.

هل الدماغ المشغول بهذه القضايا يصلح لشيء طائل في الحياة.. أهذا رجل يتماسك في تفكيره أمر ذو بال؟

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

من كتاب الفساد السياسي

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين