دروس وعبر من قصة موسى مع فرعون

 

قال الإمام الجُنيد ـ رحمه الله ـ : الحكايات جند من جنود الله تعالى، يُثبت بها قلوب أوليائه، فقيل له : هل لهذا من شاهد [أي دليل]؟ قال شاهِدهُ قوله تعالى :(وكُلّاً نقصُّ عليك من أنباء الرّسل ما نثبّت به فؤادك، وجاءك في هذه الحقّ وموعظةً وذكرى للمؤمنين)[هود:120].

 

    في يوم العاشر من المحرم من كل عام، يتذكر المسلمون، حكاية من حكايات الإيمان، وقصّة من قصص القرآن، تُثبّت الجنان ، وتزيده يقيناً واطمئناناً، بحتمية انتصار أهل الحق والايمان، على قوى الكفر والطغيان، إنّها  قصّة موسى عليه السلام مع فرعونه، التي أسهب القرآن الكريم في عرضها ، وأكثر من ذكرها في مواضع عديدة من كتاب الله، وذلك لأهميتها وحاجة المؤمنين إليها في كل عصر وجيل، خصوصاص في هذا الزمان العصيب الذي يُضطهد فيه المؤمنون ويُحارب فيه الدعاة والمجاهدون على أيدي فراعنة العصر.

 

وبما أن وقائع هذه القصة وأحداثها التفصيلية باتت معروفة لدى عامة المؤمنين لكثرة ورودها في القرآن، فإننا سنكتفي بالإشارة إلى أهم هذه الوقائع والأحداث مع التعليق عليها واستخلاص أهم الدروس والعبر المستفادة منها وهي:

 

أولاً: قضاء الله واقع لا محالة، وإرادته ـ سبحانه وتعالى ـ هي النافذة، ولن يستطيع أحد من الخلق مهما بغى وعتى أن يدفع قضاء الله أو يُبدل إرادة المولى ـ تبارك وتعالى ـ . لقد علم فرعون ان غلاماً من بني اسرائيل سيولد ويكون على يديه ـ  بإذن الله ـ هلاك فرعون وزوال ملكه وانتهاء استكباره على الخلق وإفساده في الأرض.. فاتخذ فرعون كافة الإحتياطات واستعمل جميع ما توفر له من أسباب البطش والإرهاب. التي ظن انها يمكن أن تدفع قضاء الله المبروم وأمره المحكم.. فأصدر قراراً همجياً بقتل كل مولود ذكر تلده نساء المؤمنين من بني اسرائيل، ولكن لا يُغني حذر من قدر،(ثم جئت على قدرٍ يا موسى) [طه:40]. فقد ولد موسى عليه السلام، ودخل قصر فرعون ـ بإذن الله ـ وعاش فيه وتربي في حِجر امرأة فرعون. وغاب عن فرعون أن هذا الغلام الذي جاءه من اليمّ والقاه الله إليه.. هو  الغلام المنتظر الذي سيتحقق على يديه وعد الله عز وجل بهلاك المستكبرين وانتصار المستضعفين.

 

قال تعالى: (ونُريد أن نمُنّ على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمّةً ونجعلهم الوارثين، ونُمكن لهم في الأرض ونُري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون) [القصص:5ـ6].

 

واليوم، تتكرر هذه القصة، مع فراعنة العصر، الذين يوقنون ان الإسلام سيعود، ليقتلع جبروتهم ويقضي على ظلمهم وإفسادهم.. قال بن غورويون اول رئيس للكيان اليهودي  الغاصب :(نحن لا نخشى الاشتراكيات ولا القوميات ولا الملكيات في المنطقة، انما نخشى الإسلام.. هذا المارد الذي نام طويلاً وبدأ يتململ في المنطقة.. إنني أخشى أن يظهر محمد جديد في المنطقة).. انهم يتقطعون خوفاً من الإسلام الذي ولد من جديد في نفوس أبناء الجيل الحاضر .. لذلك فهم يحاولون بكافة الوسائل الهمجية والأساليب الشيطانية أن يقضوا على الصحوة الاسلامية في مهدها.. كما حاول فرعون ـ من قبل ـ أن يقضى على موسى في مهده.. لكن إرادة الله هي الغالبة... وقد أراد الله لهذا الدين أن ينتصر وسينتصر.. وأراد لدولة الخلافة الراشدة أن تقوم وستقوم.. وأراد لإسرائيل ان تزول وستزول.. بإذن الله .. (والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون) [يوسف:21].

 

ثانياً: مواقف مُشْرقة للمرأة المسلمة، لقد تجلى دور المرأة المسلمة في هذه القصة بأبهى صورة.

فهذه أم موسى عليه السلام، تعطينا درساً فريداً في امتثال أمر الله والثقة بوعده، ولو كان هذا الأمر هو إلقاء فلذة كبدها في مياه النيل الجارفة، ولكنها استجابت للإلهام الإلهي فوضعته في صندوق صغير وألقته  في اليمّ، وكلها ثقة بوعد الله الذي تكفل لها بحفظه ورعايته (إنا رادّوه إليك وجاعلوه من المرسلين)[القصص:7].

 

وهذه (مريم) شقيقة موسى عليه السلام، تعطينا درساً رائعاً في برّ والدتها والحرص على أخيها.. فتلبي أمر أُمها التي كان فؤادها يشتعل شوقاً وحنيناً لطفلها الصغير موسى عليه السلام.... وقد أكرم الله تعالى هذه الفتاة بالشجاعة والذكاء فاستطاعت أن تعرف المكان الذي وصل إليه شقيقها بعد تتبع حذر وان تدخل إلى القصر الذي أدخل إليه وأن تقنع امرأة فرعون ـ التي تعلق قلبها بهذا الغلام ـ ومن معها من نساء القصر بأن تخرجه للرّضاعة ـ بعد أن حرّم الله عليه المراضع ـ دون أن تشعرهم أنها شقيقته ولا أن المرضعة هي أمّه. قال تعالى :(فرددناه إلى أمَّه كي تقر عينُها ولا تحزن ولتعلم أن وعد الله حق ولكن أكثرهم لا يعلمون) [القصص:13]

 

وهذه (آسية امرأة فرعون) تعطينا درساً بليغاً في إيثار الآخرة الباقية على الدنيا الفانية، فعندما دخل الإيمان قلبها، كفرت بفرعون وتبرّأت من عمله، وترفعت على حياة الترف والنعيم المادي.. واختارت رضا الله والجنة على سلطان فرعون وجاهه.. ولما علم فرعون بإيمانها صب عليها العذاب صباً، ولكنها لم تتزحزح عن ايمانها حتى نالت الشهادة. قال تعالى :(وضرب الله مثلاً للذين آمنوا امرأة فرعون إذ قالت ربِّ ابن لي عندك بيتاً في الجنة ونجني من فرعون وعمله ونجني من القوم الظالمين)[التحريم:11].

 

وأخيراً: قدمت لنا فتاتان هما ابنتا الرجل الصالح في مدين، درساً عملياً في الأدب والحياء وبرّ الأب الكبير.. حيث تجنبتا مزاحمة الرجال  على الماء، حتى تدخّل موسى عليه السلام وسقى لهما (قالتا لا نُسقي حتى يُصْدر الرّعاءُ،وأبونا شيخ كبير)[القصص:23].

 

ثم يصف القرآن الكريم خُلق إحدى البنتين في قوله تعالى :(فجاءته إحداهما تمشي على استحياء قالت إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا..) [القصص:25]. وسار موسى عليه السلام أمامها لا خلفها حتى لا يقع بصره على شيء منها.

 

فما أحوج الرجل والنساء في هذه الايام إلى خُلق الحياء الذي هو شعبة من شعب الإيمان كما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام. وما أحوج المرأة المسلمة اليوم أُمّاً كانت أم زوجة أم فتاة إلى الاقتداء بهذه النماذج المضيئة من النسوة المؤمنات الصالحات.

 

ثالثاً: المؤازرة بين الإخوان: لقد علم موسى عليه السلام أن حمل الدعوة وتبليغ الرسالة ومواجهة الطواغيت والظلمة أمر شاق وثقيل،يحتاج إلى تظافر الجهود واجتماع الطاقات.. لذا طلب من الله تعالى أن يجعل له وزيراً من أهله.. لكي يشاركه في تبليغ الرسالة ويعاونه في حمل الأمانة. قال تعالى :(واجعل لي وزيراً من أهلي، هارون أخي اشدد به أزري وأشركه في أمري)[طه:29ـ32] ، وقال تعالى :(سنشدُّ عضُدك بأخيك)[القصص:35].

 

وفي هذا إشارة بالغة الأهمية على ضرورة التآزر والتعاون بين المؤمنين ـ وخصوصاً الدعاة إلى الله والعاملين للإسلام ـ على نُصرة الدين وإعلاء كلمة الله.. فالمرء ضعيف بنفسه قوي بإخوانه.. والمهام الملقات على عاتق المسلمين عظيمة .. والتحديات المحدقة بهم خطيرة والمصائب التي حلّت بهم جسيمة.. لا يقوى على تحمّلها والقيام بأعبائها شخص لوحده أو فئة بمفردها.. بل لا بد من التكاتف والتكامل والتعاون بين جميع المخلصين .. وبذل الجهود الجبارة.. للوصول إلى الغاية المنشودة. قال تعالى : ( هو الذي أيّدك بنصره وبالمؤمنين) وقال عز وجل (ان الله يحب الذين يُقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص). وقال صلى الله عليه وسلم (المسلم للمسلم كالبنيان يشد بعضه بعضا).

 

رابعاً: الثبات على المبدأ، وقد تجلى ذلك في مواقف عديدة من أبرزها: ايمان السحرة، الذين أتى بهم فرعونه من كل حدب وصوب ليسحروا أعين الناس ويسترهبوهم ببهتانهم العظيم ولكن السحر انقلب على الساحر ودارت الدائرة على فرعون .. وآمن السحرة أجمعين بعد أن عاينوا الحق بأبصارهم، فعلموا أن ما أتى به موسى هو معجزة إلهية ابطلت سحرهم وابتلعت حبالهم وعصيهم، فسجدوا لله رب العالمين، وكفروا بفرعون وتبرأوا مما أكرههم عليه من السحر وأصدر فرعون أمراً بصلبهم وقتلهم جميعا فاستقبلوا الشهادة بنفوس راضية ولم يُبدلوا تبديلا.

 

قال تعالى حكايةً عنهم: (قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا، فاقض ما انت قاضٍ، انما تقضي هذه الحياة الدنيا، إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر ولله خير وأبقى)[طه:72ـ73].

 

قال ابن عباس رضي الله عنهما: كانوا في أول النهار سحره وفي آخر النهار شهداء بررة.

 

ان هذا الموقف المهيب الذي سطّره هؤلاء الشهداء التائبون بدمائهم.. وسطّره القرآن بأحرف من نور على صفحات الخلود.. يجب أن يكون حافزاً لكل مؤمن على وجه الأرض على الثبات على الحق حتى الرمق الأخير والصمود في وجه الباطل مهما كلف الثمن. وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: (ثلاث من كُنّ فيه وجد حلاوة الايمان: ان يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وان يحب المرء لا يحبه إلا لله، وان يكره ان يعود إلى الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره ان يُقذف في النار) رواه البخاري.

 

وختاماً: فهذه بعض العبر والدلالات التي تفيض بها هذه القصة الحافلة بالأحداث والمعجزات.. فهل يلتفت إليها المسلمون؟ ويستفيدوا منها في معركتهم الضاربة والمستمرة ضد الطواغيت والظالمين؟!!

 

وحتى تبقى دلالات هذه القصة حية في واقع المسلمين وشكراً لله عز وجل الذي أنجى موسى وأظهره على فرعون، أمر النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين بصيام يوم العاشر من محرم أي (عاشوراء) وحتى تحصل المخالفة لليهود، أمرنا أيضاً بصيام يوم التاسع من محرم أي (تاسوعاء). فنحن أحق بموسى منهم ولكن لا نتشبه بهم.

 

والحمد لله رب العالمين.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين