حاشية ابن عابدين في حلة جديدة - التعريف بطبعة جديدة للحاشية
حاشية ابن عابدين ....في حلة جديدة
دراسة مفصلة
بقلم الدكتور عبد الرحمن عبدالرحيم
(1)   – مقدمة :
      حسنا فعلت ، حين أقدمت دار الثقافة والتراث على نشر كتاب " حاشية ابن عابدين ، على كتاب رد المحتار على الدر المختار  " لمؤلفه المرحوم  " محمد أمين بن عمر الشهير بابن عابدين "  المتوفى في السنة الثانية والخمسين بعد المائتين والألف للهجرة . وأي جهد خلاق بذل ، وأي اجتهاد رائع أنجـز ، كان ثمـرة جهـود نفر من العلماء ، انكبـوا على نصوصه تحقيقا وتعليقا ، وفي طليعتهم الشيخ الدكتور حسام  الدين بن صالح فرفور جزاهم الله خيرعميماً ......
         وليس أجل من العمل في التراث صنعة ، ولا أجزل عند الله  ثوابا ، ولا سيما حين تشرع الهمة نفسها متصدية لمثل هذا العمل الكبير ، وما يعتوره من مصاعب ، وما يحيط به من إشكالات ، وما يتطلبـه العمل في إخراج  كتب الفقه ، وأحكام الفتاوى من دقـة وأنـاة وصبر.لقد جرى إنجـاز هذا العمل في زمن تغيرت مقاييسـه وانقلبت مفاهيمه، حتى صار العامل في كتب التراث ، والسير على سبيل تجديده وإحيائه ، كمن يبحر وسط بحر تتلاطمه الأمواج ، ودروب مليئة بالأشواك ، في زمن عزفت فيه أوساط واسعة من شبابنا عن تراثها ، وانصرفت عنه مزورة ، أغرتها الثقافات الهزيلة التي تنشرها الفضائيات المتهالكة المتوالدة  كل يوم كالفطور ، تُسوّق لنا  ثقافات ليس لنا فيها –   نحن العرب المسلمين – إلا النظر شزرا ، والغمز واللمز استخفافاً ....
        من هذه الرؤية أعيد القول مكررا : إن إنجاز العمل على صعوبته ، يعدُّ في وقتـه وزمانه ، خطوة تستحق من أصحاب الكلمة الصادقة ، والفكر النير ، التعبير عن اعتزازهم بهذا الإخراج الرائع والجليل لهذا الكتاب القيم ، ليكون موسوعة علمية في الفتاوى التي تنير السبيل أمام المسلمين في قضايا تتعلق بعباداتهم ، وأحوالهم الشخصية ومعاملاتهم اليومية ، وتدرأ عنهم سبل الشبهة ، وتبعدهم عن مواطن الخطأ والزلل ، ليجسدوا بذلك خلافة الإنسان على الأرض كما أرادها الله سبحانه وتعالى ...
        وأقر أنني لست مؤهلا لأن أقف موقف الناقد الممِّحص لهذا السِّفْر الكبير ، فأنا لست من أهل الاختصاص أولا ، ولأن التطاول في المقامات توقـع صاحبها مواقع التهلكة ثانيا . وسأحاول جاهدا أن أنظر إلى العمل نظرة العارض لما فيه ، الواصف لما جاء عليه ، عاملا قدر الإمكان على عرض ملاحظات عامة لجهد العلامة ابن عابدين في حاشيته ، والملاحظ لجهد النفر من الدارسين ، وما قامـوا بـه من دأب في ضوء ما اختطه لهم المحقق الأستاذ الدكتور حسام الدين فرفور ، بعد أن أنجز تحقيق الجزءين الأول والثاني ....
       ومن المفيد أن تتم الإشارة إلى ما دار من جدل في تراثنا الديني والأدبي حول مسألة التأليف عند الأولين ، والتصنيف والشروح عند المتأخرين ، لأن الحاشية تقع تحت تصنيف المتأخرين ، ومع ذلك فقد حازت فضل المتقدمين والمتأخرين  كما سيتضح ذلك لاحقا . لقد أفاض المنتصـرون للقدماء في أقوالهم وتآليفهـم حول بيان فضلهـم ، وكذلك فعل مؤيدو المتأخرين . وكان موقف ابن عابدين في الفصل في هذه المسألة مجليا ، فقد رأى " تفـوق كتب المتأخرين في الضبط والاختصار ، وجزالة الألفاظ ، وجمع المسائل " ، والتمس العذر للمتقدمين الذين كما قال : "  كان مصرف أذهانهم إلى استنباط  المسائل  وتقويم الدلائل  " ، وانتهى إلى القول : " وعلى كل فالفضل للأوائل  " (1)  . ومما لا شك فيه ، يبدو  حكم  ابن عابدين الآنف الذكر ، صادرا عن روية  وصدق ، تنم  عن ورع وتقى وألمعية وذكاء ....
        وفي حقيقة الأمر – كما أزعم – أن ما جاء به المتأخرون يعد  أكثر شمولاً ، وأبعد  سعة ، ذلك أن توالي الدهور وتعاقب السنين ، يؤدي إلى تراكم المعرفة ، فتجعل العلم أكثر إشـراقا ووضوحا ، فكيف بعلم الفقـه والفتاوى الذي يحتاج إلى مثل هذا الوقت ، وتتسـع احتياجاته تبعا لتطـور الحياة و تشعبها واتساع آفاقها ؟!!  وكيف به وقد اشتغل فيه خيـرة علماء هذه الأمة وأعلامها ، أفنوا أعمارهم فيه ، متحصنين بما أثر عنهم من ورع صاف ، وتقوى تبعدهم عن مواطن الزلل ، وإيمان راسخ  بهذه العقيدة السماوية السمحة ، وما أخال هولاء إلا وقد تقوست ظهورهم ،  وشحت أبصارهم ، وهم يتابعون بعقول متفتحة ، وأذهان متقدة بناء الأحكام الشرعية ، وإصدار الفتاوى ... وما أخالهم إلا أنهم من المقصودين بقوله تعالى ( إنما يخشى اللهَ من عباده العلماءُ )
(2)   – في وصف الكتاب :
وصل الكتاب الموسوعة ، إن صحت التسمية ، وهي كذلك حقا ، إلى ستة عشر جزءا من القطع الكبير  وقد طبع طباعة أنيقة ، بحروف كبيرة ، تسهل على القارئ المهتم قراءته ، وجاء تجليده فاخرا ، أكسبه لونه الأخضر بهاء دالا على ما بين دفتيه من خير وبركة ونماء وخصب ...
     وأحسب أن الأجزاء التي توزع عليها الكتاب ، ارتبطت بالمتن أولا وبدواعي التحقيق والتعليق ثانيا، فكانت الحاشية في بداياتها ونهاياتها تسير وفاق ذلك ، ويتجلى منذ البداية بناء الكتاب  بناء  منطقيا  أنتجه القياس الفطري  العربي (2) ،  حين نرى مجموعة المطالب التي تصدرت  الجزء الأول ، إذ حددت  بالاصطلاح ، والمنهج ، وإجـازة  المشـايخ والسـند ،والمحقق ، ومطالب البسملة والحمد ، والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأتبع صاحب الحاشية رحمه الله "  ذلك بعدد وافر من الترجمات  خصت الماتن ، " محمد بن عبد الله بن محمد إبراهيم الخطيب " وترجمة لسلسلة العلماء الذين أخذ  عنهم الماتن ، ولكل  من نقل عنهم .ثم يشرع الباب أمام التقسيم فيبتدأ بكتاب الطهارة ، وأسباب وجوبها ، وشرائطها  وصفتها ، وأركان الوضوء وسننه ، وآدابه ومكروهاته ، ونواقصه ، وسنن الغُسل وآدابـه وهكذا ينتهي الجزء الأول بقوله"انتهى بفضل من الله ومنه الجزء الأول من قسم العبادات " .....
     على أن تقسيم الكتاب على أساس موضوعاته بعيدا عن أجزائه ، جاء على ثلاثة أقسام كبرى ، كان أولها القسم المتعلق بالعبادات ، بدءا بالطهارة ، فالصلاة ، فالزكاة ، فالصوم ، فالحج ، وصنف  كل فرض  من الفرائض السابقة في  كتاب خاص ، فكان كتاب الصلاة ، فكتاب الزكاة .. وهكذا ، وقد جعل كل كتاب يقوم على عدد من الأبواب ، لم يرقمها ترقيما عدديا ، ثم تفرع كل باب إلى فصول عدة ، وقسم الفصول إلى مطالب ، ولم ينس أن يسجل بين الحين والآخر في مطاوي المطالب بعض الفوائد ، كلما كان إحساسه العلمي ، وإدراكه العقلي يفضي إلى ضرورة إثباتها،  استغرقت الكتب المشار إليهـا سبعة أجزاء كاملـة من الحاشية.
     واختص القسم الثاني بالفتاوى المتعلقة بالأحوال الشخصية ، فجعل القسم يقوم على كتب النكاح  المقسم  إلى أبواب النكاح وفصـل  فيه  المحـرمات ، ثم ، أتبعـه بباب الوالـي ، فالكفاءة ، فالمهر ، فنكاح الرقيق ، فنكاح الكافر ، والى ذلك بباب القسم ، فالرضاع . ثم فتح المؤلف كتابا جديدا للطلاق وأقسامه ، وقسمه إلى أبواب الطلاق الصـريح ، وطلاق غيـر المدخول عليها ، والكنايات ، وتفويض الطلاق ، والأمر باليد ، فالتعليق ، فطلاق المريض ، فالرجعـة  فالايلاء ، فالخلـع ، فالظهار ، فالكفـاءة ، فاللعـان ، فالعنين وغيره ، فالعدة ، فالحضانة ، فالنفقه ، وقد استغرقت تلك الكتب والأبواب ثلاثة أجزاء من الكتاب هي ، الثامن والتاسع والعاشر .
        وذهب  القسم الثالث إلى المعاملات ، فعنى  الجزء الحادي عشر بمعاملات  العتق والإيمان ، وكان  في مقدمتها كتاب العتق الذي انقسم إلى أبواب ، عتق البعض ، فالحلف بالعتق ، فالعتق على جعل ، فالتدبير ، فالاستيلاء ، فالإيمان . ثم حدد بابا للدخول والخروج والسكنى والإتيان والركوب وغير ذلك ، وبابا آخر في الأكل والشرب واللبس والكلام ، وبابا في الطلاق والعتاق ، فالبيع والشراء ، فالضرب والقتل وغير ذلك ، وبه انتهى الجزء الحادي عشر .
        ضم الجزء الثاني عشر أصول المعاملة في الحدود والسرقة والجهاد ، وكان مطلعها كتاب الحدود وأول أبوابه ، الوطء  الذي  يوجب الحد  والذي لا يوجبه ، فباب الشهادة على الزنى والرجوع عنها ، وباب حد الشرب ، فالقذف ، فالتعزير . وأفرد كتابا للسرقة بوبه إلى كيفية القطع وإثباته ،  وإلى قطع الطريق . ثم  أفرد  كتابا  للجهاد ، وجاء فيه  باب  للمغنم وقسمته ، وآخر لاستيلاء الكفار ، وثالث للمستأمن ، ورابع للعشر والخراج والجزية ، وبهذا الكتاب انتهى الجزء الثاني عشر .
      وأفرد الجزء  الثالث  عشر لاستكمال معاملات الجهاد ، وقدم فيه بابا  للمرتد ، وآخر للبغاة . ثم فتح كتابا جديدا  سماه كتاب اللقيط ، وكتابا آخر لللقطة ،  وكتابا للآبق و كتابا المفقود ، وكتاب الشركة .  وتلا ذلك كتاب الوقف ،  وفي سياق هذا الكتاب كثرت المطالب كثرة وافرة ، عللها المؤلف " رحمه الله ،مسميا إياها " فروعا  مهمة حدثت للفتوى " وانتهى الجزء الثالث عشر بمطلب بقضاء القاضي بخلاف مذهبه .
           ابتدأ الجزء الرابع عشر بكتاب البيوع وقسمه إلى أبواب ، خيار الشرط ، وخيار العيب ،  والبيع الفاسد  واستمرت أبواب كتاب  البيوع في الجزء الخامس عشر ، فشرح " الإقالة " في باب ، والمرابحة والتولية في باب ثان ،  وتعرض للربا في باب ثالث ، فباب الحقوق في البيع ، فباب الاستحقاق ، فالسلم ، وأتبع ذلك بباب للمتفرقات ، لما لم يرد ذكره فيما سبق ، وانتهى الجزء عند باب الصرف .
        تصدر الجزء السادس عشر كتاب الكفالة ،  فكتاب الحوالة ،  فكتاب القضاء  الذي جاءت فيه فصول ومطالب متعددة ، وألحق ذلك  بباب التحكيم ، واختتم  الجزء بما سـماه مسائل شتى ...
       على أن الجزء السادس عشر  ليس نهاية  مطاف الكتاب  الموسوعة ، ذلك أن محقق الجزءين الأول والثاني ، المشرف على مجموعة المجتهدين الأجلاء الذين تابعوا  الموضوع ،  كان  قد وعد القراء والمطلعين والمهتمين في الصفحة الخامسة من الجزء الأول ، وتحت عنوانه" تنبيه وبيان " ، بأنه سيفرد مجلدا خاصا  بدراسة  حاشية ابن عابدين ، وتشتمل على أمور عدة  منها ، منهجه في التحقيق ، وفي مطاوي المنهج دراسة عما ألف من الشـروح والحواشـي  والتقريرات  والفهارس  لكل  من تنوير الأبصار  والدر المختار  ورد  المحتار ومخطوطاتها في المكتبات العالمية ،  كما سيتطرق إلى  ترجمة  الماتن  "  التمر تاشي  " والشارح الحصفكي " والمحشي  " ابن عابدين  " والرافعي  صاحب التقريرات ،  وقضايا أخرى إضافة لما أشير إليه ....
         وبعد هذه موضوعات الموسوعة وأجزائها وكتبها ، وأبوابها ، أعترف أنني أطلت بعض الشيء في عرضها ،  و إن كانت قيمة الكتاب ونفاسة محتوياتـه تتطلب المزيد من التفصيل ، وفي ذلك التمس عذر الإطالة . وأول ما يتبدى من خلال ذلك العرض ، هذا النفس الطويل ، والدأب الكبير الذي اتسم به المؤلف ، ثم نرى هذه النظرة الموسوعية ،ليس في حصر الموضوعات على المستوى الأفقي فحسب ، بل نراه يتجه عمقا ليغوض في لجة ، الموضوعات ،  فيفصل ويفرع تارة ،  ويدقق ويمحص تارة أخرى ، وذلك بقصد  تيسير الفتاوى وإيضاحها  ، وإزالة اللبس  عنها ،  وكشف ما غمض في آثار الآخرين فيها . إن هاتين الملاحظتين وغيرهما سيكون لهما أفراد واسع فيما سيأتي من بحث " إن شاء الله " .
(3)  – منهج التأليف 
          على الرغم من كثرة الموضوعات ، وتعدد القضايا ، واستطالاتها وتشعبها وتنوعها ، نرى المؤلف " رحمه الله " ممسك بتلابيب موضوعه أو موضوعاته ، مقتديا بما جاء في المتن ، فما يكاد يبدأ موضوعا-ما- حتى نراه يخوض في أصله ومتنه ومضمونه ، ثم يلجأ إلى  التفريع ، ويعرض الحالة المشتقة من الأساس ، فيُحِسُّ القارئ ، وهو يتابع حكم الإفتاء . انه أمام بحث انسيابي كمن يبحر في قارب  وسط مياه  عذبة رقراقة ،  والأمثلة  والشواهد على  ما ذهبنا إليه كثيرة ، حتى أنها تسم الكتاب كله ...
        ويظهر في المؤلف الترتيب المنطقي المحكم الذي ينعكس في المظاهر الآتية :
-        في  ترتيب  المؤلف  الكتاب إلى أجزاء ، وكتب ، وأبواب ، وفصول ، ومطالب ، وأحيانا قليلة فوائد .... وعلى الرغم  من أن الصفة العامة للكتاب   كانت  تنهج  هذا المنهج ،  غير أنها لم  تكن عامة  متساوقة ، إذ  نراه يعتمد  الفصول تارة ،  ويتجاوزها تارة أخرى , ولم أتمكن من التوصل إلى نتيجة محددة في مراعاة هذا الأمر من عدمه .
-        في شرحه لبعض مصطلحات الترتيب السابق حينا وإغفاله أحيانا أخرى ، فجعل المدخل إلى الباب بتعريفه ، كما جرى الأمر في شروحه لباب المياه ، الذي أورده الماتن ، " ابن عابدين في شرحه للباب  " والباب لغة ما يتوصل  منه  إلى  غيره ، واصطلاحا :اسم الجملة مختصة من العلم مشتملة على فصول ومسائل غالبا .." (3).
-        ثم في شرحه للمسائل التي وردت في المتن ، إذ نراه يبدأ بالمعنى المعجمي ، فيقول معنى كذا لغة ، ثم ينتقل إلى الاصطلاح ،  ثم  ينتقل ليؤيد  ما ذهب إليه  المصطلح باقتباس من كتب الساف ، ثم يتابع  الشروح الأخرى ، ولا بد من الإشارة هنا ، إلى أن الاستعانة بالمعنى المعجمي ، لم تكن سائرة على نحو مطرد ، وكان المعول في استقدامها الحاجة والضرورة التي تبدت للمؤلف ، والملاحظ للمواضيع التي  جاءت فيها يستنتج  أن استعانة المؤلف بها كانت ناجمة عن رؤيته لخدمة المعنى  الشرعي .... فها  هوذا  يذهب في  مطلب تعريف الحمد  إلى  القول  " .... والحمد لغة  : الوصف بالجميل الاختياري على جهة التعظيم والتبجيل ، وعرفا : فعل يبنى على تعظيم المنعم بسبب إنعامه .. والشكر لغة يرادف ، الحمد عرفا ، وعرفا : صرف العبد جميع ما انعم الله تعالى عليه إلى ما خلق لأجله .." (4) .
ويعكس الكتاب مكانة واضعه ، ليجعله في مصاف الرجال الموسوعيين ،  ويقدمه على انه واحد من الرجال الأفذاذ الذين لم يكن ميدانهم الفكري  مختصا  بعلم الفقه   وإصدار الفتاوى ،  فقد تبدت في منهجه الثقافة  الموسوعية ،  فقد حفل  الكتاب  بمعرفة واسعة بالأعلام الذين نقل عنهم الماتن ، فها هو ذا يعلق  على منقول الماتن "  والوضوء  على الوضوء نور "  يقول ( هذا لفظ حديث ذكره في الإحياء ،  وقال الحافظ  العراقي ، في تخريجه " لم اقف عليه " وسبقه الحافظ المنذري  ، وقال الحافظ " ابن حجر" حديث ضعيف ) (5) .
        وتذهب ثقافة المؤلف الموسوعية في الاستعانة بعلوم النحو والصرف اللذين كان يفقههما جيدا والاتكاء عليهما ليعزز من خلالهما المصطلح أولا ، والمعنى الشرعي ثانيا للوصول إلى الفتوى . من ذلك ما جاء في معرض تعليقه على قول الماتن وشرحه عن الأذان ( " قوله : هو لغة الإعلام ، قال في القاموس : " آذنه الأمر وبه : أعلمه ، وأذن تأذينا :  أكثر  الإعلام "  فالأذان اسم مصدر ،  لان الماضي هنا  :  إذن المضاعف ، مصدره التأذين ") (6) .
       وتسطع في الكتاب على  نحو  جلي  لغة المؤلف التي  اتسمت بالوسطية ، التي فرضها مذهبه التعليمي في الكتاب ، فمن المعروف أنه – ومنذ أن  نشطت  الأمة  في تفريد علوم القرآن  وتدوين الحديث ، وشيوع الوعظ الديني في خلافة بني أمية –  ولد المحدثون من الزهاد لغة وسطى ، لم تكن بالمقعرة الصعبة ، ولم تكن سوقية تلهج  بها العامة في الأسواق ، وقد أدى الحسن البصري " رحمه الله " دورا مهما في هذا المجال . ومنذ ذلك الوقت حافظت  لغة  النثر عامة ، والنثر الديني على نحو خاص  على هذه اللغة ، وكان ابن عابدين واحدا من الرجال الذين التزموها في كتاب الحاشية ويمكن أن نشير هنا إلى  نقطة أخرى  تميز لغة الكاتب ،  وهي  خلو أسلوبه  من التعقيد والتكلف والصنعة ، تلك المظاهر التي طبعت أسلاف سابقيه فها نحن نقلب صفحات الكتاب  فلا نجد كلف السجع ، ولا التصوير ، لأن المؤلف كان يخاطب  عقول القارئين  المتلقين ، يريد  أن  ينقل  إليهم المعارف  المتعلقة  بالفتاوى  بأقصر الطرق ،  وأنقاها   لغـة .
ويبدو أسلوب المحشي سهلا هينا مفهوما ، تتهادى ألفاظه مترقرقة ، وتتناوب عباراته طولا وقصرا  ،  حسب مقتضى الحال ،  فكان  يلجأ إلى  مظاهر الإطناب  عن طريق الترادف حينا ، ويوجز في أحيان أخرى ، وقد تمكن على نحو إبداعي خلاق من استنفاذ الطاقات القصوى لكل فنون البديع ، لما لتلك الفنون من علاقة حيوية بالشرح والتوضيح اللذين يتطلبهما لبوس الترادف والازدواج حينا ، ولبوس المقابلة والتضاد حينا آخر ، كلما احتاج الأمر تعريف الشئ بضده .
(4)  – في جوانب التحقيق
           مما لا شك فيه  أن  جهودا  كبيرة بذلت في  تحقيق  هذا  السفر الثمين ،  وفـي  التعليق على نصوصه وكانت همة الأستاذ  الدكتور حسام الدين  فرفور مجلية ، لأنه  شـق  الطريق  وعبده لتحقيق الجزءين الأول والثاني ، واشرف اشرافاً مباشـر على تحقيق باقـي الأجزاء ، ففتح الباب على مصراعيه أمام جمهرة من الأساتذة الأجلاء الذين سـلكوا سـبيله وساروا على نهجه ، وهذ ا لا يقلل بأي حال من الأحوال جهودهم المشكورة ، نضرع إلى الله أن يثيبهم عنا احسن الجزاء ....
          وأول ما يمكن ملاحظته في التحقيق الأناة والصبر والجلد في متابعة السفر والدخول إلى نصوصه ، فلا يقدر على ذلك إلا أهل العلم المختصين الدارسين المتابعين ، وتتجلى مظاهر الأناة  والصبر في المعرفة  الدقيقة بمضامين  الأصل  "  المتن  "  ودواخل التحشية ، ومرامي التقريرات ، وترافق ذلك مع معرفة دقيقة بأسماء المصادر والمراجع ، وأسماء مؤلفيها ، فلا يقع بصر القارئ على أسماء المصادر وهي كثيرة ووافرة إلا ويرى في الحواشـي تعريفـا باسـم المصدر كاملا ، وترجمة لمؤلفه ، وهذا يسـتلزم جهدا ووقتا ورجوعا إلى أمهـات الكتب ، كل ذلك وفر للقارئ والمتعلم المزيد من الإيضاح ، وسهل الـسبيل أمام طالبي الاستزادة للعودة إلى المصادر التي اقتطفها المتن والحاشية والتقريرات .
        وثاني جوانب العطاء  والدأب ثبت الفهارس  التي ختمت  بها الأجزاء كلها ، حيث افرد التحقيق في نهاية كل جزء فهرسا لآيات القران الكريم ، وآخر للأحاديث النبوية الشريفة ، وثالثا للأعلام ،  ورابعا للكتب المترجمة ،  وفهرسا للموضوعات التي ضمها الجزء ..  يضاف إلـى ذلك الإجمال الذي تفرد به الجزء السابع ،  إذ جعل ختام قسم  العبادات ينتهي  بفهارس  إجمالية للأجزاء السبعة ، وكان قد تقدمها بضع  استدراكات  جاءت  على شكل جداول ، خص  الجدول الأول  منها  لاستدراكات  الحاشية الأصل  ،  والثاني للمطبوعة  البولاقية ، والثالث  للمطبوعة الميمنية . وجرى الأخذ بموضوع الاستدراكات في نهاية القسم الثاني المتعلق بالأحوال الشخصية ، والثالث المتعلق بالمعاملات  الذي استأثر بإضافة الاستدراكات على التقريرات ..  والحق  أن هذه الجداول تقدم للقارئ كشفا يؤمن مزيدا من الورع العلمي والدقة في التحقيق والإخراج .
       ونلحظ في الحواشي وهي كثيرة وغنية الأمانة  العلمية  الدقيقة ، ولا سيما حين  تختلط بعض الأسماء  المتشابهة  سواء  كان ذلك  في اسم  المؤلف أو المؤلف ، وذلك  بهدف  الإبانة والتوضيح ، ونمثل ذلك في الحواشي : 1/ 33 ، 1/37 .  وتتبدى  فيها  أيضا بعد نظر واسع وذلك بقصد كشف الالتباس ، ولو أدى ذلك إلى إطالة الحاشية 1/146 /147/148 .
      ويسطع على نحو جلي الثقافة الأدبية في التحقيق ولا سيما في تخريج الأبيات التي وقعت شواهد ، ونسبة الأبيات إلى أصحابها ، وأحيانا مناسبة الأبيات كما في حواشي الصفحات  1/47 ،1/68 ، 1/76 .
         وكانت العناية الفائقة  في  ترتيب  السِّفر  وإخراجه ، فتَزَيَّن  بالطباعة الأنيقة ،  والخط الكبير ، والفصل بين المتن والحاشية والتقريرات رائعا ترك فراغات واسعة لإبعاد جوانب اللبس ، وتيسير السبيل أمام القارئ ، وكانت متانة التجليد رائعة أعطت الجانب الجمالي بعداً يحمد أصحاب دار النشر عليه .
     وخلاصة القول أن تحقيق هذا السفر إنجاز طيب ، يفخر به كل من اسهم فيه ، ولا يسع المتطلع والقارئ إلا  أن يتوجه بالشكر والعرفان لفريق العمل كاملا .. نسأل الله أن يبصر أجيالنا بعلوم دينهم ودنياهم .
الحواشي :
(1)    – ينظر 1/97 .
(2)    – العبارة ليست للكاتب ، وإنما مستقاة من كتاب ( أدب السياسة في العصر الأموي ) للدكتور احمد محمد الحوفي .
(3)    – ينظر 1/597 .
(4)    – ينظر 1/21 .
(5)    – ينظر 1/309 .
(6)    – ينظر 2/569 .
 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين