أسرى بدر ومدرسة التربية - كنتم خير أمة أخرجت للناس
الأسرى ومدرسة التربية
       روى الإمام أحمد عن أنس(1)، وابن مردويه عن أبي هريرة، وابن أبي شيبة، والإمام أحمد والترمذي(2) وحسنه، وابن المنذر والطبراني وغيرهم عن ابن مسعود، وابن مرودويه عن ابن عباس ، وابن مردويه وابن المنذر وأبو نعيم عن ابن عمر(3):
       أنه لما كان يوم بدر جئ بالأسرى وفيهم العباس أسره رجال من الأنصار، وقد وعدته الأنصار أن يقتلوه. فبلغ ذلك النبي r فقال رسول الله r : "لم أنم الليلة من أجل عمي العباس، وقد زعمت الأنصار أنهم قاتلوه" فقال له عمر : أفآتيهم ؟ قال : "نعم". فأتى عمر الأنصار فقال لهم : أرسلوا العباس، فقالوا : لا والله لا نرسله، فقال لهم عمر : فإن كان رسول الله r رضى ؟ قالوا : فإن كان رسول الله r رضى فخذه. فأخذه عمر، فلما صار في يده قال له : يا عباس أسلم ، فوالله لئن تسلم أحب إليَّ من أن يسلم الخطاب، وما ذاك إلا لما رأيت رسول الله r يعجبه إسلامك.
       فاستشار رسول الله r الناس فقال : "ما ترون في هؤلاء الأسرى ؟ إن الله قد أمكنكم منهم، وإنما هم إخوانكم بالأمس ؟".
       فقال أبو بكر : يا رسول الله أهلك وقومك، قد أعطاك الله الظفر ونصرك عليهم، هؤلاء بنو العم والعشيرة والإخوان، استبقهم، وإني أرى أن تأخذ الفداء منهم، فيكون ما أخذنا منهم قوة لنا على الكفار، وعسى الله أن يهديهم بك فيكونوا لك عضداً.
       فقال رسول الله r : "ما تقول يا بن الخطاب ؟".
       قال : يا رسول الله قد كذبوك وأخرجوك وقاتلوك. ما أرى ما رأى أبو بكر، ولكن أرى أن تمكنني من فلان – قريب لعمر – فأضرب عنقه، وتمكن علياً عن عقيل فيضرب عنقه، وتمكن حمزة من فلان أخيه حتى يضرب عنقه، حتى ليعلم الله تعالى أنه ليست في قلوبنا مودة للمشركين، هؤلاء صناديد قريش وأئمتهم وقادتهم فأضرب أعناقهم، ما أرى أن يكون لك أسرى، فإنما نحن راعون مؤلفون. وقال عبد الله بن رواحة : يا رسول الله، انظر وادياً كثير الحطب فاضرمه عليهم ناراً. فقال العباس وهو يسمع ما يقول : قطعت رحمك. قال أبو أيوب : فقلنا –يعين الأنصار- : إنما يحمل عمر على ما قال حسد لنا، فدخل رسول الله r البيت فقال أناس : يأخذ بقول أبي بكر، وقال أناس : يأخذ بقول عمر، وقال أناس : يأخذ بقول ابن رواحة، ثم خرج فقال :
       "إن الله تعالى ليلين قلوب أقوام فيه حتى تكون ألين من اللبن، وإن الله تعالى ليشد قلوب أقوام فيه حتى تكون أشد من الحجارة، مثلك يا أبا بكر في الملائكة : مثل ميكائيل ينزل بالرحمة، ومثلك في الأنبياء مثل إبراهيم قل : } فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّيوَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ {(4)، ومثلك يا أبا بكر مثل عيسى ابن مريم؛ إذ قال : } إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَوَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ{(5)، ومثلك يا عمر في الملائكة : مثل جبريل ينزل بالشدة والبأس والنقمة على أعداء الله تعالى، ومثلك في الأنباء مثل نوح؛ إذا قال : } رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الكَافِرِينَ دَيَّاراً{(6)، ومثلك في الأنبياء مثل موسى؛ إذا قال : } رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْوَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا العَذَابَ الأَلِيمَ {(7) لو اتفقتما ما خالفتكما، أنتم عالة فلا يفلتن منهم أحد إلا بفداء أو ضرب عنق".
       فقال عبد الله بن مسعود : يا رسول الله، إلا سهيل بن بيضاء فأني سمعته يذكر الإسلام. فسكت رسول الله r ، فقال عبد الله : فما رأيتني في يوم أخاف أن تقع عليَّ الحجارة من السماء منى في ذلك اليوم حتى قال رسول الله r : "إلا سهيل بن بيضاء". فلما كان من الغد غدا عمر إلى رسول الله r، فإذا رسول الله وأبو بكر وهما يبكيان. فقال : يا رسول الله ما يبكيكما ؟ فإن وجدت بكاء بكيت، وإلا تباكيت لبكائكما. فقال رسول الله r : "إن كاد ليمسنا في خلاف ابن الخطاب عذاب عظيم، ولو نزل العذاب ما أفلت منه إلا ابن الخطاب، لقد عرض عليَّ عذابكم أدنى من هذه الشجرة – لشجرة قريبة منه – وأنزل الله تعالى : } مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَاوَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَوَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ. لَوْلا كِتَابٌ مِّنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ. فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباًوَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ {(8) واستعمل r على الأسرى شقران غلامه، فأحذوه من كل أسير ما لو كان حراً ما أصابه من المقسم(9).
       وروى ابن أبي شيبة والترمذي(10) وحسنه، وابن سعد، وابن جرير، وابن حبان والبيهقي، عن علي رضي الله عنه قال : جاء جبريل إلى النبي r فقال :
       يا محمد، إن الله تعالى قد كره ما صنع قومك في أخذهم فداء الأسرى، وقد أمرك أن تخيرهم بين أمرين : إما أن يقدموا فتضرب أعناقهم، وإما أن يأخذوا منهم الفداء على أن يقتل منهم عدتهم. فدعا رسول الله r الناس فذكر لهم ذلك، فقالوا :
       يا رسول الله ، عشائرنا وإخواننا نأخذ منهم الفداء، فنتقوى به على قتال عدونا ويستشهد منا عدتهم فليس في ذلك ما يكره.
       وأقام r بالعرصة ثلاثاً(11).
       ويروى أبو داود(12) عن ابن عباس – ضي الله عنهما – أن النبي r جعل فداء أهل الجاهلية يوم بدر : أربعمائة ، وأدَّعى العباس أنه لا مال عنده، فقال له رسول الله r : "فأين المال الذي دفنته أنت وأم الفضل، وقلت لها : إن أصبت في سفري فهذا لبنيَّ الفضل، وعبد الله، وقثم ؟" فقال : والله إني لأعلم أنك رسول الله، إن هذا لشيء ما علمه إلا أنا وأم الفضل.
       وروى البيهقي عن إسماعيل بن عبد الرحمن السُّدِّى قال : كان فداء العباس، وعقيل ابن أخيه، ونوفل : كل رجل أربعمائة دينار.
       قال ابن إسحاق : وكان أكثر الأسارى فداءً يوم بدر فداء العباس، فدى نفسه بمائة أوقية من ذهب.
       وروى البخاري والبيهقي عن أنس بن مالك رضي الله عنه : أن رجلاً من الأنصار استأذنوا رسول الله r فقالوا : يا رسول الله ، ائذن لنا فلنترك لابن أختنا عباسٍ فداءه، قال : "لا والله، لا تذرون منه درهماً"(13).
       وجعل رسول الله r فداء الرجل أربعة آلاف إلى ثلاثة آلاف إلى ألفين إلى ألف، ومنهم من منَّ عليه؛ لأنه لا مال له.
       وروى ابن سعد عن الشعبي قال : كان أهل مكة يكتبون، وأهل المدينة لا يكتبون، فمن لم يكن له فداء دُفِعَ إليه عشرة غلمان من غلمان المدينة يعلمهم، فإذا حذقوا فهم فداؤه، وكان زيد بن ثابت ممّن عُلِّم(14).
1- المطعم بن عدى والأسرى :
       لقد كان الأسرى حقاً يدخلون المدرسة النبوية للتربية وهم لا يزالون على شركهم، وهم يستمعون إلى سيد الخلق يتحدث عنهم ويشاور من أجلهم، ويوصى بهم، وهم يعلمون أن قتلهم بكلمة واحدة من شفتيه الشريفتين، ويعلمون ماذا فعلوا برسول الله r خلال ثلاثة عشر عاماً وهم الأقوى والأعلى، وأنهم يستحقون القتل جميعاً وقد غدوا أسرى بيديه.
       إننا سنعيش مع هذه القلوب البشرية التي تحس وتخاف وترجو وتحب وتألم، وكيف امتدت إليه النبوية الحانية لها وهي على شركها (أي القلوب)؛ لتقوم ببنائها العظيم.
       وهذه هي الصورة الأولى من الصور الفريدة الخالدة في التاريخ.
       فعن الزهري عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه؛ أن النبي r قال في أسارى بدر : "لو كان المطعم بن عدى حياً ثم كلَّمني في هؤلاء النتنى لتركتهم له"(15).
       والمطعم بن عدي سيد بني نوفل الفرع الثالث من بني عبد مناف والذي كان في موقع القوة السلطة في مكة. ومع أنه لم يخرج عن رأي قريش ابتداءً وينضم لأبي طالب، لكنه كان وسطاً بين الطرفين ابتداءً ثم مثل موقف أبي طالب انتهاءً.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين