الحلقة الثانية من الحوار مع الشيخ خلدون مخلوطة


الحلقة الثانية من الحوار

 

حوار مع فضيلة الشيخ خلدون عبد العزيز مخلوطة

 

 ماهر سقا أميني

 

هذه الحلقة الثانية من الحوار ، وقد نشرت الحلقة الأولى على هذا الرابط:هنا
الحلقة الثانية من الحوار
 
السؤال الأول:
أ‌-          تلقيتم العلم في مؤسسات التعليم النظامي في المدارس وفي المساجد على أيدي علماء فاضلين، ما الذي قدمه لكم هذين التعليمين؟
الجمع بين التعليم النظامي والتعليم في المساجد يعود على المتلقي بفوائد جمة، لأنه يجمع بين الجديد والقديم، والأصالة والمعاصرة المنظبطة، وذلك أن التعليم النظامي يوسع آفاق المتعلم، ويوقفه على مختلف أنواع المعرفة، وأحدث الحقائق والنظريات العلمية، فيعيش واقع الحياة، وتترقى مداركه، ويتفاعل مع معطيات الحضارة، وتستنير رؤاه، وقد أكسبني تعلمي للمواد العلمية كالرياضيات والفيزياء والعلوم مهارات ساعدتني في تسهيل فهم العلوم الشرعية التي تلقيتها بعد ذلك في كلية الشريعة، فوجدت مثلا مادة الفرائض (الميراث) سهلة وممتعة وتفوقت بها مع أنني لم أتلقاها إلا في الجامعة، وذلك بسبب الخبرة الحسابية التي اكتسبتها من حل مسائل الجبر والهندسة والمثلثات، بالإضافة إلى شعوري بمتعة تلقي علم الفقه وأصول الفقه، لأنها قائمة على مناهج علمية منضبطة، وقواعد عقلية متينة.
أما عن تلقي العلم على يد العلماء في المساجد فكانت له آثاره الإيجابية الرائعة، حيث انصبغت تلك العلوم بصبغة الإيمان، وانطلقت من قواعد التوحيد والعقيدة الحقة، فكانت تعاليم الدين توجهني التوجيه الصحيح، وتبعدني عن مزالق الإلحاد والانحراف، وتضبط سلوكي، وتوضح لي الغاية من الوجود، فكنت أشعر أنني مخلوق لله، مكلف مستخلف، أسخر طاقتي في عمارة الدنيا بما يرضي الله، وأسعى في رقي أمتي ورفعتها، وهذا ما أحدث في نفسي دافعية قوية في تلقي العلم، جعلتني في حالة من الاستقرار والسعادة.
ب‌-        ما الذي وجدته في المساجد ولم تجده في المدارس؟
المسجد له خصوصية امتاز بها، تضفي على طالب العلم نوراً وإشراقاً، وصفاءً وروحاً، يشعر المتلقي فيها بالسكينة والطمأنينة، والهدوء والسمت أكثر من مكان آخر، ومن هنا ندرك سر قول النبي صلى الله عليه وسلم (وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله) فهو وإن كان لا يعني الخصوصية ولكن تبقى دلالة (بيوت الله) لها رونقها وتألقها فهي أحب البلاد إلى الله تعالى، كما أن الناس في المساجد يكونون أكثر إلتزاماً للأدب والإنصات واحترام المكان، مما يهيء جواً علمياً رفيعاً لطالب العلم، بالإضافة إلى أن جلوس المتلقي أمام الشيخ والعالم يجعله أكثر استعداداً لقبول العلم، والتفاعل مع المعاني التي تلقى إليه، والهيئة التي جلسها جبريل عليه السلام عندما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليعلم الصحابة أمور دينهم فأسند ركبتيه إلى ركبتيه ووضع كفيه على فخذيه، دلالة على فضل الجلوس في حلقات العلم والذكر وأثره، من هنا شاع بين العلماء أنه لا يبلغ طالب مبلغاً عظيماً إن لم يعتاد الجلوس على الركب أمام العلماء، فتحصل له مشافهة العلم وأخذه من صدور الرجال.
 
 ج- ما رأيك في التعليم المدرسي اليوم ومؤسساته؟
التعليم أشرف مهنة وأقدس عمل يقوم به الانسان، لأنه يؤدي وظيفة من وظائف الأنبياء، ويسير على خطى المربين والعلماء، وهو وسيلة لتخريج الأجيال، وتهذيب النفوس، والارتقاء بالعقول، فبه يتحقق الإبداع وتترقى الأمم، لكنه مما لا يخفى على كل من مارس التعليم واطلع على مؤسساته أننا نعاني من أزمة عاتية، وإشكالات كبيرة قد يختلف المربون في تشخيصها وتحليل أسبابها، ولعل أهمها غياب المنهج التعليمي الاسلامي الأصيل الذي يتوافق مع نظرة الاسلام للكون والانسان والحياة والدار والآخرة، كذلك عدم الاهتمام بتخريج الأستاذ المربي وتطويره، فبدلاً من تغيير المناهج بصورة متسارعة كان الأولى بذل هذه الجهود والأموال على تحسين أداء المدرس والارتقاء به، كما أننا نعاني من عدم تعويد الطالب على القيام بنفسه بالبحث وتدريبه على أصوله، أما البحوث المبسترة التي يقدمها بعض الطلبة فليس لها قيمة علمية في الغالب، لأنها مأخوذة من هنا وهناك، دون بذل جهد حقيقي في البحث والاستنتاج، حتى أن البحث الواحد يقدمه أكثر من طالب، وماذا الذي نرتجيه من مدارس المكتبة فيها إما مقفلة أو شبه معطلة؟ بالإضافة إلى عدم تكاتف الجهود في إنجاح العملية التربوية عندما لا تسير على خطى متوازنة متناسقة، فمتى يبلغ البيان يوماً تمامه، إذا كنت تبنيه وغيرك يهدم، فمن المفارقات ما نراه من الاهتمام بنجوم الفن والرياضة وتكريم روادها، في حين لا يأخذ المبدعون وأصحاب الإنجازات العلمية الرائعة نفس المستوى من التكريم والاهتمام الإعلامي، وهذا لا يعني رفض الفن بجملته والرياضة وإنما يحتاج الأمر لتوازن وتقديم للأوليات التي تحتاجها الأمة.
 
السؤال الثاني:
أ‌-          نعيش اليوم أزمة أخلاقية واضحة تظهر في كل مجالات الحياة، ما السبيل إلى العودة إلى الأخلاق الإسلامية العظيمة الموجودة في القرآن الكريم والسنة النبوية وحياة السلف الصالح.
يعمل الإسلام على تحقيق القيم والمبادئ، ويحرص على إشاعة المحبة والمساواة والتضامن والعدالة والتعاون بين أفراد المجتمع، وهذا من خلال إحاطة الإنسان بمناعات عقائدية وتشريعية، وضوابط أخلاقية وتربوية، وإننا في هذه الأيام أمام أزمة أخلاقية رهيبة تتمثل في سوء تعامل الإنسان مع ربه أولاً، ثم مع نفسه، ثم مع المحيط الذي يعيش فيه، وقد أفرزت الحضارة المادية عندما ربطت العلاقات بالمصلحة أبشع صور الفساد الاجتماعي ، فأدى ذلك إلى الركون للحياة والمادة، وحب الذات والأنانية، وتقديم المصالح الشخصية والانتهازية، بالإضافة إلى رذائل الفوضى واللامبالاة، والتواكل والتكاسل، والعجز والتسويف، والاعتداء على حقوق الآخرين والمال العام، وألوان من الغش التجاري والثقافي والتربوي والسياسي، وهذا مما يهيب بالعلماء والمربين سرعة تشخيص هذه الأحوال المتردية، ووصف العلاجات المناسبة، والأدوية الناجعة التي تحد من آثار هذه الكارثة الأخلاقية، ونستطيع الوقوف على أهم السبل التي تساعد الإنسان المعاصر في رقي أخلاقه وتهذيب نفسه، وتطهيرها من نزغات الإثم والشر، وتنمية فطرة الخير فيها: أولها: أن الأخلاق من حيث الجملة يمكن تقويمها وتعديلها، كما يمكن اكتساب الجيد منها والتخلي عن قبيحها، يقول الحافظ ابن حجر العسقلاني شارح صحيح البخاري: (إن الخلق قد يكون غريزة، وقد يكون تخلقاً، ولكن استعماله على وفق الشرع يحتاج إلى اكتساب، وعلم، ونية). ثانيها: معرفة أنواع الأخلاق الحسنة التي أمر بها الإسلام، وأنواع الأخلاق الرديئة التي نهى عنها، لأنه بدون ذلك لا يدري بأي خلق يتخلق ومن أي خلق يتجرد. ثالثها: شعوره بحاجته إلى الخلق الحسن لأنه متصل بالإيمان وتقوى الله، وسبب للظفر برضوان الله ودخول الجنان، وبالمقابل معرفته لعظيم ضرر الخلق السيء وأنه من علامات النفاق، وسبب سخط الله ودخول النيران، رابعها: ربط الأخلاق بمعاني العقيدة، فيستحضر في نفسه الإيمان بالله واليوم الآخر، لأنهما دافعان أساسيان لتغيير السلوك وإلتزام مكارم الأخلاق، لذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم كثيرا ما يصدر أحاديثه (من كان يؤمن بالله واليوم) عندما يحث على الفضائل والمكارم، حتى لا يصبح مجرد عادة وسجيه، بل عبادة يرجو ثوابها.
ب‌-        وكيف يمكن تحويل هذه الأخلاق إلى واقع لدى الأجيال؟
هناك علل وأسقام تصيب النفوس والقلوب، فتظهر في خلق قبيح وسلوك مشين، ولو كان اهتمامنا بأمراض النفوس ومعالجتها كاهتمامنا بأمراض الأبدان لأصبحنا في حالة إيمانية راقية، وصحة نفسية رائعة، من هنا كانت الحاجة ماسة لمحاضن ايمانية، وبيئات ربانية تساعد في النهوض بشباب الأمة، وتسعى في الأخذ بأيديهم إلى تغيير جذري في سلوكهم وأخلاقهم، ولقد ساهم علماء التزكية والتربية مساهمة فعالة في بيان وسائل معالجة القلوب، وطرق اكتساب الأخلاق الربانية، وإني أسرد بعضاً منها مستفيداً مما ذكره الإمام الغزالي رحمه الله وغيره، الأول: أن يجلس بين يدي شيخ بصير بعيوب النفس، مطلع على خفايا الآفات، يأخذ عنه العلم والتربية والتوجيه معاً، الثاني: أن يطلب صديقاً صدوقاً بصيراً متديناً، يلاحظ أحواله وأفعاله، وينبهه وينصحه، ويحذر رفقة السوء، لأن الطبع يسرق من الطبع، إذ من طبيعة الانسان أن يتأثر بالوسط المحيط به، والجماعة التي يعيشها معها، الثالث: أن يستفيد من عيوب نفسه من ألسنة أعدائه، فإن عين السخط تبدي المساويا، ولعل انتفاع الانسان بعدو شاحن يذكر عيوبه، أكثر من انتفاعه بصديق مداهن يثني عليه ويمدحه ويخفي عنه عيوبه، الرابع: أن يخالط الناس فكل ما رآه مذموماً فيما بين الخلق فليطالب نفسه به وينسبها إليه، فيرى من عيوب غيره عيوب نفسه. قيل لأحدهم: من أدبك؟ قال: ما أدبني أحد، رأيت جهل الجاهل شينا فاجتنبته، الخامس: الحرص على لقمة الحلال لأنها أساس كل نعمة وخلق فضيل ولقمة الحرام أساس كل نقمة وخلق ذميم، فمن أكل الحلال أطاع الله تعالى شاء أم أبى، ومن أكل الحرام عصى الله تعالى شاء أم أبى. قال الشيخ زروق رحمه الله تعالى: (أصل كل خير اللقمة والخلطة، فكل ما شئت فمثله تفعل ، واصحب من شئت فأنت على دينه)، السادس: مطالعة سيرة الصحابة الكرام، وأحوال الصالحين، وتراجم العلماء الربانيين، وكتب التربية والتزكية والأخلاق ككتاب "إحياء علوم الدين" للغزالي و"مدارج السالكين" لابن القيم الجوزية وغيرها، السابع: الإلحاح على الله تعالى بالدعاء والمناجاة، فبقدر صدق طلبه وإخلاصه يخلصه الله من آفاته ومساوئ أخلاقه، الثامن: المجاهدة والتروض، وحمل النفس على الأعمال التي يقتضيها الخلق المطلوب كما قال النبي صلى الله عليه وسلم (العلم بالتعلم، والحلم بالتحلم، ومن يتحر الخير يعطه، ومن يتوق الشر يوقه) -رواه الخطيب البغدادي- فمن أراد أن يحصل لنفسه خلق الجود مثلاً فطريقه أن يتكلف تعاطي فعل الجود، وهو بذل المال، فلا يزال يطالب نفسه ويواظب عليها تكلفاً، حتى يصير بذلك طبعاً وسجية، وهكذا بقية الأخلاق.
 
السؤال الثالث:
أ‌-          سيدي، الحلال بين والحرام بين والشبهات قليلة وأمرها هين، والأمر لا يحتاج لكل هذا التفصيل الذي امتلأت به كتب الفقه؟
لا شك أن الحلال بيِّن وواضح في كتاب الله وسنة رسوله، وكذلك الحرام، إلا أن هذا يمثل قاعدة كلية تحتوي على كثير من الجزئيات والفروع التي تدخل في مجالات متعددة، ابتداء من العبادات والمعاملات والسلوك والأخلاق، وعلاقة الفرد بربه ونفسه وأسرته ومجتمعه وأمته، وأسس علاقة الدولة المسلمة بغيرها، فكل ذلك يحتاج إلى علم ومعرفة بحقيقة الحلال والحرام، والوسائل التي يتم بها الكشف عنهما من خلال البحث في دلالة النصوص مع بيان الضوابط والحدود حتى لا تختلط الأمور وتمتد يد العابثين للتلاعب بدين الله وتمييعه، وتحريف مبادئه انسياقاً خلف أهواء زائفة، وشهوات فانية وأغراض دنيئة.
وكذلك الشبهات فهي وإن كانت قليلة مقارنة بالحلال، لكن أمرها ليس بالأمر الهين البسيط، لأن التساهل بها والتقليل من شأنها يؤدي إلى الوقوع فيما هو أعظم منها، وبالتالي الانجرار بعد ذلك في المحرمات، وهذا ناشئ بسبب تعارض الأدلة فيها، وتعداد آراء العلماء بشأنها لأنها تحتمل الحل والحرمة تماماً، كاللحوم المستوردة من بلاد الغرب وما حام حولها من شبهات كثيرة في طريقة تذكيتها، وكذلك التأمين على الحياة بأشكاله المختلفة.
ب‌-        ألا تعتقدون أن ما يسمى بالتراث الفقهي الموجود في المكتبة الإسلامية يحوي الكثير من التكرار والتفصيل في فروع الفروع دون فائدة ترجى؟
الفقه الإسلامي بنيان شامخ متين، ومفخرة من مفاخر الأمة، نشأ وتطور عبر قرون طويلة، تناوب عليه أجيال من الفقهاء المهديين والعلماء الراسخين، شهد بعظمته كبار رجال القانون المعاصر، لما امتاز به من المرونة وروعة التنظيم والتقعيد، حتى أنه اتسع لكل ما حدث ويحدث من نوازل، وفي وقتنا الحاضر يواجه الفقه الاسلامي حملة شعواء تهدف إلى تشويهه من طرفين:
 الأول: طرف عمل فيهم الغزو الفكري الأجنبي، فأصبحوا غرباء عن أمتهم في تفكيرهم ونظرتهم لكل ما هو أصيل في أمتهم، فراحوا يشككون حول ما جاء فيه من أحكام، ويصورون للآخرين بأنها لا تصلح لهذا العصر، ويعللون ذلك بأن ما شرع لزمان لا يصلح لزمان آخر، والحقيقة أن عداء هؤلاء إنما هو للشرع الذي أنزله الله، والأحكام التي ارتضاها الله لعباده والتي تصلح لكل زمان ومكان، فهم يتسترون بالهجوم على الفقه الاسلامي ومبادئه كيلا يفتضح أمرهم، وينكشفوا على حقيقتهم في عدم التزامهم بما جاء في كتاب الله وسنة رسوله، لأن الفقه عبارة عن فهم منضبط لهذين الأصلين العظيمين، وتقنين لما جاء فيهما من أحكام.
والطرف الثاني: من بعض المنتسبين لهذا الدين، اتصفوا بضعف في ملكاتهم الفقهية، وشح في رصيدهم اللغوي والفقهي، لأنهم لم يمارسوا قراءة الفقه، ولم يأخذوه عن أهله، ولم يتدربوا على عباراته، فراحوا يشنون عن جهل حملات عنيفة، يصفونه بالصعوبة والتعقيد، بدل أن يتهموا أنفسهم بالقصور وضعف المستوى العلمي، إنهم بذلك يخدمون أعداء الأمة، وينفذون مخططاتهم وهم لا يعلمون، فكان الأجدر بهم أن يبذلوا جهدهم في دراسته على المختصين من فقهاء العصر وطلبته، ومحاولة تقريبه وتبسيطه للناس بلغة معاصرة.
أما عن التفاصيل الكثيرة التي امتلأت بها كتب الفقه فإنها تدل على غزارة هذه المادة وحيوتها، لأنها غطت كثيراً من المستجدات والحوادث التي ظهرت مع تغير أساليب الحياة وتبدلاتها، كما أنها وسّعت من آفاق المتفقة، ودرَّبته على حل المسائل والوقائع والنوازل للاستعداد لها قبل حدوثها، وقد يفترضون في بعض الأحيان مسائل غريبة تعتبر مستحيلة مع طبيعة عصرهم فيخوضون فيها، ويبحثون في الحكم المناسب لها، فتعود بعظيم الفائدة لمن بعدهم، وكأنهم يسبقون عصرهم، وفي هذا تحفيز للعقل وإثارة للفكر، فمن ذلك عندما بحثوا في جواز الإحرام للحج أو العمرة مما يوازي من سماء المواقيت المكانية فظهرت فائدة ذلك عندما أصبح الطائرة وسيلة للوصول للديار المقدسة.
السؤال الرابع:
سيدي هناك من يقول أن علم أصول الفقه قد وضع بطريقة من يريد أن يصل إلى أحكام معينة، فمثلاً قاعدة " العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب" وضعت من أجل تحويل كل نص من القرآن والسنة إلى موضع استنباط أحكام عامة ودائمة ودون النظر في طبيعة الظرف المرحلي التاريخي والمعرفي الذي جاء فيه النص، فما هي الأسس التي تجعلنا نقبل بقواعد هذا العلم وهي في الأصل كما يقال من وضع البشر.
من المهم أن نتعرف أولاً على المقصود بعلم أصول الفقه، فهو علم يبحث في الأدلة الشرعية لأحكام الفقه الاسلامي، وعبارة عن مجموعة من القواعد العامة التي تستخدم في استنباط الحكم الشرعي، كالقاعدة التي تقول: (إذا أطلق الأمر فإنه يفيد الوجوب) وذلك كقوله تعالى: ((وأقيموا الصلاة)) أفادنا وجوب الصلاة بناء على إطلاق الأمر في قوله ((أقيموا)) وكذلك قولهم (إذا أطلق النهي دل على التحريم)، وذلك كقوله تعالى ((ولا تقربوا الزنى)) أفادنا تحريم الزنا بناء على إطلاق النهي في قوله ((ولا تقربوا))، والفقيه والمفكر في حاجة ماسة لهذا العلم لأنه يضع له منهجاً علمياً في البحث، وقانوناً عاصماً للذهن من الخطأ في الاستدلال على الأحكام، فهو أداة لمعرفة الأحكام الجزئية بشكل منضبط، كما أن المنطق يضبط العقل ويعصمه من الخطأ في التفكير.
وعلماء الأصول عندما أسسوا هذا العلم ووضعوا قواعده ابتداء بمن أوّل ألف فيه وهو الإمام الشافعي في كتابه (الرسالة) ومن جاء بعده، إنما استخرجوها بعد البحث والاستقراء لنصوص الكتاب والسنة، واعتماداً على مفردات اللغة وتراكيبها ودلالاتها، وهذه القواعد والأصول كانت معروفة ومتناولة لدى الصحابة سجية وسليقة ولكن ليست بهذه المصطلحات والتسميات، فهم يمارسونها عملياً وتلقائياً عند تعرفهم للحكم الشرعي، فجاء العلماء بعدهم فضبطوها وأصلوها بهذه القواعد، كما فعل علماء النحو عندما وضعوا قواعد اللغة وأساليب الكلام فقالوا الفاعل مرفوع وهو من قام بالفعل، والمفعول به منصوب وهو من وقع عليه الفعل، والعربي القديم ينطق بذلك سليقة دون معرفته بهذه المسميات، وكذلك أحكام تجويد القرآن وضعها العلماء لضبط القراءة وأخرجوها عبر قواعد وأحكام مقننة فحددوا مخارج الحروف وأحكام النون الساكنة والتنوين كالإظهار والإدغام وغيرها، والصحابة كانوا يتلون القرآن بهذه الأحكام وينطقونها عملياً دون معرفتهم بهذه المصطلحات، والسبب الذي دعا علماء الأصول والنحو والتجويد إلى صياغة هذه القواعد اختلاط العرب بغيرهم فأدى ذلك إلى ضعف في اللسان العربي، وضعف في فهم دلالات النصوص، فوضعوا تلك القواعد حفاظاًعلى سلامتها وصيانة من اللحن والضياع.
أما عن قاعدة (العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب) فتعني أنه إذا ورد نص في كتاب الله وسنة نبيه بصيغة العموم، وكان سببه حادثة وقعت من شخص معين، أو معالجة لموقف حدث في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وليس هناك من القرائن ما يدل على تخصيصه بفرد معين، فإن دلالة النص تبقى على عمومها، فمثلاً الآيات الواردة في حكم الظهار نزلت في حق أوس بن الصامت رضي الله عنه، ولكنها جاءت بصيغة تعم كل من وقع في نفس الحال فقال تعالى: ((والذين يظاهرون منكم من نسائهم))، وكذلك قوله تعالى: ((ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة)) فهي وإن كانت نزلت في الأنصار عندما أرادوا الانشغال بالزراعة عن الجهاد، ولكن دلالة النص تشمل تحريم كل ما يؤدي بالانسان إلى الهلاك كالمخدرات والدخان وغيرها.
أما عن الظرف التاريخي والمعرفي للنص فهناك حقائق لا تتبدل ولا تتغير بتبدل الزمان والمكان، فكلمة الهواء لا يقول عاقل بأن دلالتها في عهد النبي صلى الله عليه وسلم غير دلالتها في هذا العصر، وهكذا الحلال والحرام، والأمانة والخيانة، والزواج والزنا، نعم هناك أمور يمكن أن تتبدل بتبدل وسائل الحياة، وأشكال الإنتاج، وتطور الآلة، وما كان مختصاً بالعرف والعادة، كوسائل النقل وألوان الأطعمة واللباس التي تعود بالخير والنفع للإنسان، وعليها ينطبق قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((أنتم أعلم بأمور دنياكم)).
 
إلى اللقاء في الحلقة الثالثة والأخيرة.


جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين