الشيخ بكري الطرابيشي (سوريا)أعلى القراء إسناداً في العالم

 

ضيفنا الكريم في هذا العدد هو فضيلة الشيخ بكري بن عبد المجيد الطرابيشي، ولد عام 1920م، والده فقيه من فقهاء دمشق وعالم من علمائها، اختاره الملك فيصل من بين عشرة علماء في دمشق متميزين، يقول ضيفنا عن والده : كان – رحمه الله – يتحسر دائماً أنه لم يحفظ القرآن ، غير أنه أفاد في سنّه الكبير من خلال نشاطه في التعليم، وقد أوجد فيّ رغبة في حفظ القرآن الكريم وتعلمه. يعدّ ضيفنا – 84 عاماً - أعلى القراء إسناداً على وجه الأرض. انتهزنا فرصة وجوده في الأردن فكان لنا معه هذا اللقاء، وذلك قبل ساعتين من موعد سفره عائداً إلى دمشق.
الفرقان : نرحب بكم ويسعدنا أن يكون فضيلتكم ضيف مجلة الفرقان.
الشيخ بكري : هذه ساعة سعيدة نقضيها بإذن الله.
الفرقان : في البداية حبذا لو تقدمون لنا نبذة عن نشأتكم القرآنية وبداية رحلتكم مع القرآن وشيوخكم، ليتعرف قراء الفرقان على فضيلتكم.
الشيخ بكري : لقد أوجد والدي فيّ رغبة كبيرة في حفظ القرآن الكريم وتعلمه، فحفظت القرآن وأنا في سن الثانية عشر من عمري، وعندما بلغت سن الخامسة عشر كنت متقناً له إلى حد ما ، إلى أن أصبحت قارئاً في سن العشرين فأخذني أبي إلى الشيخ (عبد الوهاب دبس وزيت) فبدأت أقرأ عليه، لكنه كان يشدّد عليّ، فالفاتحة والناس استغرقتا (15) يوماً، ثم بعد هذه المدة أقرأ سورة الفلق، فمللت منه وتركته، وكان هذا منذ (75) سنة تقريباً. ثم أخذني أبي إلى الشيخ عزالدين العرقسوسي وأنا في الثانية عشر من عمري، حيث أوجد فيّ رغبة في الحفظ وكان يتساهل معي عكس الشيخ عبدالوهاب دبس وزيت، فما إن أتممت العشرين حتى أخذت أسمع واحداً من قراء دمشق وهو عبد القادر الصبّاغ الذي أخذ القراءة على الشيخ أحمد الحلواني الكبير، فجزاه الله خيراً فلقد تحسنت قراءتي وأصبح حفظي متينًا، وأخذني إلى الشيخ محمد سليم الحلواني ابن شيخ القراء الذي أخذ القراءة عن أبيه الشيخ أحمد الحلواني الأول (الكبير)، وقد أخذ عن الشيخ أحمد الحلواني الكبير قراء العالم الإسلامي من أمثال أحمد مرزوقي وهو معروف، وقد بدأت أنا والشيخ محمد سليم الحلواني نحمل هذه الأمانة منذ (150) سنة: أنا منذ (65) سنة، وهذه المدة وما سبقها حملها الشيخ محمد سليم وأبوه.
أجازني الشيخ محمد سليم الحلواني سنة 1942 في القراءات السبع من طريق الشاطبية، وكان يحضر جلساتنا كلها شيخ مشايخ قراء دمشق محمود فائز الديرعطاني، وكان بصيراً، فقد أعطاه الله من البصيرة أكثر مما أعطاه من البصر، هو شيخ أديب، يحفظ متوناً كثيرة جدًّا، كان يُخرج القرآن من فمه كالدر المنثور، ومن حيث الأداء ليس له مثيل – رحمه الله -. وقد أعطاني الشيخ محمد سليم الحلواني من وقته فوق ما أستحق فكنت آخر من قرأ عليه، إذ بعد أن أجازني بمدة بسيطة توفي – رحمه الله - ، وبعد سنوات من وفاته أخذت القراءات العشر على قريني الشيخ محمود فائز الديرعطاني، الذي أجرى الله على يديه أن أنجب قارئين من قراء دمشق هما : الشيخ محي الدين أبوحسن الكردي، والشيخ محمد سكر، وعليهما انتشر علم القراءات أو حركة تحفيظ القرآن في دمشق. أما أنا فنشأت طالب علم وشيخاً للإقراء، وكانت الصفة المميزة لي أني تاجر في النهار وطالب علم في الليل، ولما كبر أولادي اتجهوا – غير اتجاهي في التجارة – صوب العلم فحازوا درجات في العلوم الشرعية والكونية، وتفرغت للإقراء، وبفضل الله فقد أنجبت عشرين قارئاً في القراءات العشر وأجزتهم بها، وهم بدورهم انجبوا عدداً كبيراً في العالم الإسلامي، أما عدد القراء العادي فقد تجاوزوا المئة ، ثم صاروا الألف عن طريق المئة، وأما الثوب الذي ألبسني الله وحده وليس لي فيه فخر إلا كمن حباه الله من أهل البيت فلا يستطيع أحد أن يكون منهم أو يتقرب منهم إلا بحبهم، أما أنا فأحمل أعلى سند على وجه الأرض، بيني وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم (27) قارئاً، بنفس الدرجة التي أنا عليها الآن، حيث توفي آخر قرين من 28 سنة.
الفرقان : شيخنا الفاضل ، كيف ترى الواقع الحالي لعلم القراءات مقارنة به قبل سنوات ؟
الشيخ بكري : منذ أربعين سنة زرت الرياض – وكنت أحافظ على الصلاة في جماعة – ولم أجد أحداً هناك يحسن تلاوة القرآن، ولم أكن أصلي وقتها في جماعة إلا وراء الشيخ ابن باز فقد كانت قراءته مقبولة، وعندما يتخلف الشيخ عن الصلاة، كان يصلي خلفه من كبار علماء الرياض أو نجد وتكون قراءتهم تقريباً غير صحيحة. فمرة قلت لأحدهم - وكان معي عالم من مصر - : أنت على درجة عالية من العلم والتواضع ، لو أنك تتوّج فضلك بتحسين قراءتك، وأخذها عن أحد الأئمّة القرّاء الكبار. تقبّل الكلام مني، لكن الشيخ المصري قال لي : أتقول هذا لعالِم الرياض ؟! أما الآن فأنا أزور الرياض - التي أقرأت فيها الكثيرين وأجزت فيها نحو المئات الذين أقرءوا المئات أيضاً – وأصلي في مساجد كثيرة في السنوات الأخيرة أي من سنة 1995 فما فوق، ولا أنكر على قراءة أحد.
الواقع الآن عموماً مدهش، في الأردن لديكم قراء، منهم (توفيق ضمرة) وفي جرش (عصام عبد المولى) الذي أخذ القراءات عليّ وهو الآن يقرئ واحداً آخر.
والله وفقني ووفّق بي أناساً ممن أخذ القراءة عليّ ، أسسوا مدارس للإقراء، فالشيخ محمد شقرون في دبي أسس مدرسة كبيرة فيها، والشيخ حسام سبسبي أسس في الكويت في وزارة الأوقاف (مسؤولية الإقراء)، وفي لبنان كان الشيخ عمر ماروك، وفي الجزائر تعد شهادة الإقراء شهادة جامعية، وكذلك أنزلوا هذه المنزلة في الإمارات والكويت.
الفرقان: هل لكم أن تذكروا لنا موقفاً مؤثراً رافق مسيرتكم المباركة في مجال الإقراء وكان له تأثير في شخصكم ؟
الشيخ بكري : كنت أقرئ – في جامع الخير في منطقة المهاجرين في دمشق – أحد طلاب العلم، فجاءت امرأة ووقفت أمام الباب. أنا حركتي ضعيفة ، فأصرّيت عليها أن تأتي، أتت فقالت : أريد أن أقرأ عندك. قلت لها : أنا لا أقرئ النساء، وإنما يقرئهن متخصصات في هذا الأمر، والشيخ أبوالحسن الكردي له محل خاص لإقراء النساء، وكذلك الشيخ محمد كريّم راجح – شيخ القراء – الذي هيأ الله له بنات يشركهن في الإقراء ، وأنا لم يتيسر لي ذلك فاعتذرت لها، وانصرَفَتْ على وعد إعادة النظر في ذلك . أما طالب العلم الذي أقرئه فقال لي : هي شيخة أخذت القراءات العشر عن طريق الطيبة ، وتريد أن ترفع سندها عندك. فالذي يلفت النظر في هذا الموقف أنه عندنا في دمشق الآن نساءٌ لهن دور في النهضة الإسلامية وفي حفظ القرآن والمحافظة عليه. وقد رأيت كتاباً للأخت سمر حاووط هنا في الأردن وأعجبت به (يقصد كتاب صنعة التميز والإبداع – رسالة إلى معلم القرآن لؤلفه سحر حاووط).
الفرقان : بماذا تنصحون – فضيلتكم – من يريد أن يحفظ القرآن الكريم ويتعلمه ؟ وما هي أنجع الوسائل وأسهلها لتحقيق ذلك ؟
الشيخ بكري :
أولاً : إيجاد الجو الذي يكون فيه تنافس وتبارٍ في الخير .
ثانياً : السلوك الحسن والبعد عن المعاصي.
ثالثاً : أن يتقن الطالب ما يحفظ ويعاود مراجعته، فإذا زدنا اليوم نضمّ إلى ما حفظنا سابقاً.
رابعاً نظام المجموعات الذي وفقكم الله إليه في جمعية المحافظة على القرآن يزيد من الحفظ، ويحصل التباهي.
الفرقان : ماذا عن منهجكم في الإقراء والتدريس ومنح الإجازة ؟
الشيخ بكري : الإقراء الذي نعرفه من (الحمد) إلى (الناس) وهو الذي نجيز عليه. بالنسبة لي فقد كثر العدد وصار فوق طاقتي، فصرت أفحص من يأتي، وأسمع له آيات من القرآن، مثل إجازة أهل الحديث، وهي أن يسمع الشيخ من أخيه ولو حديثاً واحداً ويتبين له أنه طالب علم فكان يجيزه، فهؤلاء أهل الحديث. وأنا أستقرئ الطلاب القرآن وأسمع منهم الفاتحة وآيات من البقرة، وأسألهم عمّن أخذوا القراءة، فإن كانت قراءتهم حسنة ومشايخهم معروفون كنت أجيزهم أسوة بأهل الحديث – فالشرط أن تكون قراءتهم جيدة وأخذهم عن أهل العلم.
الفرقان : وماذا عن تلاميذكم ممن تعدّونهم من القراء الكبار ؟
الشيخ بكري : في الإمارات (محمد شقرون)، وفي الكويت (حسام سبسبي) وفي الجزائر (محمد بوركاب)، وفي لبنان (عمر داعوق)، وفي الأردن (عصام عبدالمولى)، وفي دمشق عشرة مشهورون.
الفرقان : ما هي صيغة الإجازة التي تمنحونها للطلاب الحافظين ؟
الشيخ بكري : لقد نظمت السند نظماً من أربعين بيتاً منها :
باسمك ربي كل خير بدأته لك الحمد من بكري الطرابيشي مرسلا
وأزكى صلاة مع سلام على النبي محمد الهادي وآلٍ ومن تلا
ويشكر بكري ربه إذ أعانه على نقله القرآن عذباً مسلسلا
ويشكره إذ قد أعان بنقله حروفاً أتت في الحرز للسبعة الملا
على ما حوى التيسير إذ كان أصله وعنه رواه الشاطبي معللا
رواها بختم متقن عن محمد سليم وهو شيخ الشيوخ إذا تلا
وفائزُ ذاك الدير عطاني مبجلٌ لقد كان يأتي درسنا متفضلا
وقد كان من قبلي تتلمذ عنده ففاز فما يحكيه شيخ مرتلا
سليم روى عن أحمد خير والد غدا الشيوخ الشام شيخاً مفضلا
وأحمد قد نال الفضائل جمة بمكة بالمرزوق لمّا له اجتلا
فأضحى له القرآن طبعاً وضبطُه لتجويده يا ما أحيلاه إذ حلا
على المقرئ الفذ العبيدي قد قرا وهذا له الأحهوري شيخ به علا
وقد أخذ الإجهوري ما شاء ربه على أحمد البقري فكان أخا حُلا
محمد البقري شيخ لأحمدٍ محمد عن ذاك اليماني قد اجتلا
وأخذ اليماني عن أبيه شحاذة وأحمد عبدالحق شيخ له علا
وناصر الطبلاوي شيخ لأحمد وناصر تلميذ للأنصاري ذي العلا
غدا زكريا فضله عم رتبةً ففيها عظيماً قارئاً ومبجلا
وللأنصاري تلميذ لرضوان متقن ورضوان عن ابن الجزري تحملا
هو العلم الفذ الجليل فضائلاً إذا ذُكر القراء كان المفضلا
وقد كان تليمداً على ابن مباركٍ ولبَّان شام في دمشق تبجلا
وقد كان عبدالله صائغ حَملة عليه تلا ابن المبارك ماتلا
وصهر للإمام الشاطبي شيخ صائغ بخير شيوخ الذكر وقد فاز واعتلا
هو الشاطبي الفذ ثامن عشرة شيوخ لبكري علمهم شاع وانجلا
فهم قد تلقوه عن شيوخ أكارم وفي النشر ما يكفي لتعرف من علا
الفرقان : ننتقل – لو سمحتم – إلى مناقشة بعض قضايا التجويد، هل ترون أن يبدأ المبتدئ برواية حفص عن عاصم من طريق الشاطبية أم من طريق الطيبة ؟ وما رأيكم فيمن ينطق حرف الضاد ظاءً في (الضالين) ؟ وحول مسألة إطباق الشفتين أو فتحهما (الميم قبل الباء) هناك خلاف، ما رأيكم ؟
الشيخ بكري : أولاً الفرق بين الطريقين بسيط جدًّا، إلا مسألة التوسط في المد المنفصل، وقصر هذا المد وجواز قصره عن طريق الطيبة.
ثانياً: النطق بالضاد هو الصحيح، والظاء خطأ، والبت في ذلك يرجع إلى القراء.
ثالثاً: بخصوص إطباق الشفتين فقد بلغني عن الشيخ محمد كريّم راجح أنه بدون إخفاء، وأنا معه في ذلك، فالبحث عن الإخفاء متعب، والأفضل أن يرجع بذلك إلى القراء.
الفرقان : هل من تنبيهات أخرى تودون إيصالها لطلبة القراءات ؟
الشيخ بكري : من الأمور التي لاحظتها عند قراءة الكثير من القراء ، قلقلة النون، وهذا لا يجوز، ولقد سمعت هذا في الحرم المكي في آية (الحمد لله رب العالمين)، فنبهت عليه ونصحت الإخوة هناك، وقد أزيل تماماً.
الفرقان : شكراً لفضيلتكم منحنا جزءاً من وقتكم ، وأثابكم الله

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين