حاشية ابن عابدين ....في حلة جديدة
دراسة مفصلة
بقلم الدكتور عبد الرحمن عبدالرحيم
دراسة مفصلة
بقلم الدكتور عبد الرحمن عبدالرحيم
(1) – مقدمة :
حسنا فعلت ، حين أقدمت دار الثقافة والتراث على نشر كتاب " حاشية ابن عابدين ، على كتاب رد المحتار على الدر المختار " لمؤلفه المرحوم " محمد أمين بن عمر الشهير بابن عابدين " المتوفى في السنة الثانية والخمسين بعد المائتين والألف للهجرة . وأي جهد خلاق بذل ، وأي اجتهاد رائع أنجـز ، كان ثمـرة جهـود نفر من العلماء ، انكبـوا على نصوصه تحقيقا وتعليقا ، وفي طليعتهم الشيخ الدكتور حسام الدين بن صالح فرفور جزاهم الله خيرعميماً ......
وليس أجل من العمل في التراث صنعة ، ولا أجزل عند الله ثوابا ، ولا سيما حين تشرع الهمة نفسها متصدية لمثل هذا العمل الكبير ، وما يعتوره من مصاعب ، وما يحيط به من إشكالات ، وما يتطلبـه العمل في إخراج كتب الفقه ، وأحكام الفتاوى من دقـة وأنـاة وصبر.لقد جرى إنجـاز هذا العمل في زمن تغيرت مقاييسـه وانقلبت مفاهيمه، حتى صار العامل في كتب التراث ، والسير على سبيل تجديده وإحيائه ، كمن يبحر وسط بحر تتلاطمه الأمواج ، ودروب مليئة بالأشواك ، في زمن عزفت فيه أوساط واسعة من شبابنا عن تراثها ، وانصرفت عنه مزورة ، أغرتها الثقافات الهزيلة التي تنشرها الفضائيات المتهالكة المتوالدة كل يوم كالفطور ، تُسوّق لنا ثقافات ليس لنا فيها – نحن العرب المسلمين – إلا النظر شزرا ، والغمز واللمز استخفافاً ....
من هذه الرؤية أعيد القول مكررا : إن إنجاز العمل على صعوبته ، يعدُّ في وقتـه وزمانه ، خطوة تستحق من أصحاب الكلمة الصادقة ، والفكر النير ، التعبير عن اعتزازهم بهذا الإخراج الرائع والجليل لهذا الكتاب القيم ، ليكون موسوعة علمية في الفتاوى التي تنير السبيل أمام المسلمين في قضايا تتعلق بعباداتهم ، وأحوالهم الشخصية ومعاملاتهم اليومية ، وتدرأ عنهم سبل الشبهة ، وتبعدهم عن مواطن الخطأ والزلل ، ليجسدوا بذلك خلافة الإنسان على الأرض كما أرادها الله سبحانه وتعالى ...
وأقر أنني لست مؤهلا لأن أقف موقف الناقد الممِّحص لهذا السِّفْر الكبير ، فأنا لست من أهل الاختصاص أولا ، ولأن التطاول في المقامات توقـع صاحبها مواقع التهلكة ثانيا . وسأحاول جاهدا أن أنظر إلى العمل نظرة العارض لما فيه ، الواصف لما جاء عليه ، عاملا قدر الإمكان على عرض ملاحظات عامة لجهد العلامة ابن عابدين في حاشيته ، والملاحظ لجهد النفر من الدارسين ، وما قامـوا بـه من دأب في ضوء ما اختطه لهم المحقق الأستاذ الدكتور حسام الدين فرفور ، بعد أن أنجز تحقيق الجزءين الأول والثاني ....
ومن المفيد أن تتم الإشارة إلى ما دار من جدل في تراثنا الديني والأدبي حول مسألة التأليف عند الأولين ، والتصنيف والشروح عند المتأخرين ، لأن الحاشية تقع تحت تصنيف المتأخرين ، ومع ذلك فقد حازت فضل المتقدمين والمتأخرين كما سيتضح ذلك لاحقا . لقد أفاض المنتصـرون للقدماء في أقوالهم وتآليفهـم حول بيان فضلهـم ، وكذلك فعل مؤيدو المتأخرين . وكان موقف ابن عابدين في الفصل في هذه المسألة مجليا ، فقد رأى " تفـوق كتب المتأخرين في الضبط والاختصار ، وجزالة الألفاظ ، وجمع المسائل " ، والتمس العذر للمتقدمين الذين كما قال : " كان مصرف أذهانهم إلى استنباط المسائل وتقويم الدلائل " ، وانتهى إلى القول : " وعلى كل فالفضل للأوائل " (1) . ومما لا شك فيه ، يبدو حكم ابن عابدين الآنف الذكر ، صادرا عن روية وصدق ، تنم عن ورع وتقى وألمعية وذكاء ....
وفي حقيقة الأمر – كما أزعم – أن ما جاء به المتأخرون يعد أكثر شمولاً ، وأبعد سعة ، ذلك أن توالي الدهور وتعاقب السنين ، يؤدي إلى تراكم المعرفة ، فتجعل العلم أكثر إشـراقا ووضوحا ، فكيف بعلم الفقـه والفتاوى الذي يحتاج إلى مثل هذا الوقت ، وتتسـع احتياجاته تبعا لتطـور الحياة و تشعبها واتساع آفاقها ؟!! وكيف به وقد اشتغل فيه خيـرة علماء هذه الأمة وأعلامها ، أفنوا أعمارهم فيه ، متحصنين بما أثر عنهم من ورع صاف ، وتقوى تبعدهم عن مواطن الزلل ، وإيمان راسخ بهذه العقيدة السماوية السمحة ، وما أخال هولاء إلا وقد تقوست ظهورهم ، وشحت أبصارهم ، وهم يتابعون بعقول متفتحة ، وأذهان متقدة بناء الأحكام الشرعية ، وإصدار الفتاوى ... وما أخالهم إلا أنهم من المقصودين بقوله تعالى ( إنما يخشى اللهَ من عباده العلماءُ )
(2) – في وصف الكتاب :
وصل الكتاب الموسوعة ، إن صحت التسمية ، وهي كذلك حقا ، إلى ستة عشر جزءا من القطع الكبير وقد طبع طباعة أنيقة ، بحروف كبيرة ، تسهل على القارئ المهتم قراءته ، وجاء تجليده فاخرا ، أكسبه لونه الأخضر بهاء دالا على ما بين دفتيه من خير وبركة ونماء وخصب ...
وأحسب أن الأجزاء التي توزع عليها الكتاب ، ارتبطت بالمتن أولا وبدواعي التحقيق والتعليق ثانيا، فكانت الحاشية في بداياتها ونهاياتها تسير وفاق ذلك ، ويتجلى منذ البداية بناء الكتاب بناء منطقيا أنتجه القياس الفطري العربي (2) ، حين نرى مجموعة المطالب التي تصدرت الجزء الأول ، إذ حددت بالاصطلاح ، والمنهج ، وإجـازة المشـايخ والسـند ،والمحقق ، ومطالب البسملة والحمد ، والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأتبع صاحب الحاشية رحمه الله " ذلك بعدد وافر من الترجمات خصت الماتن ، " محمد بن عبد الله بن محمد إبراهيم الخطيب " وترجمة لسلسلة العلماء الذين أخذ عنهم الماتن ، ولكل من نقل عنهم .ثم يشرع الباب أمام التقسيم فيبتدأ بكتاب الطهارة ، وأسباب وجوبها ، وشرائطها وصفتها ، وأركان الوضوء وسننه ، وآدابه ومكروهاته ، ونواقصه ، وسنن الغُسل وآدابـه وهكذا ينتهي الجزء الأول بقوله"انتهى بفضل من الله ومنه الجزء الأول من قسم العبادات " .....
على أن تقسيم الكتاب على أساس موضوعاته بعيدا عن أجزائه ، جاء على ثلاثة أقسام كبرى ، كان أولها القسم المتعلق بالعبادات ، بدءا بالطهارة ، فالصلاة ، فالزكاة ، فالصوم ، فالحج ، وصنف كل فرض من الفرائض السابقة في كتاب خاص ، فكان كتاب الصلاة ، فكتاب الزكاة .. وهكذا ، وقد جعل كل كتاب يقوم على عدد من الأبواب ، لم يرقمها ترقيما عدديا ، ثم تفرع كل باب إلى فصول عدة ، وقسم الفصول إلى مطالب ، ولم ينس أن يسجل بين الحين والآخر في مطاوي المطالب بعض الفوائد ، كلما كان إحساسه العلمي ، وإدراكه العقلي يفضي إلى ضرورة إثباتها، استغرقت الكتب المشار إليهـا سبعة أجزاء كاملـة من الحاشية.
واختص القسم الثاني بالفتاوى المتعلقة بالأحوال الشخصية ، فجعل القسم يقوم على كتب النكاح المقسم إلى أبواب النكاح وفصـل فيه المحـرمات ، ثم ، أتبعـه بباب الوالـي ، فالكفاءة ، فالمهر ، فنكاح الرقيق ، فنكاح الكافر ، والى ذلك بباب القسم ، فالرضاع . ثم فتح المؤلف كتابا جديدا للطلاق وأقسامه ، وقسمه إلى أبواب الطلاق الصـريح ، وطلاق غيـر المدخول عليها ، والكنايات ، وتفويض الطلاق ، والأمر باليد ، فالتعليق ، فطلاق المريض ، فالرجعـة فالايلاء ، فالخلـع ، فالظهار ، فالكفـاءة ، فاللعـان ، فالعنين وغيره ، فالعدة ، فالحضانة ، فالنفقه ، وقد استغرقت تلك الكتب والأبواب ثلاثة أجزاء من الكتاب هي ، الثامن والتاسع والعاشر .
وذهب القسم الثالث إلى المعاملات ، فعنى الجزء الحادي عشر بمعاملات العتق والإيمان ، وكان في مقدمتها كتاب العتق الذي انقسم إلى أبواب ، عتق البعض ، فالحلف بالعتق ، فالعتق على جعل ، فالتدبير ، فالاستيلاء ، فالإيمان . ثم حدد بابا للدخول والخروج والسكنى والإتيان والركوب وغير ذلك ، وبابا آخر في الأكل والشرب واللبس والكلام ، وبابا في الطلاق والعتاق ، فالبيع والشراء ، فالضرب والقتل وغير ذلك ، وبه انتهى الجزء الحادي عشر .
ضم الجزء الثاني عشر أصول المعاملة في الحدود والسرقة والجهاد ، وكان مطلعها كتاب الحدود وأول أبوابه ، الوطء الذي يوجب الحد والذي لا يوجبه ، فباب الشهادة على الزنى والرجوع عنها ، وباب حد الشرب ، فالقذف ، فالتعزير . وأفرد كتابا للسرقة بوبه إلى كيفية القطع وإثباته ، وإلى قطع الطريق . ثم أفرد كتابا للجهاد ، وجاء فيه باب للمغنم وقسمته ، وآخر لاستيلاء الكفار ، وثالث للمستأمن ، ورابع للعشر والخراج والجزية ، وبهذا الكتاب انتهى الجزء الثاني عشر .
وأفرد الجزء الثالث عشر لاستكمال معاملات الجهاد ، وقدم فيه بابا للمرتد ، وآخر للبغاة . ثم فتح كتابا جديدا سماه كتاب اللقيط ، وكتابا آخر لللقطة ، وكتابا للآبق و كتابا المفقود ، وكتاب الشركة . وتلا ذلك كتاب الوقف ، وفي سياق هذا الكتاب كثرت المطالب كثرة وافرة ، عللها المؤلف " رحمه الله ،مسميا إياها " فروعا مهمة حدثت للفتوى " وانتهى الجزء الثالث عشر بمطلب بقضاء القاضي بخلاف مذهبه .
ابتدأ الجزء الرابع عشر بكتاب البيوع وقسمه إلى أبواب ، خيار الشرط ، وخيار العيب ، والبيع الفاسد واستمرت أبواب كتاب البيوع في الجزء الخامس عشر ، فشرح " الإقالة " في باب ، والمرابحة والتولية في باب ثان ، وتعرض للربا في باب ثالث ، فباب الحقوق في البيع ، فباب الاستحقاق ، فالسلم ، وأتبع ذلك بباب للمتفرقات ، لما لم يرد ذكره فيما سبق ، وانتهى الجزء عند باب الصرف .
تصدر الجزء السادس عشر كتاب الكفالة ، فكتاب الحوالة ، فكتاب القضاء الذي جاءت فيه فصول ومطالب متعددة ، وألحق ذلك بباب التحكيم ، واختتم الجزء بما سـماه مسائل شتى ...
على أن الجزء السادس عشر ليس نهاية مطاف الكتاب الموسوعة ، ذلك أن محقق الجزءين الأول والثاني ، المشرف على مجموعة المجتهدين الأجلاء الذين تابعوا الموضوع ، كان قد وعد القراء والمطلعين والمهتمين في الصفحة الخامسة من الجزء الأول ، وتحت عنوانه" تنبيه وبيان " ، بأنه سيفرد مجلدا خاصا بدراسة حاشية ابن عابدين ، وتشتمل على أمور عدة منها ، منهجه في التحقيق ، وفي مطاوي المنهج دراسة عما ألف من الشـروح والحواشـي والتقريرات والفهارس لكل من تنوير الأبصار والدر المختار ورد المحتار ومخطوطاتها في المكتبات العالمية ، كما سيتطرق إلى ترجمة الماتن " التمر تاشي " والشارح الحصفكي " والمحشي " ابن عابدين " والرافعي صاحب التقريرات ، وقضايا أخرى إضافة لما أشير إليه ....
وبعد هذه موضوعات الموسوعة وأجزائها وكتبها ، وأبوابها ، أعترف أنني أطلت بعض الشيء في عرضها ، و إن كانت قيمة الكتاب ونفاسة محتوياتـه تتطلب المزيد من التفصيل ، وفي ذلك التمس عذر الإطالة . وأول ما يتبدى من خلال ذلك العرض ، هذا النفس الطويل ، والدأب الكبير الذي اتسم به المؤلف ، ثم نرى هذه النظرة الموسوعية ،ليس في حصر الموضوعات على المستوى الأفقي فحسب ، بل نراه يتجه عمقا ليغوض في لجة ، الموضوعات ، فيفصل ويفرع تارة ، ويدقق ويمحص تارة أخرى ، وذلك بقصد تيسير الفتاوى وإيضاحها ، وإزالة اللبس عنها ، وكشف ما غمض في آثار الآخرين فيها . إن هاتين الملاحظتين وغيرهما سيكون لهما أفراد واسع فيما سيأتي من بحث " إن شاء الله " .
(3) – منهج التأليف
على الرغم من كثرة الموضوعات ، وتعدد القضايا ، واستطالاتها وتشعبها وتنوعها ، نرى المؤلف " رحمه الله " ممسك بتلابيب موضوعه أو موضوعاته ، مقتديا بما جاء في المتن ، فما يكاد يبدأ موضوعا-ما- حتى نراه يخوض في أصله ومتنه ومضمونه ، ثم يلجأ إلى التفريع ، ويعرض الحالة المشتقة من الأساس ، فيُحِسُّ القارئ ، وهو يتابع حكم الإفتاء . انه أمام بحث انسيابي كمن يبحر في قارب وسط مياه عذبة رقراقة ، والأمثلة والشواهد على ما ذهبنا إليه كثيرة ، حتى أنها تسم الكتاب كله ...
ويظهر في المؤلف الترتيب المنطقي المحكم الذي ينعكس في المظاهر الآتية :
- في ترتيب المؤلف الكتاب إلى أجزاء ، وكتب ، وأبواب ، وفصول ، ومطالب ، وأحيانا قليلة فوائد .... وعلى الرغم من أن الصفة العامة للكتاب كانت تنهج هذا المنهج ، غير أنها لم تكن عامة متساوقة ، إذ نراه يعتمد الفصول تارة ، ويتجاوزها تارة أخرى , ولم أتمكن من التوصل إلى نتيجة محددة في مراعاة هذا الأمر من عدمه .
- في شرحه لبعض مصطلحات الترتيب السابق حينا وإغفاله أحيانا أخرى ، فجعل المدخل إلى الباب بتعريفه ، كما جرى الأمر في شروحه لباب المياه ، الذي أورده الماتن ، " ابن عابدين في شرحه للباب " والباب لغة ما يتوصل منه إلى غيره ، واصطلاحا :اسم الجملة مختصة من العلم مشتملة على فصول ومسائل غالبا .." (3).
- ثم في شرحه للمسائل التي وردت في المتن ، إذ نراه يبدأ بالمعنى المعجمي ، فيقول معنى كذا لغة ، ثم ينتقل إلى الاصطلاح ، ثم ينتقل ليؤيد ما ذهب إليه المصطلح باقتباس من كتب الساف ، ثم يتابع الشروح الأخرى ، ولا بد من الإشارة هنا ، إلى أن الاستعانة بالمعنى المعجمي ، لم تكن سائرة على نحو مطرد ، وكان المعول في استقدامها الحاجة والضرورة التي تبدت للمؤلف ، والملاحظ للمواضيع التي جاءت فيها يستنتج أن استعانة المؤلف بها كانت ناجمة عن رؤيته لخدمة المعنى الشرعي .... فها هوذا يذهب في مطلب تعريف الحمد إلى القول " .... والحمد لغة : الوصف بالجميل الاختياري على جهة التعظيم والتبجيل ، وعرفا : فعل يبنى على تعظيم المنعم بسبب إنعامه .. والشكر لغة يرادف ، الحمد عرفا ، وعرفا : صرف العبد جميع ما انعم الله تعالى عليه إلى ما خلق لأجله .." (4) .
ويعكس الكتاب مكانة واضعه ، ليجعله في مصاف الرجال الموسوعيين ، ويقدمه على انه واحد من الرجال الأفذاذ الذين لم يكن ميدانهم الفكري مختصا بعلم الفقه وإصدار الفتاوى ، فقد تبدت في منهجه الثقافة الموسوعية ، فقد حفل الكتاب بمعرفة واسعة بالأعلام الذين نقل عنهم الماتن ، فها هو ذا يعلق على منقول الماتن " والوضوء على الوضوء نور " يقول ( هذا لفظ حديث ذكره في الإحياء ، وقال الحافظ العراقي ، في تخريجه " لم اقف عليه " وسبقه الحافظ المنذري ، وقال الحافظ " ابن حجر" حديث ضعيف ) (5) .
وتذهب ثقافة المؤلف الموسوعية في الاستعانة بعلوم النحو والصرف اللذين كان يفقههما جيدا والاتكاء عليهما ليعزز من خلالهما المصطلح أولا ، والمعنى الشرعي ثانيا للوصول إلى الفتوى . من ذلك ما جاء في معرض تعليقه على قول الماتن وشرحه عن الأذان ( " قوله : هو لغة الإعلام ، قال في القاموس : " آذنه الأمر وبه : أعلمه ، وأذن تأذينا : أكثر الإعلام " فالأذان اسم مصدر ، لان الماضي هنا : إذن المضاعف ، مصدره التأذين ") (6) .
وتسطع في الكتاب على نحو جلي لغة المؤلف التي اتسمت بالوسطية ، التي فرضها مذهبه التعليمي في الكتاب ، فمن المعروف أنه – ومنذ أن نشطت الأمة في تفريد علوم القرآن وتدوين الحديث ، وشيوع الوعظ الديني في خلافة بني أمية – ولد المحدثون من الزهاد لغة وسطى ، لم تكن بالمقعرة الصعبة ، ولم تكن سوقية تلهج بها العامة في الأسواق ، وقد أدى الحسن البصري " رحمه الله " دورا مهما في هذا المجال . ومنذ ذلك الوقت حافظت لغة النثر عامة ، والنثر الديني على نحو خاص على هذه اللغة ، وكان ابن عابدين واحدا من الرجال الذين التزموها في كتاب الحاشية ويمكن أن نشير هنا إلى نقطة أخرى تميز لغة الكاتب ، وهي خلو أسلوبه من التعقيد والتكلف والصنعة ، تلك المظاهر التي طبعت أسلاف سابقيه فها نحن نقلب صفحات الكتاب فلا نجد كلف السجع ، ولا التصوير ، لأن المؤلف كان يخاطب عقول القارئين المتلقين ، يريد أن ينقل إليهم المعارف المتعلقة بالفتاوى بأقصر الطرق ، وأنقاها لغـة .
ويبدو أسلوب المحشي سهلا هينا مفهوما ، تتهادى ألفاظه مترقرقة ، وتتناوب عباراته طولا وقصرا ، حسب مقتضى الحال ، فكان يلجأ إلى مظاهر الإطناب عن طريق الترادف حينا ، ويوجز في أحيان أخرى ، وقد تمكن على نحو إبداعي خلاق من استنفاذ الطاقات القصوى لكل فنون البديع ، لما لتلك الفنون من علاقة حيوية بالشرح والتوضيح اللذين يتطلبهما لبوس الترادف والازدواج حينا ، ولبوس المقابلة والتضاد حينا آخر ، كلما احتاج الأمر تعريف الشئ بضده .
(4) – في جوانب التحقيق
مما لا شك فيه أن جهودا كبيرة بذلت في تحقيق هذا السفر الثمين ، وفـي التعليق على نصوصه وكانت همة الأستاذ الدكتور حسام الدين فرفور مجلية ، لأنه شـق الطريق وعبده لتحقيق الجزءين الأول والثاني ، واشرف اشرافاً مباشـر على تحقيق باقـي الأجزاء ، ففتح الباب على مصراعيه أمام جمهرة من الأساتذة الأجلاء الذين سـلكوا سـبيله وساروا على نهجه ، وهذ ا لا يقلل بأي حال من الأحوال جهودهم المشكورة ، نضرع إلى الله أن يثيبهم عنا احسن الجزاء ....
وأول ما يمكن ملاحظته في التحقيق الأناة والصبر والجلد في متابعة السفر والدخول إلى نصوصه ، فلا يقدر على ذلك إلا أهل العلم المختصين الدارسين المتابعين ، وتتجلى مظاهر الأناة والصبر في المعرفة الدقيقة بمضامين الأصل " المتن " ودواخل التحشية ، ومرامي التقريرات ، وترافق ذلك مع معرفة دقيقة بأسماء المصادر والمراجع ، وأسماء مؤلفيها ، فلا يقع بصر القارئ على أسماء المصادر وهي كثيرة ووافرة إلا ويرى في الحواشـي تعريفـا باسـم المصدر كاملا ، وترجمة لمؤلفه ، وهذا يسـتلزم جهدا ووقتا ورجوعا إلى أمهـات الكتب ، كل ذلك وفر للقارئ والمتعلم المزيد من الإيضاح ، وسهل الـسبيل أمام طالبي الاستزادة للعودة إلى المصادر التي اقتطفها المتن والحاشية والتقريرات .
وثاني جوانب العطاء والدأب ثبت الفهارس التي ختمت بها الأجزاء كلها ، حيث افرد التحقيق في نهاية كل جزء فهرسا لآيات القران الكريم ، وآخر للأحاديث النبوية الشريفة ، وثالثا للأعلام ، ورابعا للكتب المترجمة ، وفهرسا للموضوعات التي ضمها الجزء .. يضاف إلـى ذلك الإجمال الذي تفرد به الجزء السابع ، إذ جعل ختام قسم العبادات ينتهي بفهارس إجمالية للأجزاء السبعة ، وكان قد تقدمها بضع استدراكات جاءت على شكل جداول ، خص الجدول الأول منها لاستدراكات الحاشية الأصل ، والثاني للمطبوعة البولاقية ، والثالث للمطبوعة الميمنية . وجرى الأخذ بموضوع الاستدراكات في نهاية القسم الثاني المتعلق بالأحوال الشخصية ، والثالث المتعلق بالمعاملات الذي استأثر بإضافة الاستدراكات على التقريرات .. والحق أن هذه الجداول تقدم للقارئ كشفا يؤمن مزيدا من الورع العلمي والدقة في التحقيق والإخراج .
ونلحظ في الحواشي وهي كثيرة وغنية الأمانة العلمية الدقيقة ، ولا سيما حين تختلط بعض الأسماء المتشابهة سواء كان ذلك في اسم المؤلف أو المؤلف ، وذلك بهدف الإبانة والتوضيح ، ونمثل ذلك في الحواشي : 1/ 33 ، 1/37 . وتتبدى فيها أيضا بعد نظر واسع وذلك بقصد كشف الالتباس ، ولو أدى ذلك إلى إطالة الحاشية 1/146 /147/148 .
ويسطع على نحو جلي الثقافة الأدبية في التحقيق ولا سيما في تخريج الأبيات التي وقعت شواهد ، ونسبة الأبيات إلى أصحابها ، وأحيانا مناسبة الأبيات كما في حواشي الصفحات 1/47 ،1/68 ، 1/76 .
وكانت العناية الفائقة في ترتيب السِّفر وإخراجه ، فتَزَيَّن بالطباعة الأنيقة ، والخط الكبير ، والفصل بين المتن والحاشية والتقريرات رائعا ترك فراغات واسعة لإبعاد جوانب اللبس ، وتيسير السبيل أمام القارئ ، وكانت متانة التجليد رائعة أعطت الجانب الجمالي بعداً يحمد أصحاب دار النشر عليه .
وخلاصة القول أن تحقيق هذا السفر إنجاز طيب ، يفخر به كل من اسهم فيه ، ولا يسع المتطلع والقارئ إلا أن يتوجه بالشكر والعرفان لفريق العمل كاملا .. نسأل الله أن يبصر أجيالنا بعلوم دينهم ودنياهم .
الحواشي :
(1) – ينظر 1/97 .
(2) – العبارة ليست للكاتب ، وإنما مستقاة من كتاب ( أدب السياسة في العصر الأموي ) للدكتور احمد محمد الحوفي .
(3) – ينظر 1/597 .
(4) – ينظر 1/21 .
(5) – ينظر 1/309 .
(6) – ينظر 2/569 .
وليس أجل من العمل في التراث صنعة ، ولا أجزل عند الله ثوابا ، ولا سيما حين تشرع الهمة نفسها متصدية لمثل هذا العمل الكبير ، وما يعتوره من مصاعب ، وما يحيط به من إشكالات ، وما يتطلبـه العمل في إخراج كتب الفقه ، وأحكام الفتاوى من دقـة وأنـاة وصبر.لقد جرى إنجـاز هذا العمل في زمن تغيرت مقاييسـه وانقلبت مفاهيمه، حتى صار العامل في كتب التراث ، والسير على سبيل تجديده وإحيائه ، كمن يبحر وسط بحر تتلاطمه الأمواج ، ودروب مليئة بالأشواك ، في زمن عزفت فيه أوساط واسعة من شبابنا عن تراثها ، وانصرفت عنه مزورة ، أغرتها الثقافات الهزيلة التي تنشرها الفضائيات المتهالكة المتوالدة كل يوم كالفطور ، تُسوّق لنا ثقافات ليس لنا فيها – نحن العرب المسلمين – إلا النظر شزرا ، والغمز واللمز استخفافاً ....
من هذه الرؤية أعيد القول مكررا : إن إنجاز العمل على صعوبته ، يعدُّ في وقتـه وزمانه ، خطوة تستحق من أصحاب الكلمة الصادقة ، والفكر النير ، التعبير عن اعتزازهم بهذا الإخراج الرائع والجليل لهذا الكتاب القيم ، ليكون موسوعة علمية في الفتاوى التي تنير السبيل أمام المسلمين في قضايا تتعلق بعباداتهم ، وأحوالهم الشخصية ومعاملاتهم اليومية ، وتدرأ عنهم سبل الشبهة ، وتبعدهم عن مواطن الخطأ والزلل ، ليجسدوا بذلك خلافة الإنسان على الأرض كما أرادها الله سبحانه وتعالى ...
وأقر أنني لست مؤهلا لأن أقف موقف الناقد الممِّحص لهذا السِّفْر الكبير ، فأنا لست من أهل الاختصاص أولا ، ولأن التطاول في المقامات توقـع صاحبها مواقع التهلكة ثانيا . وسأحاول جاهدا أن أنظر إلى العمل نظرة العارض لما فيه ، الواصف لما جاء عليه ، عاملا قدر الإمكان على عرض ملاحظات عامة لجهد العلامة ابن عابدين في حاشيته ، والملاحظ لجهد النفر من الدارسين ، وما قامـوا بـه من دأب في ضوء ما اختطه لهم المحقق الأستاذ الدكتور حسام الدين فرفور ، بعد أن أنجز تحقيق الجزءين الأول والثاني ....
ومن المفيد أن تتم الإشارة إلى ما دار من جدل في تراثنا الديني والأدبي حول مسألة التأليف عند الأولين ، والتصنيف والشروح عند المتأخرين ، لأن الحاشية تقع تحت تصنيف المتأخرين ، ومع ذلك فقد حازت فضل المتقدمين والمتأخرين كما سيتضح ذلك لاحقا . لقد أفاض المنتصـرون للقدماء في أقوالهم وتآليفهـم حول بيان فضلهـم ، وكذلك فعل مؤيدو المتأخرين . وكان موقف ابن عابدين في الفصل في هذه المسألة مجليا ، فقد رأى " تفـوق كتب المتأخرين في الضبط والاختصار ، وجزالة الألفاظ ، وجمع المسائل " ، والتمس العذر للمتقدمين الذين كما قال : " كان مصرف أذهانهم إلى استنباط المسائل وتقويم الدلائل " ، وانتهى إلى القول : " وعلى كل فالفضل للأوائل " (1) . ومما لا شك فيه ، يبدو حكم ابن عابدين الآنف الذكر ، صادرا عن روية وصدق ، تنم عن ورع وتقى وألمعية وذكاء ....
وفي حقيقة الأمر – كما أزعم – أن ما جاء به المتأخرون يعد أكثر شمولاً ، وأبعد سعة ، ذلك أن توالي الدهور وتعاقب السنين ، يؤدي إلى تراكم المعرفة ، فتجعل العلم أكثر إشـراقا ووضوحا ، فكيف بعلم الفقـه والفتاوى الذي يحتاج إلى مثل هذا الوقت ، وتتسـع احتياجاته تبعا لتطـور الحياة و تشعبها واتساع آفاقها ؟!! وكيف به وقد اشتغل فيه خيـرة علماء هذه الأمة وأعلامها ، أفنوا أعمارهم فيه ، متحصنين بما أثر عنهم من ورع صاف ، وتقوى تبعدهم عن مواطن الزلل ، وإيمان راسخ بهذه العقيدة السماوية السمحة ، وما أخال هولاء إلا وقد تقوست ظهورهم ، وشحت أبصارهم ، وهم يتابعون بعقول متفتحة ، وأذهان متقدة بناء الأحكام الشرعية ، وإصدار الفتاوى ... وما أخالهم إلا أنهم من المقصودين بقوله تعالى ( إنما يخشى اللهَ من عباده العلماءُ )
(2) – في وصف الكتاب :
وصل الكتاب الموسوعة ، إن صحت التسمية ، وهي كذلك حقا ، إلى ستة عشر جزءا من القطع الكبير وقد طبع طباعة أنيقة ، بحروف كبيرة ، تسهل على القارئ المهتم قراءته ، وجاء تجليده فاخرا ، أكسبه لونه الأخضر بهاء دالا على ما بين دفتيه من خير وبركة ونماء وخصب ...
وأحسب أن الأجزاء التي توزع عليها الكتاب ، ارتبطت بالمتن أولا وبدواعي التحقيق والتعليق ثانيا، فكانت الحاشية في بداياتها ونهاياتها تسير وفاق ذلك ، ويتجلى منذ البداية بناء الكتاب بناء منطقيا أنتجه القياس الفطري العربي (2) ، حين نرى مجموعة المطالب التي تصدرت الجزء الأول ، إذ حددت بالاصطلاح ، والمنهج ، وإجـازة المشـايخ والسـند ،والمحقق ، ومطالب البسملة والحمد ، والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأتبع صاحب الحاشية رحمه الله " ذلك بعدد وافر من الترجمات خصت الماتن ، " محمد بن عبد الله بن محمد إبراهيم الخطيب " وترجمة لسلسلة العلماء الذين أخذ عنهم الماتن ، ولكل من نقل عنهم .ثم يشرع الباب أمام التقسيم فيبتدأ بكتاب الطهارة ، وأسباب وجوبها ، وشرائطها وصفتها ، وأركان الوضوء وسننه ، وآدابه ومكروهاته ، ونواقصه ، وسنن الغُسل وآدابـه وهكذا ينتهي الجزء الأول بقوله"انتهى بفضل من الله ومنه الجزء الأول من قسم العبادات " .....
على أن تقسيم الكتاب على أساس موضوعاته بعيدا عن أجزائه ، جاء على ثلاثة أقسام كبرى ، كان أولها القسم المتعلق بالعبادات ، بدءا بالطهارة ، فالصلاة ، فالزكاة ، فالصوم ، فالحج ، وصنف كل فرض من الفرائض السابقة في كتاب خاص ، فكان كتاب الصلاة ، فكتاب الزكاة .. وهكذا ، وقد جعل كل كتاب يقوم على عدد من الأبواب ، لم يرقمها ترقيما عدديا ، ثم تفرع كل باب إلى فصول عدة ، وقسم الفصول إلى مطالب ، ولم ينس أن يسجل بين الحين والآخر في مطاوي المطالب بعض الفوائد ، كلما كان إحساسه العلمي ، وإدراكه العقلي يفضي إلى ضرورة إثباتها، استغرقت الكتب المشار إليهـا سبعة أجزاء كاملـة من الحاشية.
واختص القسم الثاني بالفتاوى المتعلقة بالأحوال الشخصية ، فجعل القسم يقوم على كتب النكاح المقسم إلى أبواب النكاح وفصـل فيه المحـرمات ، ثم ، أتبعـه بباب الوالـي ، فالكفاءة ، فالمهر ، فنكاح الرقيق ، فنكاح الكافر ، والى ذلك بباب القسم ، فالرضاع . ثم فتح المؤلف كتابا جديدا للطلاق وأقسامه ، وقسمه إلى أبواب الطلاق الصـريح ، وطلاق غيـر المدخول عليها ، والكنايات ، وتفويض الطلاق ، والأمر باليد ، فالتعليق ، فطلاق المريض ، فالرجعـة فالايلاء ، فالخلـع ، فالظهار ، فالكفـاءة ، فاللعـان ، فالعنين وغيره ، فالعدة ، فالحضانة ، فالنفقه ، وقد استغرقت تلك الكتب والأبواب ثلاثة أجزاء من الكتاب هي ، الثامن والتاسع والعاشر .
وذهب القسم الثالث إلى المعاملات ، فعنى الجزء الحادي عشر بمعاملات العتق والإيمان ، وكان في مقدمتها كتاب العتق الذي انقسم إلى أبواب ، عتق البعض ، فالحلف بالعتق ، فالعتق على جعل ، فالتدبير ، فالاستيلاء ، فالإيمان . ثم حدد بابا للدخول والخروج والسكنى والإتيان والركوب وغير ذلك ، وبابا آخر في الأكل والشرب واللبس والكلام ، وبابا في الطلاق والعتاق ، فالبيع والشراء ، فالضرب والقتل وغير ذلك ، وبه انتهى الجزء الحادي عشر .
ضم الجزء الثاني عشر أصول المعاملة في الحدود والسرقة والجهاد ، وكان مطلعها كتاب الحدود وأول أبوابه ، الوطء الذي يوجب الحد والذي لا يوجبه ، فباب الشهادة على الزنى والرجوع عنها ، وباب حد الشرب ، فالقذف ، فالتعزير . وأفرد كتابا للسرقة بوبه إلى كيفية القطع وإثباته ، وإلى قطع الطريق . ثم أفرد كتابا للجهاد ، وجاء فيه باب للمغنم وقسمته ، وآخر لاستيلاء الكفار ، وثالث للمستأمن ، ورابع للعشر والخراج والجزية ، وبهذا الكتاب انتهى الجزء الثاني عشر .
وأفرد الجزء الثالث عشر لاستكمال معاملات الجهاد ، وقدم فيه بابا للمرتد ، وآخر للبغاة . ثم فتح كتابا جديدا سماه كتاب اللقيط ، وكتابا آخر لللقطة ، وكتابا للآبق و كتابا المفقود ، وكتاب الشركة . وتلا ذلك كتاب الوقف ، وفي سياق هذا الكتاب كثرت المطالب كثرة وافرة ، عللها المؤلف " رحمه الله ،مسميا إياها " فروعا مهمة حدثت للفتوى " وانتهى الجزء الثالث عشر بمطلب بقضاء القاضي بخلاف مذهبه .
ابتدأ الجزء الرابع عشر بكتاب البيوع وقسمه إلى أبواب ، خيار الشرط ، وخيار العيب ، والبيع الفاسد واستمرت أبواب كتاب البيوع في الجزء الخامس عشر ، فشرح " الإقالة " في باب ، والمرابحة والتولية في باب ثان ، وتعرض للربا في باب ثالث ، فباب الحقوق في البيع ، فباب الاستحقاق ، فالسلم ، وأتبع ذلك بباب للمتفرقات ، لما لم يرد ذكره فيما سبق ، وانتهى الجزء عند باب الصرف .
تصدر الجزء السادس عشر كتاب الكفالة ، فكتاب الحوالة ، فكتاب القضاء الذي جاءت فيه فصول ومطالب متعددة ، وألحق ذلك بباب التحكيم ، واختتم الجزء بما سـماه مسائل شتى ...
على أن الجزء السادس عشر ليس نهاية مطاف الكتاب الموسوعة ، ذلك أن محقق الجزءين الأول والثاني ، المشرف على مجموعة المجتهدين الأجلاء الذين تابعوا الموضوع ، كان قد وعد القراء والمطلعين والمهتمين في الصفحة الخامسة من الجزء الأول ، وتحت عنوانه" تنبيه وبيان " ، بأنه سيفرد مجلدا خاصا بدراسة حاشية ابن عابدين ، وتشتمل على أمور عدة منها ، منهجه في التحقيق ، وفي مطاوي المنهج دراسة عما ألف من الشـروح والحواشـي والتقريرات والفهارس لكل من تنوير الأبصار والدر المختار ورد المحتار ومخطوطاتها في المكتبات العالمية ، كما سيتطرق إلى ترجمة الماتن " التمر تاشي " والشارح الحصفكي " والمحشي " ابن عابدين " والرافعي صاحب التقريرات ، وقضايا أخرى إضافة لما أشير إليه ....
وبعد هذه موضوعات الموسوعة وأجزائها وكتبها ، وأبوابها ، أعترف أنني أطلت بعض الشيء في عرضها ، و إن كانت قيمة الكتاب ونفاسة محتوياتـه تتطلب المزيد من التفصيل ، وفي ذلك التمس عذر الإطالة . وأول ما يتبدى من خلال ذلك العرض ، هذا النفس الطويل ، والدأب الكبير الذي اتسم به المؤلف ، ثم نرى هذه النظرة الموسوعية ،ليس في حصر الموضوعات على المستوى الأفقي فحسب ، بل نراه يتجه عمقا ليغوض في لجة ، الموضوعات ، فيفصل ويفرع تارة ، ويدقق ويمحص تارة أخرى ، وذلك بقصد تيسير الفتاوى وإيضاحها ، وإزالة اللبس عنها ، وكشف ما غمض في آثار الآخرين فيها . إن هاتين الملاحظتين وغيرهما سيكون لهما أفراد واسع فيما سيأتي من بحث " إن شاء الله " .
(3) – منهج التأليف
على الرغم من كثرة الموضوعات ، وتعدد القضايا ، واستطالاتها وتشعبها وتنوعها ، نرى المؤلف " رحمه الله " ممسك بتلابيب موضوعه أو موضوعاته ، مقتديا بما جاء في المتن ، فما يكاد يبدأ موضوعا-ما- حتى نراه يخوض في أصله ومتنه ومضمونه ، ثم يلجأ إلى التفريع ، ويعرض الحالة المشتقة من الأساس ، فيُحِسُّ القارئ ، وهو يتابع حكم الإفتاء . انه أمام بحث انسيابي كمن يبحر في قارب وسط مياه عذبة رقراقة ، والأمثلة والشواهد على ما ذهبنا إليه كثيرة ، حتى أنها تسم الكتاب كله ...
ويظهر في المؤلف الترتيب المنطقي المحكم الذي ينعكس في المظاهر الآتية :
- في ترتيب المؤلف الكتاب إلى أجزاء ، وكتب ، وأبواب ، وفصول ، ومطالب ، وأحيانا قليلة فوائد .... وعلى الرغم من أن الصفة العامة للكتاب كانت تنهج هذا المنهج ، غير أنها لم تكن عامة متساوقة ، إذ نراه يعتمد الفصول تارة ، ويتجاوزها تارة أخرى , ولم أتمكن من التوصل إلى نتيجة محددة في مراعاة هذا الأمر من عدمه .
- في شرحه لبعض مصطلحات الترتيب السابق حينا وإغفاله أحيانا أخرى ، فجعل المدخل إلى الباب بتعريفه ، كما جرى الأمر في شروحه لباب المياه ، الذي أورده الماتن ، " ابن عابدين في شرحه للباب " والباب لغة ما يتوصل منه إلى غيره ، واصطلاحا :اسم الجملة مختصة من العلم مشتملة على فصول ومسائل غالبا .." (3).
- ثم في شرحه للمسائل التي وردت في المتن ، إذ نراه يبدأ بالمعنى المعجمي ، فيقول معنى كذا لغة ، ثم ينتقل إلى الاصطلاح ، ثم ينتقل ليؤيد ما ذهب إليه المصطلح باقتباس من كتب الساف ، ثم يتابع الشروح الأخرى ، ولا بد من الإشارة هنا ، إلى أن الاستعانة بالمعنى المعجمي ، لم تكن سائرة على نحو مطرد ، وكان المعول في استقدامها الحاجة والضرورة التي تبدت للمؤلف ، والملاحظ للمواضيع التي جاءت فيها يستنتج أن استعانة المؤلف بها كانت ناجمة عن رؤيته لخدمة المعنى الشرعي .... فها هوذا يذهب في مطلب تعريف الحمد إلى القول " .... والحمد لغة : الوصف بالجميل الاختياري على جهة التعظيم والتبجيل ، وعرفا : فعل يبنى على تعظيم المنعم بسبب إنعامه .. والشكر لغة يرادف ، الحمد عرفا ، وعرفا : صرف العبد جميع ما انعم الله تعالى عليه إلى ما خلق لأجله .." (4) .
ويعكس الكتاب مكانة واضعه ، ليجعله في مصاف الرجال الموسوعيين ، ويقدمه على انه واحد من الرجال الأفذاذ الذين لم يكن ميدانهم الفكري مختصا بعلم الفقه وإصدار الفتاوى ، فقد تبدت في منهجه الثقافة الموسوعية ، فقد حفل الكتاب بمعرفة واسعة بالأعلام الذين نقل عنهم الماتن ، فها هو ذا يعلق على منقول الماتن " والوضوء على الوضوء نور " يقول ( هذا لفظ حديث ذكره في الإحياء ، وقال الحافظ العراقي ، في تخريجه " لم اقف عليه " وسبقه الحافظ المنذري ، وقال الحافظ " ابن حجر" حديث ضعيف ) (5) .
وتذهب ثقافة المؤلف الموسوعية في الاستعانة بعلوم النحو والصرف اللذين كان يفقههما جيدا والاتكاء عليهما ليعزز من خلالهما المصطلح أولا ، والمعنى الشرعي ثانيا للوصول إلى الفتوى . من ذلك ما جاء في معرض تعليقه على قول الماتن وشرحه عن الأذان ( " قوله : هو لغة الإعلام ، قال في القاموس : " آذنه الأمر وبه : أعلمه ، وأذن تأذينا : أكثر الإعلام " فالأذان اسم مصدر ، لان الماضي هنا : إذن المضاعف ، مصدره التأذين ") (6) .
وتسطع في الكتاب على نحو جلي لغة المؤلف التي اتسمت بالوسطية ، التي فرضها مذهبه التعليمي في الكتاب ، فمن المعروف أنه – ومنذ أن نشطت الأمة في تفريد علوم القرآن وتدوين الحديث ، وشيوع الوعظ الديني في خلافة بني أمية – ولد المحدثون من الزهاد لغة وسطى ، لم تكن بالمقعرة الصعبة ، ولم تكن سوقية تلهج بها العامة في الأسواق ، وقد أدى الحسن البصري " رحمه الله " دورا مهما في هذا المجال . ومنذ ذلك الوقت حافظت لغة النثر عامة ، والنثر الديني على نحو خاص على هذه اللغة ، وكان ابن عابدين واحدا من الرجال الذين التزموها في كتاب الحاشية ويمكن أن نشير هنا إلى نقطة أخرى تميز لغة الكاتب ، وهي خلو أسلوبه من التعقيد والتكلف والصنعة ، تلك المظاهر التي طبعت أسلاف سابقيه فها نحن نقلب صفحات الكتاب فلا نجد كلف السجع ، ولا التصوير ، لأن المؤلف كان يخاطب عقول القارئين المتلقين ، يريد أن ينقل إليهم المعارف المتعلقة بالفتاوى بأقصر الطرق ، وأنقاها لغـة .
ويبدو أسلوب المحشي سهلا هينا مفهوما ، تتهادى ألفاظه مترقرقة ، وتتناوب عباراته طولا وقصرا ، حسب مقتضى الحال ، فكان يلجأ إلى مظاهر الإطناب عن طريق الترادف حينا ، ويوجز في أحيان أخرى ، وقد تمكن على نحو إبداعي خلاق من استنفاذ الطاقات القصوى لكل فنون البديع ، لما لتلك الفنون من علاقة حيوية بالشرح والتوضيح اللذين يتطلبهما لبوس الترادف والازدواج حينا ، ولبوس المقابلة والتضاد حينا آخر ، كلما احتاج الأمر تعريف الشئ بضده .
(4) – في جوانب التحقيق
مما لا شك فيه أن جهودا كبيرة بذلت في تحقيق هذا السفر الثمين ، وفـي التعليق على نصوصه وكانت همة الأستاذ الدكتور حسام الدين فرفور مجلية ، لأنه شـق الطريق وعبده لتحقيق الجزءين الأول والثاني ، واشرف اشرافاً مباشـر على تحقيق باقـي الأجزاء ، ففتح الباب على مصراعيه أمام جمهرة من الأساتذة الأجلاء الذين سـلكوا سـبيله وساروا على نهجه ، وهذ ا لا يقلل بأي حال من الأحوال جهودهم المشكورة ، نضرع إلى الله أن يثيبهم عنا احسن الجزاء ....
وأول ما يمكن ملاحظته في التحقيق الأناة والصبر والجلد في متابعة السفر والدخول إلى نصوصه ، فلا يقدر على ذلك إلا أهل العلم المختصين الدارسين المتابعين ، وتتجلى مظاهر الأناة والصبر في المعرفة الدقيقة بمضامين الأصل " المتن " ودواخل التحشية ، ومرامي التقريرات ، وترافق ذلك مع معرفة دقيقة بأسماء المصادر والمراجع ، وأسماء مؤلفيها ، فلا يقع بصر القارئ على أسماء المصادر وهي كثيرة ووافرة إلا ويرى في الحواشـي تعريفـا باسـم المصدر كاملا ، وترجمة لمؤلفه ، وهذا يسـتلزم جهدا ووقتا ورجوعا إلى أمهـات الكتب ، كل ذلك وفر للقارئ والمتعلم المزيد من الإيضاح ، وسهل الـسبيل أمام طالبي الاستزادة للعودة إلى المصادر التي اقتطفها المتن والحاشية والتقريرات .
وثاني جوانب العطاء والدأب ثبت الفهارس التي ختمت بها الأجزاء كلها ، حيث افرد التحقيق في نهاية كل جزء فهرسا لآيات القران الكريم ، وآخر للأحاديث النبوية الشريفة ، وثالثا للأعلام ، ورابعا للكتب المترجمة ، وفهرسا للموضوعات التي ضمها الجزء .. يضاف إلـى ذلك الإجمال الذي تفرد به الجزء السابع ، إذ جعل ختام قسم العبادات ينتهي بفهارس إجمالية للأجزاء السبعة ، وكان قد تقدمها بضع استدراكات جاءت على شكل جداول ، خص الجدول الأول منها لاستدراكات الحاشية الأصل ، والثاني للمطبوعة البولاقية ، والثالث للمطبوعة الميمنية . وجرى الأخذ بموضوع الاستدراكات في نهاية القسم الثاني المتعلق بالأحوال الشخصية ، والثالث المتعلق بالمعاملات الذي استأثر بإضافة الاستدراكات على التقريرات .. والحق أن هذه الجداول تقدم للقارئ كشفا يؤمن مزيدا من الورع العلمي والدقة في التحقيق والإخراج .
ونلحظ في الحواشي وهي كثيرة وغنية الأمانة العلمية الدقيقة ، ولا سيما حين تختلط بعض الأسماء المتشابهة سواء كان ذلك في اسم المؤلف أو المؤلف ، وذلك بهدف الإبانة والتوضيح ، ونمثل ذلك في الحواشي : 1/ 33 ، 1/37 . وتتبدى فيها أيضا بعد نظر واسع وذلك بقصد كشف الالتباس ، ولو أدى ذلك إلى إطالة الحاشية 1/146 /147/148 .
ويسطع على نحو جلي الثقافة الأدبية في التحقيق ولا سيما في تخريج الأبيات التي وقعت شواهد ، ونسبة الأبيات إلى أصحابها ، وأحيانا مناسبة الأبيات كما في حواشي الصفحات 1/47 ،1/68 ، 1/76 .
وكانت العناية الفائقة في ترتيب السِّفر وإخراجه ، فتَزَيَّن بالطباعة الأنيقة ، والخط الكبير ، والفصل بين المتن والحاشية والتقريرات رائعا ترك فراغات واسعة لإبعاد جوانب اللبس ، وتيسير السبيل أمام القارئ ، وكانت متانة التجليد رائعة أعطت الجانب الجمالي بعداً يحمد أصحاب دار النشر عليه .
وخلاصة القول أن تحقيق هذا السفر إنجاز طيب ، يفخر به كل من اسهم فيه ، ولا يسع المتطلع والقارئ إلا أن يتوجه بالشكر والعرفان لفريق العمل كاملا .. نسأل الله أن يبصر أجيالنا بعلوم دينهم ودنياهم .
الحواشي :
(1) – ينظر 1/97 .
(2) – العبارة ليست للكاتب ، وإنما مستقاة من كتاب ( أدب السياسة في العصر الأموي ) للدكتور احمد محمد الحوفي .
(3) – ينظر 1/597 .
(4) – ينظر 1/21 .
(5) – ينظر 1/309 .
(6) – ينظر 2/569 .
التعليقات
يرجى تسجيل الدخول