مع العارفين في الدعاء

العلامة: البهي الخولي
يقول عمر رضي الله عنه: (أنا لا أحمل هم الإجابة، وإنما أحمل هم الدعاء، فإذا ألهمت الدعاء كانت الإجابة معه).
وهو كلام أصيل نفيس: فليس كل دعاء مجاباً فمن الناس من يدعو أن يأخذ الله ذلك الذي يزحمه في سوق المنافسة، والتجارة أو ذلك الذي يسبقه إلى قلوب الرؤساء ومرضاة السادة.
وكل دعاء من هذا القبيل لا يجاوز إلى الله شفتي قائله، فالدعاء مخ العبادة، وليس من العبادة أن تستدبر وجه الله وتزهد فيما عنده بمثل هذا الدعاء السخيف...
الدعوة سهم من سهام الله، فإذا نزعت عن جوانح ناظرة إلى الله ،راغبة فيما عنده لم يكن لها دون عرش الله محل...
أوى عمر رضي الله عنه يوماً إلى كومة من الرمل بعد أن أجهده الطواف والسعي في مصالح ا لمسلمين فلما وجد مس الراحة على الرمل قال: ( اللهم قد كبرت سني ووهنت قوتي وفشت رعيتي فاقبضني إليك غير مضيِّع ولا مفتون، واكتب لي الشهادة في سبيلك والموت في مدينة رسولك) فخبرني بربِّك أي شيء في هذا الدعاء تنظر إليه معدة عمر أو جيبه أو شهوته الدنيا؟...
إنها الهمم الرفيعة والنفوس الكبيرة أبت أن تتقوم آمالها بشيء من عرض هذا الأدنى كثيراً كان أم قليلاً.
هذا الرجل الكبير لم يقل هذا الدعاء الناصع الرائع، وهو في أعماق عزلة من الناس أو صومعة في رؤوس الجبال فاراً إليها من معترك الحياة، وإنما قاله وهو يسوس الشرق والغرب وهو مجهد من السعي في مصالح المسلمين.
ماذا يرجو عمر رضي الله عنه من الله تعالى؟ إنه يشكو إليه ضعف قوته وثقل أعبائه ويدعو أن يعصمه من الفتنة وتضييع الرعية.
وهل يفتن أحد في مثل هذا الموقف إلا أن تراوده الدنيا عن نفسه و همَّته و مثله العليا والمال بين يديه يكال بالكيل ولا يحصى بالعدد، والسلطان والنفوذ متعلقان في إشارة من إشاراته؟ هل يفتن إلا أن يكون ذلك... أو أن يطيش حلمه ويسفه رأيه فيُدلَّ على الناس بجاهه وعزة منصبه، وتنفق لديه سوق النفاق والرياء والملق الحقير الوضع؟ وهل تضيع الرعية إلا بهذين أو واحد منهما؟
وأخيراً: فهو يسأل الله الشهادة في سبيله والموت في مدينة رسوله. وإن فطنتك ورهافة حسك لمدركة جمال الغاية في الشهادة في سبيل الله، ولمدركة صفاء تلك العاطفة التي تسيل حباً وحنيناً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فإذا لم يسمع الله إلى خلجات تلك الأفئدة والجوانح، وهمسات هذي السرائر فلمن يسمع؟ أيسمع للملحدين المطموسين الذين لا يدرون من سر وجودهم شيئاً ؟ أو يسمع لأولئك الغافلين المتمرغين في أوحال المادة والمنافسة عليها؟
تلك جوانح شف عنها الغطاء، فغدت مقادير الله تلقى عليها ما يشبه الظلال، فلا تلبث أن تستحيل في فطرتها الصافية إلى مشاعر ملهمة تنطق اللسان أو تلهمه أن يدعو الله فإذا الدعاء ترجمة لتلك الظلال وتعبير يرهص بما شاء الله من مقادير...
وحين يتردد  الصدى بين مقادير الله وجوانح المؤمنين، ويعبر الأفق بما بين هذين الطرفين الكريمين من تجاوب فهي ساعة الإجابة، وهي ساعة إلهام الدعاء، وهي ما يقول عنه عمر رضي الله عنه: (فإذا ألهمت الدعاء كانت الإجابة معه).
وكل إنسان يستطيع أن يدعو، ولكن العبرة ليست بالدعاء بل بالشعور الباعث على الدعاء، وهو شعور تهتف به الجوانح عندما يسطع عليها ظل من ظلال المقادير الموشكة، وليس في طوق بشر أن يصنع ذلك الشعور لأنه ليس في طوق بشر أن يتصرف في ظلال تلك المقادير...
وهو ما عناه عمر رضي الله عنه بقوله: (أنا لا أحمل هم الإجابة وإنما أحمل هم الدعاء ) فالإجابة قرينة الدعاء لا محالة ولكن أنَّى لنا بالقدر الذي يلهم الدعاء ويحفظ إليه؟ ذلك ما يحسب له عمر رضي الله عنه الحساب كله.
وما دامت الهمَّة منوطة بحوافز  الدعاء و مثيراته فالسبيل إلى هذا الدعاء الصالح أن تستقبل وجه الله في كل شيء وفي كل حال، ولا تنظر إلا إلى ما عنده من مثوبة وكرامة ومنزلة.
ذلك في نظر الناس سيرة طيِّبة وهمَّة عالية وخلق فاضل عاطر! ولكنه لك ترقِّ في منازل الكمال وتصفية وتنقية وتهذيب فيغدو لك مع أسرار هذا الوجود تجاوب...
لا أقول: تعلم الغيب ولكني أقول: تجاوب رقيق عميق به إلهام ومشاعر طيبة مباركة تنهض إلى خير العمل. وتوحي بأطهر النيات وتلهم الكلم الطيب والدعاء الصالح.
لا يكون صاحب هذه السريرة بشراً مغلقاً مطموساً، تمر به نحات هذا الكون وأسراره كما تمر على الصخرة الصماء، بل قلباً هيناً ليناً، وبصيرة مستقبلة متأثرة متجاوبة فهو ممزوج بالوجود والوجود ممزوج به.
وماذا في هذا الامتزاج والتجاوب؟
فيه أشياء كثيرة لا نعرض لها الآن في هذا المقام. ومن هذه الأشياء أن الأحداث بخيرها وشرها حين  تقع له لا تقع منه موضع المفاجئة، لا لأنه كان يعلمها من قبل بل لأن امتزاجه بروحها وسرها الغامض ،جعل نفسه في مقام التهيؤ لكل طارئ فلا يطير به الفرح إذا طالعه ما يسر... ولا يحطمه الحزن إذا نابه ما يسوء، وذلك من جلال الخلق وعظمة النفس:[لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آَتَاكُمْ وَاللهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ] {الحديد:23}. وأحب أن أرقى بك إلى غير هذه فأقول :إن اتصال سريرتك بروح هذا الوجود وامتزاجها بسره قد يدق ويلطف، ويزداد حتى يزداد أنسها بالقدر الذي يسوء، فإذا هو في نفسك نعمة مرجوة وطلبة منشودة تسألها الله في دعاء حار...
من منا يا أخي يحب أن يطعن في بطنه بخنجر طعنات قاسيات تمزق أحشاءه حتى يندلق منها الطعام والشراب؟
هذا الحادث القاسي الذي تقشعر منه الأبدان كان جنيناً في ضمير قدر من أقدار الله تعالى التي خبأها لعمر رضي الله عنه، ولكن امتزاج عمر رضي الله عنه بحقيقة الوجود ونفوذ أسراره الخفية إلى نفسه الملهمة كان منه أن سطع هذا القدر في إشراق حلو على قلبه... لم تكن صورة هذا القدر واضحة بمفهوم معين، ولكنه كان إشراقاً جميلاً حلواً هتفت به الجوانح وترجمه اللسان: (اكتب لي الشهادة في سبيلك والموت في مدينة رسولك). دون  أن يدور بخلده على أيِّ صورة يكون هذا الاستشهاد...
واستمع إلى نموذج آخر ممن طهروا جوانحهم أن تلصق بها أوساخ الماديَّة: ذلك النعمان بن مقرن رضي الله عنه يستعمله عمر على ناحية اسمها كَسْكَر يجمع الزكاة من أهلها وهي شيء كثير، وليس على النعمان في ذلك رقيب ولا أمير إلا عمر رضي الله عنه الذي تنأى به المراحل والمفاوز عن كسكر... فهو وحده الذي ينظر في مال الناس ليفرض على كل ما يشاء من الزكاة ،إن شاء استوفى وبالغ، وإن شاء طفَّف وترك...وليس معه دواوين ولا دفاتر تحفظ ما يأخذ وما يدع، ولا هو يعطيهم على نفسه وثائق بما أدوا من حقوق الله تعالى.
رأى النعمان ذلك ورأى المال الكثير والدنيا العريضة تتزيَّن له وتراوده، فاستعصم وتماسك ونأى عنها بجانبه... ولكن المال الذي لا حارس له استمر يطرق على قلبه في إغراء وغواية... ويستعيذ النعمان رضي الله عنه بالله من هذه الفتنة الملحة التي ألقاها عمر في تيارتها المتجاذبة المهلكة فيكتب إليه:
(يا أمير المؤمنين إن مثلي ومثل كسكر مثل رجل شاب عنده مومس تتلون له وتتعطر، وإني أنشدك الله لما عزلتني عن كسكر، وبعثتني في جيش من جيوش المسلمين).
وكم كان بودي لو أقمنا طويلاً على هذا المثل نتأمل عمق العبرة فيه، ونستعيد ذكر أولئك الذين كانوا بالأمس القريب يتاجرون بجثث الضباط وأرواح الجند في حرب فلسطين ونرى النكسة البشعة التي أصابت الإنسانية في خلقها ومثلها العليا...
فهذا الرجل القديم لو أخذ واختلس وخان لما أحس أحد بأخذه واختلاسه وخيانته، ولن تكلفه الخيانة مع ذلك أن يتاجر بأرواح الجنود ولا دماء أحد من الناس، بل كانت الجريمة تتم بأيسر مئونة دون أن يأبه أحد أو يرتاب في أمرها إنسان... ولكنه يرفض الرذيلة لذاتها لا لخفائها عن أعين الرقباء ولا لقلة ما تصرع من الضحايا التعسة... ثم انظر إلى مرامي همته، فهو لم يطلب الإقالة من عمله ليخلد بعدها إلى الراحة والعافية في قعر داره، بل طلب أن يبعث إلى جيش من جيوش المسلمين؟؟
كان بودنا لو نطيل المقارنة هنا لنظر الفرق بين تلك الكواكب الدرية وهذي الخنازير الجرباء التي تدأب الدهر في أقذر القذر تدهده بأنوفها... ولكن شاهد العبرة ينتظرنا عن قرب ويعجلنا عما نريد من كل ذلك..
وأعجب عمر بهذا الضمير الذي لا يريد لصاحبه أن يعيش لصاً، وبتلك الهمَّة العالية التي نبذت مساومة المال إلى ميدان المصاولة والنزال... ورأى عمر ببصيرته أن تلك النفوس المطهرة الموصولة حقاً بنور الله حقيقة من الله بأن ينزل عليها نصره، ويختارها مظهراً لكرامته في خلقه، فكتب إليه أن يسير إلى نهاوند، وأن يكون أميراً لجيشها.
انظروا أيها الناس إلى هذا القائد القدوة كم كانت تساوي الحياة في هذه الأرض لديه؟ لقد قال لجنده إنني سأهز الراية ثلاثاً: أما الأولى فليقض الرجل حاجته وليجدد وضوءه، وأما الثانية فلينظر الرجل شسع نعله ويرم من سلاحه، فإذا هززت الثالثة فاحملوا... ثم قال: ولا يلوين أحد على أحد...
وإن قتل المتصدر منكم ـ يعني نفسه ـ فلا يلوين أحد عليه... وإني داع الله بدعوة فأقسمت على كل امرئ منكم لما أمَّن عليها: اللهم ارزق النعمان اليوم شهادة في نصر وفتح على المسلمين، فتكهرب المعسكر بهذه الدعوة الرائعة وأذعنت الأصوات بالتأمين.
وكان النعمان أول قتيل في المعركة وفتح الله على المسلمين ونصرهم في ذلك اليوم نصراً مؤزراً، أرأيت كيف ألهم النعمان الدعاء وكيف كانت الإجابة معه...
وإليك مثالاً ثالثاً تتعزز به كلمة عمر رضي الله عنه: أتي إليه رضي الله عنه بمال كثير فقال: أيها الناس إنه قد جاء مال كثير، فإن شئتم أن نكيل لكم كلنا، وإن شئتم أن نعد لكم عددنا، وإن شئتم أن نزن لكم وزنا. فقال رجل من القوم: (يا أمير المؤمنين دوِّن للناس دواوين -أي: دفاتر- يعطون عليها)، فاشتهى عمر ذلك ففرض لكل من المهاجرين خمسة آلاف درهم، وفرض لكل أنصاري ثلاثة آلاف، وفرض لكل زوجة من  أزواج النبي صلى الله عليه وسلم اثني عشر ألفاً، وكانت زينب بنت جحش رضي الله عنها إحداهن وكانت أسخى زوجاته عليه السلام ،وأعطاهن وأدناهن إلى قلوب الفقراء بالعطاء والصدقة، فلما رأت ما أرسل إليها عمر رضي الله عنه وجدت شيئاً عظيماً لم تر مثله ولم تحسبه لها بل ظنت أن عمر أرسل به إليها لتقسمه في صواحباتها من زوجات النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت :غفر الله لأمير المؤمنين ،لقد كان في صواحباتي من هي أقوى على قسمته مني، فقيل لها :إن هذا المال كله لك، فأمرت به فصبَّ وغطته بثوب، وكانت صائمة ،فقالت لبعض من عندها: أدخلي يدك لآل فلان، وأدخلي يدك لآل فلان وآل فلان، فلم تزل تعطي لآل فلان وآل فلان حتى قالت لها التي تدخل يدها :لا أراك تذكريني ولي عليك حق ،فقالت: لك ما تحت الثوب فكشفت الثوب فإذا خمسة وثمانون درهماً فأخذتها وانصرفت، فقالت لها خادمتها :هلا كنت أبقيت لنا شيئاً نتقوت به وأنت صائمة ؟ فقالت: لو ذكرتني لفعلت وعند الله فضل كثير، ثم رفعت الطاهرة المطهرة يدها إلى الله تعالى وقالت: اللهم لا يدركني عطاء عمر ابن الخطاب بعد عامي هذا؟؟ فكانت أول زوجاته صلى الله عليه وسلم لحوقاً به.
وبعد: فهل عرفنا حقيقة الدعاء المجاب ؟ وهل تعلمنا كيف ندعو الله تعالى... وهل أدركنا كُنه المطالب التي تدعوه بها سبحانه؟
وعلى هامش هذا: هل تعلمنا أن العزوف عن المال ليس معناه الخلوة عن الناس واعتزال الحياة.
وأنه لا يمنع من مزاولة جسام الأمور وعظيم المهمات؟ وأننا لا نعني به إلا التسامي بالهمم والنفوس إلى أهداف وراء هذا العرض الرخيص.
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
المصدر: مجلة المسلمون السنة الثانية، ذو الحجة 1372 العدد العاشر

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين