مولد الهُدى واستراتيجية النصر القادم بإذن الله

 

 

يوم قال أمير الشعر أحمد شوقي (ولد الهدى فالكائنات ضياء) ما قالها من فراغ، إذ لا بد أنه قرأ الأحاديث التي ذكرت كيف أن الكون كله أضاء وهلل لمولد رسول الله صلى الله عليه وسلم، من مثل ما جاء في مسند الإمام أحمد رحمه الله تعالى عن أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ، رضي الله عنه، قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا بَدْءُ أَمْرِكَ؟ قَالَ: (دَعْوَةُ أَبِي إِبْرَاهِيمَ، وَبُشْرَى عِيسَى، وَرَأَتْ أُمِّي أَنَّهُ خَرَجَ مِنْهَا نُورٌ أَضَاءَتْ مِنْهُ قُصُورُ الشَّامِ).

وقد روي هذا الحديث في المسند، وغيره، بروايات متعددة عن مجموعة من الصحابة الكرام، منهم العرباض بن سارية رضي الله عنه.

ومن هذه الروايات ما أورده الآجُرِّي في كتاب «الشريعة» من حديث طويل عن دلائل النبوة، جاء فيه: (ثُمَّ إِنَّ أُمِّي رَأَتْ فِي الْمَنَامِ: أَنَّ الَّذِيَ فِي بَطْنِهَا نُورٌ قَالَتْ: فَجَعَلْتُ أُتْبِعُ النُّورَ بَصَرِي , فَجَعَلَ النُّورُ يَسْبِقُ بَصَرِي , حَتَّى أَضَاءَتْ لِي مَشَارِقُ الْأَرْضِ وَمَغَارِبُهَا)..

ولم لا وقد وصف الله تعالى نبينا صلى الله عليه وسلم بالنور، عندما قال سبحانه: ?.... قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين? فبإجماع المفسرين أن النور هو سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.

والأحاديث في كونه صلى الله عليه وسلم نورا، وأن البقاع التي يحل بها تستنير بنوره كثيرة، منها ما جاء في مسند الإمام أحمد عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، قَالَ: «لَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الَّذِي قَدِمَ فِيهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ أَضَاءَ مِنْهَا كُلُّ شَيْءٍ، فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الَّذِي مَاتَ فِيهِ أَظْلَمَ مِنْهَا كُلُّ شَيْءٍ».

والمقام يضيق على الحصر، وما لا شك فيه أن نبينا صلى الله عليه وسلم كان في سَمَاء النُّبُوَّة سِرَاجًا لامعا، وقمرا منيرا. لذلك مهما تكلم الواصفون، فهم عن إيفائه حقه صلى الله عليه وسلم مقصرون..

ويبقى لنا في ذلك العبر والعظات، والاتباع الصادق لمن اختاره لنا مبشرا ونذيرا رب الأرض والسماوات، سبحانه وتعالى.

موقع الشام في إرهاصات نبوة خير الأنام

ومن العبر والعظات، والإرشادات والتوجيهات، ما جاء في حديث الإرهاصات أنه خرج من بطن آمنة بنت وهب أم النبي صلى الله عليه وسلم نور أضاءت له قصور الشام.

وهل ذكر الشام للحصر أم للمثل؟ وسواء كان هذا أم ذاك فذكر الشام في الحديث له دلالاته البعيدة التي ينبغي أن نقف عندها اليوم، وبخاصة بعدما أدركنا أهمية هذه البقاع في استراتيجيات الدول، وليس أدل على ذلك من (فلسطين)، عروس الشام. ففي صحيح ابن حبان عَنِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ رضي الله عنه، قَالَ: فُتِحَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتْحٌ، فَأَتَيْتُهُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ سُيِّبَتِ الْخَيْلُ، وَوَضَعُوا السِّلَاحَ، فَقَدْ وَضَعَتِ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا، وَقَالُوا: لَا قِتَالَ, فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (كَذَبُوا الْآنَ جَاءَ الْقِتَالُ الْآنَ جَاءَ الْقِتَالُ، إِنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَلَا يُزِيغُ قُلُوبَ أَقْوَامٍ يُقَاتِلُونَهُمْ وَيَرْزُقُهُمُ اللَّهُ مِنْهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ عَلَى ذَلِكَ، وَعُقْرُ دَارِ المؤمنين الشام).

وللحديث رواية أخرى في سنن النسائي عَنْ سَلَمَةَ بْنِ نُفَيْلٍ الْكِنْدِيِّ رضي الله عنه، قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَذَالَ النَّاسُ الْخَيْلَ، وَوَضَعُوا السِّلَاحَ، وَقَالُوا: لَا جِهَادَ قَدْ وَضَعَتِ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا، فَأَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوَجْهِهِ، وَقَالَ: (كَذَبُوا الْآنَ، الْآنَ جَاءَ الْقِتَالُ، وَلَا يَزَالُ مِنْ أُمَّتِي أُمَّةٌ يُقَاتِلُونَ عَلَى الْحَقِّ، وَيُزِيغُ اللَّهُ لَهُمْ قُلُوبَ أَقْوَامٍ، وَيَرْزُقُهُمْ مِنْهُمْ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ، وَحَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ، وَالْخَيْلُ مَعْقُودٌ فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَهُوَ يُوحَى إِلَيَّ أَنِّي مَقْبُوضٌ غَيْرَ مُلَبَّثٍ، وَأَنْتُمْ تَتَّبِعُونِي أَفْنَادًا، يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ، وَعُقْرُ دَارِ الْمُؤْمِنِينَ الشَّامُ).

السنة والقرآن يرسمان استراتيجية الصراع

ولا يخفى ما جاء في فضائل بلاد الشام من حديث، إلا أن هذه الروايات التي تجعل من بلاد الشام عقر دار المؤمنين، تتقاطع مع العلامة الثالثة من علامات نبوته صلى الله عليه وسلم، ثم إذا ضممنا إليها حكايته سبحانه في سورة الإسراء، والتي تعرف أيضا بسورة بني إسرائيل، عما قضاه سبحانه لبني إسرائيل في الكتاب عن الإفسادتين اللتين تترافقان مع علو كبير في الأرض، وهذا في وقت لم يكن لليهود وجود يذكر في الأرض المقدسة، لأننا نعلم أن الصحابة استلموها من الروم الشرقيين الملكيين، وأن بَطْريقِهِم اشترط لنفسه ولقومه في العهدة العمرية ألا يساكنهم فيها يهود، إذا جمعنا هذا كله إلى بعضه، استطعنا أن نتلمس خطوطا استراتيجية لصراع بعيد المدى سيكون حول هذه الأرض المباركة، وأكاد أجزم بأن الصحابة الكرام رضوان الله عليهم، والناس من بعدهم، كانوا على خُبُرٍ بهذه الاسترتيجية،  لذلك وجدنا هِمَمَ الكبار تتوجه دائما نحو حفظ وحماية وتحرير بيت المقدس.  

ومن الدليل على ذلك ما جاء في حديث ابن عمر الصحيح المتفق عليه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (تُقَاتِلُكُمُ اليَهُودُ فَتُسَلَّطُونَ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ يَقُولُ الحَجَرُ يَا مُسْلِمُ هَذَا يَهُودِيٌّ وَرَائِي، فَاقْتُلْهُ). يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى في الفتح: « وهو إخبار بما يقع في مستقبل الزمان».

والإمام البخاري متوفى سنة (256ه)، والحافظ ابن حجر متوفة سنة (852ه) رحمه الله تعالى. فمن القرن الثالث زمن الإمام البخاري، إلى القرن التاسع زمن الحافظ ابن حجر، وهذا القتال لما يقع بعد، لذا عده العلماء من علامات نبوته صلى الله عليه وسلم.

وهذا الحديث الأخير له ظلال يمكن ان نتفيأها، ففي بدايته (تقاتلكم اليهود)، عبارة تدل على اجتماع اليهود، كل اليهود، لقتالنا. واليهود قوم جبناء لا يقاتلون إلا في قرى محصنة أو من وراء جدر، فما الذي أطمعهم بقتالنا وقد خبروا بأسنا عبر التاريخ؟ لا بد انه واقع مرير تعيشه الأمة: مشرذمةً، مفككة الأوصال، ضعيفة، خائرة القوى، الأمر الذي يُطمع الجبناء بها، وهل أصدق على هذا المعنى من واقعنا؟

لقد هُزِلَتْ حتى بدا من هُزالها .. كُلاها، وحتى سامَها كل مُفلِسِ

فكيف إذا انضاف إلى اجتماعهم دعم منقطع النظير من الأمم شرقا وغربا؟ وبخاصة بعد ذهاب الغطاء السياسي الذي يحمي الأمة من عوادي الأعداء!!

التسليط : من هم أهله؟

هذه هي الظلال التي تمد بفيئها علينا من خلال قوله صلى الله عليه وسلم: (تقاتلكم اليهود). ولكن، هل يقف الأمر عن هذا الحد؟ لا، إذْ (فتُسَلَّطُون عليهم) هكذا بالبناء للمجهول للدلالة على أن التسليط قَدَرٌ من مُقْتَدِرٍ قادرٍ لا يعجزه شيء لا في الأرض ولا في السماء، فكل جموع الأرض لن تصل إلى مبتغاها في اغتيال الإسلام بضرب مكامن القوة فيه، لأن الله تعالى من ورائهم محيط، وها هو يسلط عليهم في كل مكان ما يقض مضجعهم، ويعوق مخططاتهم، ويمهد للحظات النصر القادم، يوم يتشتتون أشتاتا وأفرادا، ويتوزعون أوزاعا، ويبحث كل واحد منهم عن النجاة لنفسه، فلا يجد ما يحميه أو يختبئ خلفه حتى لو كان حجرا، فمخلوقات الله تعالى كلها تقاتل مع عباده الموحدين الذين سخر الله تعالى لهم ما في السموات وما في الأرض جميعا منه.. فيقف الحجر مع المسلم ليقول له: (هَذَا يَهُودِيٌّ وَرَائِي، فَاقْتُلْهُ).

وطليعة عباد الله تعالى الموحدين الذين يسلطهم على يهود ومن هاودهم هم في اعتقادي الذي ذكروا في الحديث الصحيح: (لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي يُقَاتِلُونَ عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ عَلَى مَنْ نَاوَأَهُمْ..) كما في رواية أبي داود في السنن، وسموا في أكثر من حديث بأنهم أهل الشام بعامة، وأهل بيت المقدس بخاصة، كما في حديث أَبِي أُمَامَةَ رضي الله عنه، عند أحمد في المسند، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الدِّينِ ظَاهِرِينَ لَعَدُوِّهِمْ قَاهِرِينَ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ إِلَّا مَا أَصَابَهُمْ مِنْ لَأْوَاءَ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كَذَلِكَ) . قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ وَأَيْنَ هُمْ؟ قَالَ: (بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ وَأَكْنَافِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ).

ثم أكد هذا المعنى أمير المؤمنين معاوية رضي الله عنه، في خطبة له في أهل الشام، فقال: «يَا أَهْلَ الشَّامِ حَدَّثَنِي الْأَنْصَارِيُّ، يَعْنِي زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي يُقَاتِلُونَ عَلَى الْحَقِّ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ) وَإِنِّي أَرَاكُمُوهُمْ يَا أَهْلَ الشَّامِ» كما في رواية مسند الطيالسي.

قراءة تاريخية للعبرة والعظة

فالمعارك الفاصلة في حياة الأمة يسخر الله تعالى للمؤمنين فيها كل ما من شأنه أن يعينهم على النصر المبين.

فيوم معركة بيت المقدس الفاصلة بقيادة نبي الله تعالى يوشع بن نون، أوقف الله تعالى الشمس في كبد السماء كرامة لهذا النبي، وخدمة لمجريات المعركة.

ويوم صدق الرعيل الأولُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في بدر، أنزل الله تعالى لهم ملائكة، وأنزل المطر، وربط على قلوبهم، وثبتهم بكل أنواع التثبيت.

ولو استقرأنا معارك الإسلام الفاصلة سنجد في كل منها ما يؤيد ذلك.

 فالمعارك الحاسمة تحتاج إلى قلوب ثابتة صادقة في الطاعة والتضحية، ويكون العتاد أمرا استثنائيا، أليس الإيمان أقوى العدة على العدو؟  فكم ?مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ?.

هذه قراءة تاريخية في استراتيجية المعركة مع العدو الذي عنوانه (اليهود)، معركة تحتاج إلى كوكبة صادقة ثابتة الجنان، لا تزعزعها الرياح العاتية، ولا تحولها عن وجهتها الصحيحة، كل المطلوب منها أن تكون جزءً من قدر الله تعالى الذي يرمي به أعداءه.

رأينا تباشير التسليط في غزة، ونراه على ربى بلاد الشام، ولكن الأمة تحتاج أن تستلهم من كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم قواعد النصر، وبخاصة في مواجهة هذه الهجمة الجامعة لكل من له مع الإسلام ثأر قديم أو طمع حادث. وقد قال الله تعالى: ? وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً ?، يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: « أي: كما يجتمعون لقتالكم اجتمعوا أنتم أيضا لقتالهم، وقاتلوهم بنظير ما يفعلون».

إن بلاد الشام هي خاصرة الصراع المفتوح مع أعدائنا حتى يأتي أمر الله تعالى، والواجب في ذكرى مولد النور المبين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، أن نستلهم من سيرته العطرة، وعالمية دعوته سبل المواجهة السليمة، لأن الأمر بيد الله سبحانه ابتداءً وانتهاءً، فمن يرى في نفسه أنه يواجه هذا المشروع فعليه أن يجمع شتات أمره، وما تفرق من صفه، وأن تكون هناك رؤية واحدة، واستراتيجية موحدة. والبداية تبدأ من هنا: ? إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ?.

فإذا كان أهل الرباط ليسوا على قلب رجل واحد، فمعنى ذلك أن الخنجر اليهودي سيبقى إلى حينٍ مغروزا في صدر الأمة في بلاد الشام، وبخاصة في قلب الأمة (فلسطين)، وبالأخص في تاج وقارها (القدس).

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين