حوار حول الثورات العربية وأسئلتها الفكرية والشرعية والسياسية

لا تسلم وأنت تحاور الدكتور أحمد الريسوني من شعور الاندهاش والتعجب من قدرته التحليلية المبنية على المتابعة الدقيقة للوقائع والأحداث.

ربما كانت عقليته الأصولية المقاصدية هي السر في القدرة على الملاحظة والتحليل والتركيب والفرز والتصنيف والاستنباط والتوقع.
ذلك ما يظهر من خلال هذه المقابلة التي أجريتها معه عن قضية ساخنة ملتهبة تقلب تاريخ الأمة العربية والإسلامية، والعالم أيضا. إنها الصفحات الرائعة الجديدة التي تكتبها الشعوب العربية بثوراتها وحراكها وأسئلتها.
حملت بعضا من تلك الأسئلة، وخاصة الأسئلة الفكرية والعلمية والشرعية لفقيه المقاصد الشرعية وألقيتها بين يديه، فكان هذا الحوار المكتوب الذي يرافق الحوار المشاهد المبثوث في يوتوب وفي صفحة أحمد الريسوني على الفيسبوك وفي موقعه الإلكتروني ومواقع أخرى:
الدليل ما قال الرئيس
الحسن سرات: بالمقابل.. هناك فئة أخرى من العلماء وقفت في وجه الثورة وساندت الحكام الذين أطيح بهم أو الذين سيطاح بهم.. ولهم أيضا حجج وبراهين.. هل لهم تأصيل علمي لمواقفهم.. ماذا يمكن أن نقول عن هؤلاء العلماء؟ فهؤلاء علماء في مقابل علماء..
 
الريسوني: أنا على كل حال أؤكد من جهة أن الموضوع الذي نتحدث عنه موضوع حمال أوجه من حيث التأويل والنظر. وحتى الذين يؤيدون الثورات الآن قد لا تجدهم على وتيرة واحدة ودرجة واحدة. فمن العلماء الآن من يؤيدون حتى استعمال السلاح في وجه الأنظمة التي استعملت السلاح. سمعت من العلماء من يقول: النظام الفلاني أطلق النار على الشعب فأصبح فئة باغية، أطلق النار معناه وضع المجتمع في حالة حرب، وحرك جيوشه وحرك أسلحته الفتاكة ضد المتظاهرين وضد الشباب وضد الأزقة والشوارع والمساجد وضد الساحات.. فإذن هو قد استعمل السلاح فأصبح فئة باغية والله يدعو إلى مقاتلة الفئة الباغية. فهذا نظر مؤسس كما نرى، ولكن من العلماء من لا يصل إلى هذه الدرجة ويدعو إلى التمسط بالعمل السلمي حتى لو استعمل الحاكم السلاح. هو حينئذ مجرم قاتل لكن مع ذلك نستمر نحن، تجنبا لمزيد من الدماء وتجنبا للخروج المسلح الذي ورد فيه ما ورد من التحذير، لا نتجاوز هذا الخط الأحمر. إذن حتى بين العلماء المنخرطين والمؤيدين لهذه الثورات قد تجد تفاوتا في التقدير.. وهذا من قبيل ما يسميه العلماء تحقيق المناط. وإذن من باب أولى أن نجد علماء آخرين ملأهم الخوف والتخوف والتهيب. فضلا عن فئة معروفة ربطت نفسها بالحاكم فهي تدور معه، وهي ظله، وهي تقول بما يقول، وتسكت حيث يطلب منها السكوت.. هؤلاء لا ننتظر منهم غير هذا في السلم وفي الحرب..في الثورات وغير الثورات.. هناك أجهزة فقهية أو علمية أو علمائية.. تقريبا جميع الأنظمة لها مثل هذه المؤسسات ولها مثل هذه الشخصيات ولها مفتون ولها هيئة فتوى.. لها هيئة علماء مرتبطة بوزارة الأوقاف، مرتبطة بالرئيس.. هؤلاء لا يفكرون أصلا، ينظرون ماذا يريد النظام، ماذا يريد الرئيس، ماذا يريد الحاكم والقائد، فيقولون به ويفتون به. هؤلاء موجودون، هؤلاء هم المعارضون الحقيقيون للثورات، وهؤلاء كما قلت موقفهم لا يخضع لمنطق علمي، ولا لأدلة علمية. هؤلاء دليلهم ماذا قال الرئيس؟ ماذا تريد الدولة؟ هذا منطقهم ليس الآن فقط. إذا قمنا باستقراء عن مثل هؤلاء قديما وحديثا: هذا مفتي السلطان، هذا مفتي الدولة، هذا مفتي الرئيس.. إلخ.. هؤلاء هكذا موقفهم ولا يمكن مناقشتهم علميا. يمكن مناقشتهم علميا إذا كانوا تارة مع الدولة وتارة ضدها، أما إذا كانوا معها دائما وبصورة تلقائية ومتطابقة، فهؤلاء طبقة موظفة تؤدي وظيفة معينة.
 
الحسن سرات: النقاش يكون مع الذين لديهم تخوف وتهيب، ولديهم حرية.
 
الريسوني: نعم هؤلاء موجودون..
 
الحسن سرات: تخوفهم وتهيبهم ليس شخصيا..
 
الريسوني: نعم نعم.. أعني من لديهم تخوف من مآلات الأحداث. مثلا في مصر أعرف ناسا لا يمكن أن نقول إنهم من فقهاء السلطان ولا من فقهاء الدولة ولا من أنصار حسني مبارك. ربما أوذوا هم في أيامه، لكن كانت عندهم حسابات وتقديرات وتخوفات. وحتى في بداية الأحداث والأيام الأولى للثورة بسوريا التقيت بعدد من العلماء وكانوا ممن عندهم هذا التخوف في البداية. يتخوفون من الآتي، وهو أن هذه الانتفاضة تعم وتستمر لبضعة أيام أو بضعة أسابيع، وفي النهاية، النظام الحاكم ببطشه، وأسلحته وأجهزته الجهنمية، سيفتك بهم وسيسحقهم ويمحقهم محقا، ونعود إلى الأسوأ، كما حدث في كذا وكذا، ويمثلون لذلك. مثل هؤلاء لهم أدلة. وهؤلاء على كل حال يعذرون، لكن ليس بالضرورة أن نتفق معهم، لأن المستجدات ليست إلى جانبهم. الآن المستجدات هي العوامل المساعدة الداخلية والخارجية، والثورة التواصلية، والتراكمات التي حصلت حتى جعلت الانفجار شعبيا هذه المرة. منذ خمسين سنة وستين وسبعين سنة، كانت تثور فئات طليعية أو دينية أو سياسية معارضة تثور بأشكال متعددة ثم تقمع، وندخل في دورة جديدة، وقد يقع تغيير بسيط وقد لا يقع تماما، وقد تنتكس الأمور إلى الوراء، لكن الجديد الذي ينبغي أن يقدره هؤلاء السادة هو أنه الآن الأمور عامة جدا.. الآن في سوريا، صحيح على سبيل المثال أن النظام ما زال يكتم الأنفاس بنسبة ما في دمشق العاصمة، وهذا مفهوم لماذا العاصمة، والعواصم تكون دائما أكثر تحصينا وأكثر خنقا واختناقا.. لكن الجديد هو التظاهرات في الأرياف وفي القرى وفي المدن الصغيرة، وهذه عادة لا تثور.
 
الحسن سرات: ليلا ونهارا..
 
الريسوني: نعم.. هذه عادة أكثر استكانة وأشد خوفا.. بمعنى عندي أنا حينما يقال تظاهرات وصدامات في ريف دمشق، أنا أعرف أن الدمشقيين هم أشد تأييدا، لكنهم عاجزون ومكبلون.. وربما الأجهزة أكثر من عدد السكان.. وهكذا في بعض المدن.. الآن الأرياف هي المعدن الخام لدى الأنظمة للتسليم والاستسلام ولإجراء تجاربها، وهي الأشد خوفا والأشد ضعفا، والأشد ذلا.. الآن عندما تتحرك هذه القرى في سوريا، خاصة في سوريا، هذا معناه أنه أمر شعب بكامله.. والنخبة في دمشق متأخرة عن الأرياف.. هذا ما لا يفهمه بعض العلماء، أو بعض المثقفين، أو بعض السياسيين: الآن الانتفاضة والغليان والمبادرة أو ما يسمى الثورة هذه مسألة شعوب. ولذلك إذا قررت الشعوب ليس لأحد أن يتخوف على الشعوب.
 
صمت شيخ الأزهر بطولة
 
الحسن سرات: هل يمكن القول بأن جمهور العلماء وأغلب العلماء مؤيد للثورة، إذا استثنينا علماء السلطان؟
 
الريسوني: أنا أعتبر أن الساكتين مؤيدون..هناك نسبة من الساكتين لكن يؤيدون في صمت.. وإذا اعتبرنا هؤلاء معناه أن الأغلبية العظمى مؤيدة لما يجري..
 
الحسن سرات: معنى ذلك أن الساكت عن الحق في هذه الحالة ليس شيطانا أخرس.
 
الريسوني: قد يحاسب على ذلك.. لكن أنا أبحث عن عمقه. الآن تضغط الأنظمة التي فيها مثل هذه الثورات، وفي مقدمتها سوريا واليمن، وقبل ذلك ليبيا ومصر وتونس، بشكل رهيب على جميع الشخصيات. الأنظمة وأجهزتها تضغط بشكل رهيب لكي تحرك المؤيدين وتحرك التأييد من العلماء ومن الصحافيين ومن الحقوقيين ومن رجال الأعمال ومن الوجهاء. وحينما لا تفلح في انتزاع تأييد صريح من العالم، فمعناه أنه ضدها. حينما اشتدت الثورة في مصر كان كثير من الشباب ومن العلماء أيضا -وجرى بيننا أحاديث- كانوا ينتقدون شيخ الأزهر لصمته، وكنت أقول يومئذ إن صمته بطولة. صمت شيخ الأزهر والثورة مستمرة لثلاثة أسابيع تقريبا، ومكانة شيخ الأزهر في النظام المصري تعادل مرتبة وزير، بل رئيس الوزراء، يعني أنه جزء من الدولة، وجزء من الحكومة، وأي رئيس مصري في مثل هذه الظروف يستنجد بشيخ الأزهر لمكانته المحلية والعالمية، ولا أتصور إلا أن مبارك شخصيا أو بواسطة شخصيات أخرى قد ضغط على شيخ الأزهر ليدين الثورة وليكفرها وليحرمها وليجرمها، ولكنه رفض. بل بلغني شخصيا -بيني وبين شيخ الأزهر راو واحد- أنه قال أنا لن أكون لا مع هؤلاء ولا مع هؤلاء. واعتبرت يومئذ هذا بطولة. وهذا يعني أنه مع الثورة، لكنه رسميا وعلنيا لن يعلن أي موقف. إذن فالعلماء الساكتون، بل حتى الناس الساكتون الآن.. الآن يقولون في بعض الدول، في اليمن وفي سوريا، انظروا اليمن 25 مليون، ومجموع الذين يتظاهرون ضد الرئيس قد يكونون مليونين أو ثلاثة، والباقون مع الرئيس. لا.. لو كانوا مع الرئيس هذه فرصتهم ليظهروا أنهم مع الرئيس. يخرج مع الرئيس من يخرج.. والمعارضون.. لكن الساكتين في غالبهم، وخاصة في الأنظمة القمعية الشديدة مثل سوريا وليبيا، الساكت هو ضد النظام... هذا معروف.. من سكت ولم يؤيد النظام ولم ينخرط معه، ولم يستجب له ولطلباته فهو ضده. إذن معنى هذا أن معظم العلماء الساكتين أو الذين وقفوا بشكل صريح مع الثورة هم مع الثورة.
 
 
الإسلاميون.. لم يتقدموا ولم يتأخروا
 
الحسن سرات: وماذا عن مواقف الإسلاميين. الملاحظ أنهم كانوا بين حائر ومتردد، ثم منخرط في الثورات.. في نظركم لماذا هذا الإحجام. وكيف يمكن تصنيف الإسلاميين إزاء الثورات العربية عموما؟ هل هي مواقف شبيهة بمواقف العلماء؟
 
الريسوني: سبق أن سمعت لكلمة للمرشد العام للإخوان المسلمين الدكتور محمد بديع قالها في أوج الثورة المصرية عندما سئل عن موقف الإخوان فقال "الإخوان جزء من الشعب المصري لا يتقدمون عنه ولا يتأخرون".. الحركات الإسلامية لم تتقدم ولم تتأخر في هذه المعركة، أو في هذه الواقعة. لم تتقدم بمعنى لم تكن هي صاحبة المبادرة. لم تكن هي صاحبة الطليعة. لم تكن هي المتفردة بالصف الأول. لكنها أيضا لم تتأخر. يعني أن تتردد بعض التردد هنا أو هناك كما وقع في مصر إلى حد ما، فهذا تردد بسيط، وإلا فشباب الإخوان كانوا منذ أول لحظة، من يوم 25 يناير، من مسائه أو صباحه كانوا حاضرين. الإخوان رسميا بعد يوم أو يومين انخرطوا في العملية، بمعنى لم يتقدموا ولم يتأخروا..
في تونس، كما نعرف الأحداث فاجأت الجميع. والذين خرجوا لا يمكن وصفهم لا بأنهم إسلاميون ولا بأنهم غير إسلاميين... هم الشباب المتذمر المستاء الذي ذاق الذل والمهانة، وذاق التضييقات المختلفة وعاش ونشأ في الفساد المحيط به. الثورة التونسية كانت أكثر تلقائية كما هو معروف، وفاجأت الجميع بمن فيهم الذين أشعلوها، إذ ما كانوا يظنون أن الأمور تمشي بهذه الدرجة.
إذن عموما الحركات الإسلامية كما قلت كانت حاضرة بوضوح، وبشكل فعال، لكنها لم تتقدم ولم تتأخر. لكن على تفاوت: ففي تونس ربما كان ظهورها أكثر تأخرا، وكان ربما أقل. في مصر كان التردد يسيرا لكنها كانت حاضرة. في اليمن، على العكس الحركة الإسلامية هي التي تبادر وشباب الحركة الإسلامية هو الذي يقود، لكن الثورة هي أيضا ثورة مجتمع وثورة شعب. وإذن هذه المرة من حكم الله ومن ألطاف الله وتدبيره أن الحركات الإسلامية لم تكن طليعية ولم تكن هي صاحبة المبادرة. فهذا أسقط كثيرا من الدعاوى وكثيرا من الأوراق. كما نعرف قال القذافي هؤلاء بن لادن.. هؤلاء الظواهري.. هؤلاء طالبان.. وبشار الأسد خطب مرارا عن المتطرفين وعن الإرهابيين وعن... ولكن هذا الكلام كله ذهب أدراج الرياح، لأنه واضح للعيان أو في التلفزيون وحيثما نظر الناظر يرى أن الشعب بكامله بكل فئاته.
فالحركات الإسلامية هذا تقويمنا لها. بطبيعة الحال بحكم تجربتها وحضورها ميدانيا أكثر من العلماء ولاختلاف الوظيفة لأن المطلوب من العالم هو الموقف العلمي بالدرجة الأولى، وإذا جاء العالم ليقود في الميدان فبها ونعمت، وإذا لم يأت تعنينا منه كلمته. أن يقول الكلمة المطابقة للشرع فتطمئن القلوب وتقنع العقول، فلذلك فالحركات الإسلامية كانت موجودة في الشارع لكنها لم تسيطر لأنها لم تكن صاحبة الدعوة ولا صاحبة القيادة لا في البداية ولا في النهاية.
 
زلزال في الأزهر وفي السلفيين
 
الحسن سرات: بطبيعة الحال، هذه الثورات سيكون لها تأثير على الفكر وعلى النظر. ولنضرب لذلك مثلا ظاهرا بارزا هو الحركة السلفية، خاصة في مصر: كانوا يقولون قبل الثورة بحرمة الأحزاب وحرمة الانتخابات وعدم ترشيح المرأة.. لكن بعد نجاح الثورة نراهم الآن يؤسسون أحزابا وسيرشحون نساء.. هل يمكن القول إن هذه الثورة التحريرية حررت الفكر نوعا ما، وخلخلت كثيرا من المناهج والأفكار.
 
الريسوني: نعم.. ما حصل وما يحصل في عدد من الدول العربية، وعلى رأسها مصر، قد أحدث زلزالا فكريا وزلزالا علميا، ليس في السلفيين بمصر، بل في السلفيين بكل أنحاء العالم، بل في العلماء بكل أنحاء العالم. بل وفي الأزهر.. الأزهر نفسه الآن ومنذ يناير يعرف ثورة.. يعرف غليانا.. يعرف مراجعات.. يعرف إعادة تأسيس.. الفقهاء يراجعون أنفسهم.. يراجعون أوراقهم.. يراجعون معتقداتهم.. هناك حقا زلزال حقيقي.. ربما يكون السلفيون المثال البارز.. ولكن عندي أنا الثورة الجارية في الأزهر أعمق وأكثر وسيكون لها أثر أبعد. علماء الأزهر تحرروا. خطباء المساجد في هذه الدول تحرروا.. خطباء المساجد كانوا في هذه الدول -على تفاوت- عبارة عن مذيعين وقراء أوراق وببغاوات. الآن الخطيب يصبح خطيبا حقيقيا ذو مسئولية وذو تفكير وذو تقدير وذو تحليل.. أسبوعيا خطيب الجمعة عليه أن يقيم الأحداث في حيه وفي مدينته وفي بلده وفي العالم، وأن يختار ما الذي يتناوله بكل حرية.. أصبح خطيب الجمعة مفكرا.. لم يكن من حق خطيب الجمعة أن يفكر.. لم يكن من حقه أن يعبر عما في نفسه، وإنما يقول ما يقال له.. فهذه الثورة في خطباء الجمعة وفي الأزهر والأزهريين والسلفيين والإخوان المسلمين. الإخوان المسلمون فكرهم كان أقرب إلى هذا لكن أيضا عرفوا ويعرفون وهم بحاجة إلى ثورة، وإذا لم يقوموا بثورة في أنفسهم سيصبحون متخلفين عن الثورة..
فحقيقة السلفيون نموذج بارز.. لماذا؟ لأن السلفيين كانت عندهم رؤية مركبة -وعند غيرهم أيضا- لكن السلفيون كانت لهم رؤية مركبة: أولا هذه الأنماط من العمل السياسي من تظاهرات وانتخابات وديمقراطيات وما إلى ذلك.. هم بحكم طريقتهم في فهم الدين يقولون هذه غير موجودة عند السلف.. فهي أمور دخيلة وأمور غربية وابتداعية.. ونحن نلتزم بما عهدناه وما وجدناه عند السلف وعند الصحابة وعند الأجيال الأولى.. وبناء على ذلك يعتزلون هذه الأمور.. وعندما يعتزلونها يزدادون جهلا بها وبحقيقتها.. ويزدادون نفورا منها وبخسا لها وعداء لها.. فهذا هي الرؤية المركبة.. الآن الأحداث أرغمتهم أن يحتكوا.. وأرغمتهم الأحداث أن يروا النتائج بأنفسهم.. فكثير من الأفكار تزلزلت واهتزت، وبدأوا يراجعون.. وأنا أحمد لهم أنهم راجعوا بهذه السرعة. طبعا لا ننسى أن هناك سلفيين ما زالوا معتصمين بالموقف القديم.. ما زالوا يرون أن هذا كله لاشيء وأنه خروج عن الطريق. وما زالوا ينظرون إلى مبارك بعين الرضى والعطف. كما توجد فئات صوفية لها نفس النظرة.. هنا يلتقي الصوفي بالفقيه السلفي.
 
عصر جديد للفقه الإسلامي
 
الحسن سرات: هل يصح القول إننا أمام عصر جديد للفكر الإسلامي والفقه الإسلامي بعد هذه الثورات.. خاصة أسئلة الدولة المدنية والمجتمع المدني والأحزاب السياسية والتدافع والعلاقات الخارجية وغيرها.. ما هي أبرز الأفكار التي تفرض نفسها على الفقه الإسلامي والفكر الإسلامي الآن ومستقبلا؟
 
الريسوني: بكل تأكيد، ما حصل ويحصل الآن بالدول العربية، أو على الأقل، يحدث بشكل بارز في بعضها، وكما قلت، إذا كان قد أحدث زلزالا وخلخل كثيرا من الأفكار، وجلب إلى الميدان علماء كانوا منسحبين منه، كل هذا سيكون من آثاره، بل بدأ يعطي آثاره من الآن، وهي إعادة تشكيل للفكر الإسلامي وللفقه الإسلامي، لا يقتصر الأمر على الفكر، بل حتى الفقه الذي يتسم بأدلته وثباته وقواعده، يعرف الآن خلخلة كبيرة، ومراجعات كبيرة، وهي جارية الآن الآن.. لو تذهب لتطلع على ما يجري في الأزهر وفي أوساط الأزهريين وعلماء الحركات الإسلامية، والعلماء القرييون والمهتمين، ولو تطلع على الندوات والمؤتمرات التي تعقد الآن، أو تلك التي يجري التحضير لها، الخلافة والنظام السياسي في الإسلام، الشورى، طاعة الحاكم، علاقة الحاكم بالمحكوم، وظيفة العلماء.. كلها الآن قضايا فيها نقاش شديد ومراجعات جارفة. مراجعات كشفت عن كثير من الأمور الهشة التي كانت تعيش وتستمر بحكم الوضع التقليدي والرتابة، وبحكم الأنظمة التي حافظت على ذلك وتحميه وتدعمه. الآن كما تزلزلت الأنظمة، تزلزلت عقول المفكرين وعقول الفقهاء. وطبعا يلمس ذلك المتابع من كثب. منذ فبراير وأنا أعيش ذلك. ما جالست أحدا ولا راسلت أحدا ولا اتصلت بأحد من العلماء إلا وأجد المراجعات جارية، والأفكار الجديدة تنبثق وتتولد. لكن بالنسبة لظهور ذلك وظهور أثره، هذا قد يحتاج حتى إلى سنوات، حتى تتم صياغة البناء الجديد والفكر الجديد، خاصة في القضايا السياسية وهي الأبرز.
 
الحاكم إذا طغى سقط
 
هل يمكن أن تضربوا لنا بعض الأمثلة لتلك القضايا الجديدة والأفكار التي تزلزلت وتراجع؟
 
الريسوني: مثلا قضية طاعة الحاكم.. الأدبيات القديمة منذ قرون وقرون ثبتتها على أساس أنها قضية مطلقة، ولا تقبل النقاش ولا تقبل الاستثناء. الآن الناس يراجعون النصوص، ويراجعون الوقائع، ويراجعون فقه السلف، ليجدوا أن الطاعة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم "إنما الطاعة في المعروف"، فكل ما خرج عن المعروف فلا طاعة فيه، فإذن الطاعة ينبغي أن تكون في المعروف، ونحن الآن في هذه الظروف نتذكر الحديث الصحيح حينما أمر النبي صلى الله عليه وسلم صحابيا من الأنصار على كتيبة، وأرسلوا في مهمة استكشافية وأمرهم أن يطيعوه، فعَنْ عَلِيٍّ قَالَ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَرِيَّةً وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهِمْ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَسْمَعُوا لَهُ وَيُطِيعُوا فَأَغْضَبُوهُ فِي شَيْءٍ فَقَالَ اجْمَعُوا لِي حَطَبًا فَجَمَعُوا لَهُ ثُمَّ قَالَ أَوْقِدُوا نَارًا فَأَوْقَدُوا ثُمَّ قَالَ أَلَمْ يَأْمُرْكُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تَسْمَعُوا لِي وَتُطِيعُوا قَالُوا بَلَى قَالَ فَادْخُلُوهَا قَالَ فَنَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ فَقَالُوا إِنَّمَا فَرَرْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ النَّارِ فَكَانُوا كَذَلِكَ وَسَكَنَ غَضَبُهُ وَطُفِئَتِ النَّارُ فَلَمَّا رَجَعُوا ذَكَرُوا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَوْ دَخَلُوهَا مَا خَرَجُوا مِنْهَا إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ" رواه مسلم.
 
فالطاعة لها حدود ولها عقلانية ولها معقولية. والإسلام جاء يؤسس لدولة في مكان لا يعرف معنى للدولة، فكان لا بد أن يعلم الناس طاعة الحاكم التي هي طاعة الدولة ونظمها وتعليماتها وتوجيهاتها وحدودها، وحتى في طرقها اليوم، لا بد أن الدولة في طرقها.. تمشي هنا ولا تمشي هنا.. وتقف هنا ولا تقف هنا.. فهذه هي طاعة الأمير أو طاعة الإمام، هي طاعة نظام أو طاعة بناء وطاعة تنمية وطاعة أمن.. أما ما سوى ذلك وعندما يصل الأمر إلى الطغيان فقد سقط الحاكم، كما قال الله تعالى لموسى وهارون (اذهبا إلى فرعون إنه طغى) فإذا طغى الحاكم فقد سقط.. بل كما ورد في ثنايا كلام سابق.. سواء طغى أم لم يطغ، إذا قامت ضده الأمة سقط.. لنفرض أنه لم يطغ وأن الناس ملوه، لشيخوخته أو لطول بقائه أو يريدون أفضل منه، أو لأي سبب... إذا قامت الأمة تقول لا نريدك سقط.. أما إذا طغى فقد سقط.. أما إذا قتل فقد سقط، وصار مجرما، مكانه في السجن لا في كرسي الرئاسة..
 
إذن فقضية الطاعة الآن فيها مراجعات.. وأنا أقول شيئا مع أن الوقت لا يتسع لتفصيله، نحن نرجع إلى القرآن والسنة وفقه السلف.. طلب الخليفة عمر بن الخطاب من الصحابة أن يقوموه إذا رأوا منه اعوجاجا، فقال له أحدهم "لو رأينا فيك اعوجاجا لقومناه بسيوفنا".. المفروض اليوم أن يعتقل هذا الرجل.. فهذا تهديد بالقتل، وهذا إرهاب، وهذا تطاول على رئيس الدولة وعلى الخليفة وعلى الإمام.. نحن نريد مثل هذا.. نريد من يقول مثل هذا ويذهب إلى بيته آمنا، وربما مشكورا مأجورا.. إذن فقه السلف أكثر تحررا، وأكثر إنصافا، وأكثر تمثيلا للشرع الحق من فقه الخلف.. في العصور التالية للسلف نرى الأمور صارت إلى الأسوأ وإلى الجمود، وتكريس نظرية الاستبداد.. فهذا نموذج للقضايا التي تراجع وتلح على الفقه الإسلامي والفكر الإسلامي.
 
لا تعول على أمة ليس لها حرية
 
-هناك شبهات تثار ضد الثورات، كقولهم: ها هي الثورات قد تحققت والأنظمة سقطت، لكن ما ذا حققت لنا هذه الثورات بعد ذلك.. أين هو الأمن؟ أين هو الشغل؟ أين وأين.. حتى أن البعض صاروا يحنون للأنظمة السابقة؟ ما تعليقكم على هذه الأقاويل؟
 
الريسوني: إثارة مثل هذا الأمر قد يكون مرده للاستعجال والغفلة وعدم فهم طبيعة الأمور.. وقد يردد هذا بعض المغرضين- ليسوا ممن يحنون للعهد السابق بل هم جزء من العهد السابق- كما يتردد هذا في بعض الأنظمة المستقرة ولكنها تخشى من العدوى، ومن مصلحتها أن تشوه هذه التجارب، وأن تفشل، وأن تصور بأنها لم تأت إلا بالفوضى ولم تأت إلا بهبوط حاد في البورصات، ونقص في الدخل القومي، وانهيار في القطاع السياحي، وما إلى ذلك من الأقوال..هذه الثورات أولا.. أولا.. حررت الإنسان إلى حد كبير، وما يزال الإنسان في حاجة إلى مزيد من التحرير، في البلدان الثلاث -تونس ومصر وليبيا- تحرر الإنسان بنسبة كبيرة. فالناس الآن يتكلمون ويبادرون ويتظاهرون وينتقدون ويؤسسون.. هذا التحول قيمته -تاريخيا وحضاريا واجتماعيا وعمرانيا وحقوقيا- شيء كبير جدا... لا تعول على أمة ليس لها حرية.. لا تعول على أمة ليس فيها مبادرة.. لا تعول على أمة ليس لها كرامة.. تعيش في ذل وخنوع.. لا تعول على أمة ليس فيها شجاعة ولا إقدام..
 
الآن تكسرت عقدة كبيرة وسرطان كبير وهو الخوف.. نحن نقرأ في سورة طه وقصة موسى عليه السلام وفرعون أن فرعون صنع الخوف وحكم بالخوف، وجاء موسى وهارون برعاية الله يحطمان عقدة الخوف.. لما قال الله تعالى لموسى وأخيه هارون (اذهبا إلى فرعون إنه طغى، فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى، قالا ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو يطغى..) فهذان نبيان أرسلهما الله وبرعاية الله قالا إننا نخاف.. (قال لا تخافا).. الآن الشعوب تقول لنفسها ويقول لها قرآن ربها "لا تخافوا".
ودائما مع موسى (فأوجس في نفسه خيفة موسى قلنا لا تخف) فهذا موسى القوي لكنه كان يعيش في بلد عقدته الكبرى وسلاح فرعون الأكبر هو الخوف، وهذا في مصر نعم.. سلاح فرعون لم يكن هو جيوشا ودبابات.. سلاحه الفعال كان هو الخوف، زرع في الناس الخوف ونجح في أن يستتب الخوف في النفوس. فجاء موسى برعاية الله ودعمه وتوجيهه المباشر .."لا تخافا".. "لا تخف".. تقدم.. حتى كسر موسى في نفسه أولا وفي نفس المصريين عقدة الخوف. الآن هذه الثورات حطمت عقدة الخوف التي هي أكبر سلاح عند الظلمة وعند المستبدين وعند الفاسدين..
إذا تحطم الخوف تحرر الناس واستعادوا قراراتهم.. حينئذ لن يلوموا أحدا.. لن يلوموا رئيسا هم انتخبوه.. لن يلوموا رئيسا هم أبقوه.. وجددوا له.. فعملية التأسيس تنطلق الآن..
 
وبطبيعة الحال الآن باستثناء استفتاء جزئي في مصر لم يقع شيء من هذا.. هذه الأمور تحتاج عادة إلى ترتيبات حتى في الظروف العادية.. تحضير الانتخابات وما إلى ذلك يحتاج إلى وقت.. فإذن الأمور سترتب من جديد.. المهم أن تحافظ هذه الشعوب على تكسير حاجز الخوف، وألا تعود إليها عقدة الخوف.. أن تحافظ على حريتها وكرامتها ومبادرتها.. وحينئذ تصنع بنفسها ما تشاء..
طبعا الاضطراب الأمني أو الاقتصادي في مثل هذه الظروف لسنة أو سنتين، هذا شيء طبيعي جدا جدا.. ونحن نعرف ثورات حصدت الملايين من الأرواح، ولم تقم من الآثار التدميرية للثورة إلا بعد عقود وبعد سنين.. أقول لم تقم من الثورة، وليس من العهد السابق.. الآن هذه الثورات من لطف الله فيها أن فيها خسائر قليلة جدا. حتى ليبيا.. فوجئ العالم وأنا فوجئت بدخول الثوار إلى طرابلس.. الآن تطول عملية تحرير سرت -معقل العقيد الهارب معمر القذافي-أو لا تطول هذا لا يهم. البلد الآن بيد أصحابه الجدد وبيد الشعب.. الخسائر كانت نسبيا قليلة في ليبيا وتكاد تكون منعدمة في مصر. أن يموت بضع مئات في مصر هؤلاء يموتون في الطرقات، ويموتون بعمليات القتل يوميا.
 
 
انتهى
أجرى الحوار الحسن سرات

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين