إلحاد في المريخ! (2-2)

 

السمة الغالبة في (الإلحاد الجديد) في نسخته العربية على الأقل أنه إلحاد ذو طبيعة احتجاجية، بمعنى أنه أشبه بردود فعل ساذجة على الخطاب الديني المعاصر الذي فقد الكثير من هيبته وقابليته للإقناع.

وبتحليل علمي وموضوعي لهذه الظاهرة لا بد من الاعتراف بالحقيقة المرّة؛ أن الخطاب الديني يمثّل اليوم أحد أهم التحدّيات التي تواجه الدين نفسه، ومن ذلك مثلا إظهار الدين بشكل أو بآخر كعنوان لشقاء البشريّة ومعاناتها، فثقافة (ثارات الحسين) و (إدارة التوحّش) وهما الحالتان الأبرز في مجموع القوى المتديّنة في المنطقة جعلت الإلحاد كأنه قارب النجاة لكثير من الشباب الشيعي والسنّي على السواء، والصورة الكليّة التي تنطبع في ذهن الشاب عن الدين إنما يأخذها من هؤلاء، خاصة مع مباركة المراجع الشيعية للميليشيات، وخفوت صوت العلماء السنّة تجاه الممارسات الداعشية، لكن الذي فات على هؤلاء الشباب أن التاريخ الدموي للإلحاد ليس بأقل من هذا، بل إن بعض المصادر أوصلت عدد ضحايا الزعيم السوفيتي جوزيف ستالين إلى خمسين مليونا! ما يجعله متفوقا بكثير حتى على الزعيم النازي هتلر.

المناطق التي سلمت إلى حدّ ما من داعش وماعش كانت التجارب (الإسلامية) المرتبكة والفاشلة كفيلة بأن تفسح المجال للنزعات الإلحاديّة وبمستوى لا يقل عن الحالة الأولى، فبعد مرور قرابة القرن على مقولة (الحل الإسلامي) لم يسمع الناس جوابا واضحا عن سرّ تراجع هذه المقولة سوى الإحالة إلى مقولات غيبيّة أخرى مثل: (سنّة الله في التمحيص) و (إذا أحب الله عبدا ابتلاه)، دون أن يقرأ هؤلاء الشباب تحليلا علميا واقعيا يمكن الاستناد إليه أو الانطلاق منه.

هناك أيضا الخطاب الوعظي الذي يتلقاه الناس من على المنابر، وهو خطاب مكرّر ومملول وذو طبيعة عاطفية، وكثيرا ما يعتمد على مزاج الواعظ، فإن راق أدخل الناس الجنّة، وإن تعكّر أدخلهم النار، وقد حدثني أستاذ جامعي معروف أنه طاف مع أولاده في يوم واحد على أكثر من مسجد لصلاة الجمعة ثم رجع دون صلاة! ويقول: لم أعد أحتمل سماع هؤلاء! وقد رأيت كثيرا من المصلّين يبحث عن الخطبة الأقصر (تسقيطا للفرض) كما يقال، لأن المصلّي لم يعد ينتظر من الخطيب حلا لمشكلته، أو تحليلا لواقعه، أو جوابا عن تساؤلاته.

إن هذه الظواهر ينبغي أن نعترف بها لهؤلاء الشباب قبل فتح أي نقاش معهم، فربما رجعوا بهذه المصارحة قبل الدخول في النقاش أصلا، وما زلت أذكر تلك الأخت الفاضلة التي اتصلت عليّ وقالت: إن لديها أسئلة إلحاديّة وهي تخشى من طرحها، فرحّبت بها، ثم شجعتها بقوة أن تأخذ راحتها في الحوار، وكانت النتيجة أنها اكتفت بهذه المقدّمات وقالت: شكرا لك يا دكتور لقد أعدت لي الثقة بديني! ومثل هذه حالات كثيرة تؤكّد أن هذا الإلحاد إلحاد نفسيّ، بعيد إلى حد كبير عن المقولات الفلسفية التي كان يستند إليها الإلحاد القديم.

إن المدخل الأساس لحماية مجتمعاتنا وشبابنا تكمن في إصلاح وضعنا الداخلي ومراجعة خطابنا الديني بشكل خاص، والكف عن سياسة التبرير التي نمارسها لأخطائنا، والتعامل المحترم مع هؤلاء الشباب مهما اختلفنا معهم.

الحلقة السابقة هـــنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين