العلماء بين الحركة والسكون

 

ظلت الأمة الإسلامية تمور بالعلماء عبر تاريخها الطويل، وكان للحياة العلمية مسارها الذي لا تتأثر فيه بتراجع الدولة، وبالفعل فإننا حين نستعرض حياة بعض العلماء وأعمالهم، ثم ننظر للظروف السياسية التي عاشوا فيها فإننا قد نجد أنها حياة سياسية منحطة، وبالرغم من ذلك فقد ظلت المدارس العلمية تنمو والحركة العلمية تتسع، وظل العلماء "المستقلون" في ظهور وبروز، واستمر الحال قريباً من عشرة قرون، ثم دخلت الحياة العلمية في غفوة، ما لبثت أن تحولت إلى سبات طويل.

كانت المدارس القائمة عصية على التلاشي، لكثرة المشتغلين فيها، بيد أن كثيراً من جهود أفراد العلماء الأفذاذ ضاعت، ولم تجد الاهتمام والرعاية اللازمة لاستمرارها.

كان من أهم سمات هذه المرحلة: الكسل والرضا بالواقع بل بالدون، وإعفاء النفس من أي جهد بحجة استقرار العلوم، وبدأ هذا الكسل يفتك في النفوس، حتى قضى عليها تقريباً حين أصَّل لها هذا العجز، وأعفاها من مهمة الاجتهاد والتجديد.

كانت الأحكام تؤخذ من الكتاب والسنة، وفق ضوابط الأصول والاجتهاد التي قررها العلماء، ثم جاء كبار العلماء فألفوا المتون، ثم جاء من حشّى على المتون، ثم جاءت الحواشي على الحواشي، وللثقة الكبيرة التي حظي بها هؤلاء العلماء الأعلام، فلربما اكتُفي بمتن أحدهم، ثم وللثقة في علماء الشروح، جاء من يكتفي بالشرح، وهكذا نجد أنفسنا في تدرج أبعدنا عن المصدر الأساس، الذي صار يقال لمن يدعو للاحتكام إليه من جديد: أأنت أعلم أم الإمام فلان؟ سؤال يغلق أي محاولة للبحث عن فهم جديد ورأي سديد. 

تلاشت بذلك جهود الأفراد، وبقي الأمر متاحاً لمن ينضوي تحت هذه المدارس، لكن هذا الدور مقيد، فقد قيل له: إن المذهب قد استقر وإن دورك لا يتعدى حفظ المتون والحواشي والنقول الموجودة!

قيل له: إن باب الاجتهاد لم يغلق، لكن لا يكاد يوجد مجتهد في هذا الزمان، وراح يعدد له شروط الاجتهاد التي لو طبق بعضها على بعض "المجتهدين" الأقدمين لسحبت منهم هذه المزية، أنتج هذا الحال علماءً ناشئين سماهم العلامة مصطفى الزرقا بالعلماء العوام، فيقول عنهم: ((فقد يكون الإنسان عالماً حافظاً للمسائل، مُطَّلعاً على الأقوال والآراء، ولكنه يحمل فكراً عامياً لا يستطيع التمييز والوزن والاصْطفاء. 

ومن ثم كان من الممكن أن يدس إليه الجهل في ثوب علم، والكذب في صورة صدق، وتدبَّ إليه السخافات على عكاز من الحقائق. 

وقد يبلغ العلم والاطلاع ببعض ذوي الفكر العامي أن يغنيك عن مراجعة الكتب فيسرد لك ما فيها من قول وقائل، ولكنه لا يستطيع أن يدلك على مواطن الهدى والصواب، وينير بصيرتك لأنه هو ليس نيِّر البصيرة، وفاقدُ الشيء لا يعطيه. 

فمَن هذا شأنه، فإن كل ما يمكن أن يبلغه بعلمه هو أن يكون باطلاعه ككتاب حي، والكتابُ قابلٌ لأن يكتب الإنسان فيه كل شيء ممَّا هبَّ ودبَّ من صحيح وفاسد، ومعقول ومرذول، ولباب وقشور؛ أو هو كمن يحترف الصيرفية والجوهرية وليس بصيرفي ولا جوهري)).

إذن: لم يعد الأمر حُسن فهم وتدبر لأمر أو نهي، وبراعة على القياس، ليس له إلا أن يقلِّد في إعادة الوضوء مثلاً إن مست بشرته بشرة زوجته، ولا يعبأ إن استحضر أن النبي صلى الله عليه وسلم قبَّل بعض زوجاته وخرج فصلى بالناس، لأنه مقلد ولم يبلغ درجة الاجتهاد، ولعله إن أخذ بقول الحنفية في هذا المثال يتهم بالتلفيق بين المذاهب، وتتبع الرخص!

ومع أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخيَّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما، فإنه لم يعد لبعض المفاهيم البدهية في التشريع دور ولا مكانة أمام قيود "التقليد" حتى لمن كان يملك مؤهلات الاجتهاد ولو الجزئي. 

بقي هذا الحال بضعة قرون، حتى بدأت حركة جديدة في أواخر الدولة العثمانية، تمثلت في مجموعة علماء رفضت هذا السكون والخمول، وبدأت بالحركة، وانطلقت للخروج من هذه البوتقة الضيقة التي أُريد للمسلمين أن يعيشوا فيها.

لم تهدم هذه الحركة جهود الأقدمين، ولم تنكر صلب بنيانهم، ولا صحة قواعدهم، لكنها أرادت العودة للمصدر الأساس، للفكرة الأساسية التي بدأها رواد هذه المدارس، وهنا قد تتفق هذه الحركة مع بعض آراء هذه المدارس، وقد تأتي بفهوم جديدة منضبطة بقواعد الاجتهاد. 

يقول العلامة القرضاوي: ((عدم تقليد الأئمة ليس حطّاً من شأنهم، بل سيراً على نهجهم، وتنفيذا لوصاياهم بألا نقلدهم، ولا نقلد غيرهم، ونأخذ من حيث أخذوا، كما أن عدم تقليدهم لا يعني الإعراض عن فقههم وتراثهم، بل ينبغي الرجوع إليه والاستفادة منه بمختلف مدارسه، دون تحيز ولا تعصب)).

لم يرق الأمر لأهل السكون والدعة والكسل، فتوجسوا من هؤلاء "الضلال" أو "الماسون" أو "الشيعة المتخفون بألقاب الأفغاني والباكستاني"، راح البعض يتهمهم بالعمالة، وآخرون تصوروا أن العلم محفوظ من ألفه إلى يائه في كتب المذاهب، وبالتالي فاتهموا كل من لا يحفظ هذه الكتب، ويعتمد عليها اعتمادا كليا، أو يأتي بما يخالفها، بمخالفة العلم، وقلة الباع في هذا الميدان! فضلا عن التشكيك بدينه!! 

لقد صارت خريطة العالم الإسلامي واضحة، مدارس السكون متمثلة في جماعات التعليم الشرعي على المنهج الصوفي، الذي يتبع شيوخاً قصروا الممارسة الدينية على المشاعر الروحانية والوجدانية، واعتنوا بالسلوك الفردي وتهذيبه، وجامعات علمية تقدم العلم كما أسلفنا متمثلاً بمتون وحواشٍ، وحواشٍ على الحواشي المتراكمة، ثم ينتقل خريجوها إلى العامة فيقتصروا في تعليمهم على الاستنجاء وأحكام الحيض والنفاس، وبعض أحكام الصلاة والصيام، حتى الشهادات العليا في هذه الجامعات لم تعد مظنة علم أصحابها، فهذا دكتور بالفقه المقارن لبحث كتبه عن الصلاة في الطائرة، وآخر عن إمامة الصغير، ولا يزيد بحث كلٍّ منهما عن النقول وتوثيقها، وأما العقلية العلمية والملكة الفقهية فلا تسأل عنها!

وظهرت جماعات سلفية حولت الفقه إلى عقيدة، واكتفت من ألوف علماء المسلمين ببضع عشرات أو أقل لا يجاوزونهم، ولا يقيمون اعتبارا لغيرهم.

ومما يثير الحزن والأسى أن لا ترى أي نتاج لمدارس السكون والدَّعَة أفضل من خدمة لكتب الأقدمين تحقيقاً وشرحاً وتعليقاً وتدريساً، وأما المؤلفات الأخرى فشيء ينكِّس الرأس، هذا يؤلف في قصص الكرامات، وذاك في عالم الجن، وآخر في كيفية إبطال السحر.

وعودة للحديث عن علماء الحركة، والحركة بركة، وهي علامة صحة وحيوية، فهذا الصنف من العلماء كما أسلفنا قدَّر جهد الأقدمين، لكنه لم يقف عندها، وراح يفكر في عمل علمي ينفع الأمة، فأصاب في أحايين كثيرة، وطبيعي أن لا يصيب في أخرى، وهذا حال البشر.

أراد علماء الحركة أن ينظروا للشريعة من زاوية تتيح للبصر أوسع مدًى من النظر، وبالتالي تعطي البصيرة أعلى حالات من الإحاطة والتأمل قبل تأصيل المسائل، يقول العلامة مصطفى الزرقا: ((الواقع أن كلّ مذهب اجتهادي كنافذة واحدة في بيت من دار كثيرة البيوت والنوافذ، فكل نافذة على حِدَة لا يمكن أن تري صاحبها إلا قوسًا جزئيًا من دائرة أفق الشريعة، ولكن الذي حبس نفسه أو حبسته التقاليد الموروثة على نافذة أحد البيوت يظنُّ ألَّا منظرَ يُعتدُّ به غير ما يراه، ولو عقل ونظر لعَلِم أن للبيوت الأخرى مزايا في المناظر أو الأهوية لا يوجَد مثلها عنده، وإن كان عنده من ناحيةٍ أخرى ما لا يوجد في تلك، ولَكَمْ يحتاج من يُشرف بيتُه من جهة على غِياض ورياض أن يُشرف من جهة أخرى على جبل أو سهل أفيحَ)).

إن الناظر في أسماء هؤلاء العلماء والمتأمل في مؤلفاتهم –نظرة إنصاف، وتأمل منطق- لن يجرؤ على اتهامهم بعمالة، ولا جهالة، أسماء كثيرة تحضرني، ومؤلفات عديدة تخطر ببالي، يمكن للمهتم الرجوع إليها، ومقارنتها مع نتاج علماء السكون طوال هذه الحقبة.

انتقلت السيرة من استعراض غزوات وحكايات ومرويات لا يصح كثير منها إلى فقه للسيرة، وتحول باب المعاملات إلى علم للاقتصاد الإسلامي، وتحولت مباحث بدائية للسياسة الشرعية إلى تأصيل للدولة والمجتمع، قُدِّمت علوم قديمة بثوب جديد يراعي الحال والمآل، فهذا الفقه الإسلامي في ثوبه الجديد، والمدخل الفقهي العام، والتشريع الجنائي في الإسلام، وقوانين الأحوال الشخصية، وذاك فقه الزكاة، وفقه الجهاد، إلى سلسلة طويلة ممتدة من الدراسات والبحوث العلمية المؤصلة.

أتفهم أن الجالس الساكن، يحاكم بطهرانية المتحرك العامل، وأتفهم أن الذي لا يعمل لن يخطئ، لكن ما لا أفهمه ولا أتفهمه أن يتحول هذا الخامل إلى أستاذ يحاضر في أصول الحركة والعمل.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين