الغارة على الذات الحضارية - المؤامرة على التعليم
الغارة على الذات الحضارية من خلال التعليم :
       لأن التعليم هو سبيل صياغة الشخصية على مستوى الفرد وعلى مستوى الأمة كان من الطبيعي للقوى التي وقفت موقفاً عدائياً من الأمة الإسلامية أن تتوسل بالتعليم طريقاً للغارة على المقومات الأساسية المكونة للذات الحضارية للأمة الإسلامية، وهو ما نحاول بيانه من خلال النقاط التالية :
التعليم الأجنبي :
       بعبارات بليغة خاطب المسيو هاردي مدير التعليم الذي أقامته الحماية الفرنسية بالمغرب، جماعة من المراقبين الفرنسيين (حكام المحافظات) بمكانس عام 1920م في دورة من الدورات التي كانت تنظمها لهم سلطات الحماية لتزويدهم بالتوجيهات اللازمة، وإرشادهم إلى طريقة العمل في المناطق التي كلفوا بالسيطرة عليها، فماذا قال ؟
       فيما ينقله محمد عابد الجابري ، قال : "منذ سنة 1912م دخل المغرب في حماية فرنسا، وقد أصبح في الواقع أرضاً فرنسية. وعلى الرغم من استمرار بعض المقاومة في تخومه، تلك المقاومة التي تعرفون أنتم وإخوانكم في السلاح مدى ضراوتها، فإنه يمكن القول إن الاحتلال العسكري لمجموع البلاد قد تم، ولكننا نعرف نحن الفرنسيين أن انتصار السلاح لا يعني النصر الكامل. إن القوة لا تبني الإمبراطوريات، ولكنها ليست مسلمي التي تضمن لها الاستمرار والدوام. إن الرؤوس تنحني أمام المدافع، في حين تظل القول تغرس نار الحقد والرغبة نار الحقد والرغبة في الانتقام. يجب إخضاع النفوس بعد أن تم إخضاع الأبدان، وإذا كانت المهمة أقل صخباً من الأولى فإنها صعبة مثلها، وهي تتطلب في الغالب وقتاً أطول".
       ولم تكن هذه الكلمات خاصة بشخص بعينه ولا حركة استعمارية بعينها في بقعة محددة، بل مسلمي تعبير صريح بالتوجه العام الذي شهدته البلدان الإسلامية من مدارس أنشأها الأجانب فيها.
       وقد استفادت الدول الأجنبية من الامتيازات التي منحتها الدولة العثمانية لها في ممتلكاتها، وأخذت كل دولة من الدول الأوربية تتطلع إلى بسط نفوذها على جزء أو أجزاء من الأقاليم الخاضعة للحكم العثماني، وكان التعليم في مقدمة أساليب هذه الدول لنشر ثقافتها ونفوذها، ومن ثم تضمن ولاء الأبناء الذين يأخذون من هذه الثقافات بقدر، وكانت هذه أهم وسيلة للدولة الأوروبية لبسط سيطرتها.
       وقد تأسست المدارس الأجنبية في بادئ الأمر على أيدي الإرساليات الدينية، وكانت كل واحدة من هذه الإرساليات تعتمد على حماية دولة من الدول الأجنبية. ولم يكن تأثير هذه المدارس منحصراً في الطلاب الذين ينتمون إليها ويدرسون فيها، بل إنه كثيراً ما كان يتعدى إلى المدارس الطائفية والدينية؛ لأن المدارس الأجنبية كانت تزود تلك المدارس الطائفية بالمعلمين والكتب المدرسية، وكانت تواصلا للتأثير إلى درجة توجيه مناهج الدروس، وأساليب التدريس المتبعة فيها أيضاً. وهكذا أصبحت المدارس الأجنبية من آليات السياسة الاستعمارية.
       ولعل الجزائر من أكثر الأمثلة وضوحا فقد سعت السياسة الفرنسية إلى تحقيق أهمها :
       الفرنسة، وذلك بإحلال اللغة الفرنسية، وثقافتها محل اللغة العربية وثقافتها في الجزائر، حتى ينسى الجزائريون لغتهم وثقافتهم القومية، ويستعيضوا عنها باللغة والثقافة الفرنسية، كما حدث في عدد من البلدان التي تعرضت مثل الجزائر للاحتمال العسكري المصحوب بعملية غزو ثقافي مركز وموجه، نحو تحطيم مقومات شخصيتها القومية، فنسيت لغتها وثقافتها واستبدلتها بلغة وثقافة المستعمر الذي أحتل وطنها، مثل الهنود الحمر في أمريكا الشمالية، ومعظم شعوب أمريكا اللاتينية وبعض شعوب القارة الأفريقية.
       التنصير، وقد أعلن سكرتير الحاكم العام العلمي للجزائر في عام 1832هـ هذه السياسة رسمياً فقال : "إن آخر أيام الإسلام قد دنت، وفي خلال عشرين عاماً لن يكون للجزائر إله غير إله المسيح، ونحن إذا أمكننا أن نشك في أن هذه الأرض تملكها فرنسا، فلا يمكننا أن نشك على أية حال بأنها قد ضاعت من الإسلام إلى الأبد. أما العرب فلن يكونوا رعاياً لفرنسا إذا أصبحوا مسيحيين جميعاً".
       وفي ليبيا التي احتلت عام 1911 من قبل إيطاليا كان الإيطاليون يتخذون بعض الإجراءات التي تظهر استهانتهم بالشعائر الدينية الإسلامية كوضع الصليب على المدارس وعلى الكتب والمكاتبات الرسمية. وقد حاول الليبيون في تمسكهم بدينهم وثقافتهم أن يحصلوا من الإيطاليين في جميع الاتفاقات التي أبرموها معهم على أن يتعهد الطليان بجعل التعليم في طرابلس وبرقة موضع عنايتهم على أساس احترام لغة البلاد وتقاليدها، إلا أن الطليان، جريا على عادتهم في نقض عهودهم سرعان ما صاروا ينشئون المدارس التي عنيت فقط بنشر نوع من الثقافة الإيطالية التي تخدم أغراضهم الاستعمارية فحسب ، وأخذوا يدعون لهذه المدارس تارة بالترغيب، وأخرى بالترهيب.
       وقد منع الطليان – إلا في حالات استثنائية نادرة – أبناء المواطنين الليبيين بعد انتهاء تعليمهم بالمدارس بالابتدائية التي أنشأها لهم الإيطاليون من أن يلتحقوا بالمدارس الثانوية التي يجرى التعليم فيها باللغة الإيطالية، وعندما أراد الليبيون أن يستمل أبناؤهم تعليمهم في مصر أو في تونس، حاول الطليان تحويل هؤلاء الأبناء إلى روما بتشجيعهم وإعطائهم أموالاً من الأوقاف الإسلامية طالما يذهبون لتلقي العلم في أية مدرسة بأية مدينة إيطالية.
       وإذا تأملنا على سبيل المثال في المدارس الأجنبية التي انتشرت في مصر فسوف نجد أنها قد خرجت عدداً من المصريين الذين يتقنون اللغات الأجنبية، وخاصة اللغتين الإنجليزية والفرنسية ويجيدون التحدث والكتابة بهما. ولاشك أن التنوع في التعليم قد يكون مرغوباً فيه، غير أن هذه المدارس كانت تشكل شباب الأمة تشكيلاً يتسق والنموذج الحضاري بها، مع قطيعة تامة بالموروث الحضاري الإسلامي، بل والمصري الخاص.
       وكان التعليم الأجنبي يتوزع بين العديد من الأنواع : إنجليزي وفرنسي وأمريكي وإيطالي وألماني ويوناني. والثابت مما وجد من كتب في مكتبات المدارس الأجنبية أن كل نوع من أنواع التعليم كان يتبع دولة معينة، فكان يقوم بالترويج للثقافة الخاصة بهذه الدولة ومصالحها. وشملت الكتب العديد من الأفكار المحطة من شأن العروبة والإسلام ومصر، وكان الطلاب يتخرجون وهم يعرفون كل شيء على وجه التقريب من تاريخ وجغرافية ودين الدولة التابع لها، ولا يعرف شيئاً عن تاريخ وجغرافية ودين المصريين إسلاماً أو مسيحية على المذهب الأرثوذكسي، فضلاً على إهمال العربية.
       وكان من أبرز المنشآت التعليمية الإنجليزية في مصر، كلية فيكتوريا التي أنشئت بالإسكندرية في بداية القرن 1901م، والتي عرف عنها أنها ضمت بين صفوفها في فترات مختلفة عدداً من المسئولين عن الحكم في بعض البلدان العربية. وكذلك الجامعة الأمريكية بالقاهرة، والتي أنشئت عام 1919م تحت مظلة إرسالية دينية أمريكية، والتي لم يقف نشاطها عند حد الدراسات النظامية لمنح شهادات دراسية، بل نظمت العديد من الأنشطة التي أفسحت المجال لعدد غير قليل من المثقفين والعلماء في مصر، وفتحت أبوابها لكم غفير من الجمهور، ويكفي مثالاً لذلك أن نعرف أنه في العام 45/1946م ألقيت 22 محاضرة عامة، حضرها 353، و16 محاضرة خاصة حضرها 109 وعرضت 16 فيلماً ثقافياً حضره 952 و 25 فيلماً خاصة بالأطفال، حضره 581 و 6 أفلام خاصة بالخريجين، حضرها 657، كما عُرض فيلم سينمائي جزائري 16 مرة شاهده 1023 شخص.
       وفي العام 42/1943م بلغ عدد الطلاب بالمدارس الأجنبية في مصر في التعليم الابتدائي 53386 من مجموع كلي 1359894، وبالتعليم الثانوي 10739م من مجموع كلي 53299 ومدارس مهنية وفنية 4535 من مجموع كلي 53874، وبالتعليم العالي 519 من مجوع كلي 12522.
       وأتيحت الفرصة في العراق للتعليم الأجنبي أن يشهد بدوره عهود ازدهار وخاصة منذ أن تولى أمر التعليم فيه عام 1915 "جون فان إس J. Van Ess وقد ترأس إرسالية أجنبية بدأت بمدرسة الأمريكان للبنين في البصرة، كذلك افتتحت مدرسة مماثلة في بغداد، وفي العام 45/1946م كان عدد المدارس الأجنبية للبنين للمرحلة الابتدائية تضم 917 تلميذ، وفي التعليم المتوسط مدرستان كان بهما 114 تلميذ، ومدرستان ثانويتان بهما 582 تلميذ، ومدرسة للبنات بها 127 تلميذة.
       كما شهدت العراق نشاطاً تعليمياً طائفياً كان من أبرزه نشاط الطائفة الإسرائيلية في بغداد الموصل والبصرة، حيث أدارت مجالسها الطائفية مدارس ثانوية وابتدائية ورياضية أطفال، بعضها كان بمصروفات وبعضها الآخر بالمجان. والمعروف أن جميع الأطفال الإسرائيليين كانت تتاح لهم فرصة الإلمام بالقراءة والكتابة على الأقل. وعلاوة على المدارس النهارية الكاملة والمسائية التي تماثل مدارس الحكومة في نوعها، فقد كان لهذه الطوائف ورش ومدارس صناعية لأطفال الفقراء.
       كذلك كانت هناك مدارس طائفية أخرى تابعة للطوائف : الآشورية، والأرثوذكسية السورية، والكاثوليكية السورية، والكاثوليكية الرومانية، والكلدية، والأرمنية.
       أما بالنسبة لدولة مثل سوريا، ففي العام 44/1945م كان بها من مدارس الكاثوليك (يوناني، سوري ، كلداني، ماروني، أرمني) 71 مدرسة بها 7801 تلميذ، أما الأرثوذكس (يوناني، سوري، أرمني) فقد كان عدد المدارس 111 بها 16671 تلميذ، وكان للبروتستانت (سوري وأرمني) 17 مدرسة بها 169، ولليهود أربع مدارس بها 846 لتلميذ.
       والنوادي فقد كان لجميع هؤلاء 203 مدرسة بها 27014 تلميذ، بينما كان عدد مدارس المسلمين 77 مدرسة بها 14664 تلميذ، وكانت هناك أربع مدارس مختلفة الأديان بها 1332 تلميذ.
       ولي لبنان، في العام 42/1943م نجد أنه قد كان بها 326 مدرسة أجنبية، بها 46726 تلميذ وتلميذة، علماً بأن عدد البنات كان 24410، أي أكثر من البنين. ومن بين هذه المدارس احتلت المدارس الفرنسية المركز الأول، حيث بلغ عددها 273 مدرسة كان بها 39513 تلميذ وتلميذة، وتليها المدارس الأمريكية التي بلغ عددها 36 مدرسة، والبريطانية 14 مدرسة ومدرسة واحدة لكل من الدانمارك، واليونان وسويسرا.
       وفي مقدمة المعاهد الأمريكية في لبنان، بل في العالم الإسلامي بأسره، الجامعة الأمريكية ببيروت، وكان تأسيسها في سنة 1866م، وجاء طلابها من مختلف البلدان الإسلامية، ومن المعروف أن عدداً غير قليل من النخب الثقافية في المنطقة العربية تلقى العلم بهذه الجامعة.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين