جرعة تفاؤل

 

   الحديثُ عن قوَّةِ العدوِّ ومخططاته ومكائده ضدَّ المسلمين وما يقابل ذلك من ضعفٍ وقلةِ حيلةٍ وغياب رؤى استراتيجية وتفاوتٍ هائلٍ في ميزان القوى، له مخرجاتٌ سَلبيةٌ أحيانًا وإيجابيةٌ أحيانًا أخرى. 

من أخطر سَلبياته تضخيمُ صورة العدوِّ بما يوقع في النفوس الرهبةَ منه، والاستكانةَ له، والإذعانَ لإرادته، والغفلةَ عن قوة العزيز الجبار وتدبيره، والشعورَ باليأس من فرَجٍ قريب. 

أما أحدُ أهمِّ مخرجاته الإيجابية فهو صدقُ التوكُّل على الله تعالى، والبراءةُ من الحول والقوة الذاتية إلى حوله وقوته، وقطعُ استشراف القلب عن الخَلق وجميع الأسباب المادية، وانتظارُ الفرج من الخالق الرحيم بلا سببٍ ظاهر، وهذه حالةُ الاضطرار التي لو وصَل إليها العبدُ على الحقيقة فإنَّ الفرجَ والتيسيرَ لا يتخلَّفُ عنها البتة. 

   وهذا ليس من التواكل والعجز المذموم بترك الأخذ بالأسباب كما يتوهَّمُ أكثرُ الناس، بل هو من التوكل الاضطراري الناشئ عن انقطاع جميع الأسباب الشرعية الممكنة، وانغلاقِ جميعِ الأبواب من قِبَلها، فلم يبقَ للعبد من سبيلٍ سوى التوكل، وهو أنفعُ مراتب التوكل على الإطلاق. 

 

  صورُ هذا كثيرةٌ في عامَّةِ قصص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. 

وإليك مثالٌ واحدٌ يُقرِّبُ لك الفكرة. 

 

عندما انسدَّت المخارجُ في وجه موسى عليه السلام لتخليص بني إسرائيل من ظلم وبطش آل فرعون، بلغ الإحباطُ بهم منتهاه، وكان باديًا على لهجتهم الاعتراضية اليائسة في حالةٍ أشبه ما تكون بحالة بعض شعوبنا المتململةِ من الحركات الإصلاحية اليوم: "قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا"  أي أنَّ الوضع القائم بعد بعثتك لم يغير شيئًا من تغوُّل الظالمين وتوحُّشهم، فماذا أغنت عنا رسالتُك وبعثتُك؟

أجابهم موسى عليه السلام: "عسى ربكم أن يُهلك عدوَّكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون". 

 

وقد كان ذلك بالفعل ولو بعد حين، وجاء الفرجُ بهلاك عدوِّهم عن آخره، ونجاتهم منه عن آخرهم بعد طول عناء وعذاب.. جاء الخلاصُ والنصرُ عند بلوغ الضيق ذروته وقد صاح القوم: "إنَّا لمدرَكون" وهم ينتظرون لحظةَ النهاية. 

جاء الفتحُ بأمرٍ معجِزٍ من حيث لا يحتسبُ أحد، عندما اجتمع شيئان:

- الاضطرارُ الذي يبلغُ بالعبد كمالَ التوكل وصدقَ التفويض. 

- ويقينُ الصالحين بمعية الله وحسن تدبيره لأوليائه المتمثلُ بقول موسى عليه السلام: "كلا إنَّ معي ربي سيهدين".

 

معاشرَ القانطين: 

 

إنَّ تركَ الأسبابِ عجزٌ .. لكنَّ الاعتمادَ عليها شرك!! 

وإذا قضى اللهُ أمرًا تعطَّلت الأسبابُ وهوَت الإرادات، وإنَّ أوسعَ المخارجِ في صدق التوكُّل على الحيِّ القيوم وحُسنِ الظنِّ به، وهو عند ظنِّ العباد به..

أفليس اللهُ بكافٍ عبدَه؟!

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين