حوار مع فضيلة الشيخ فضل حسن عباس

هذا نص حوار نشرته مجلة الفرقان مع مع الأستاذ الدكتور فضل حسن عباس أستاذ التفسير وعلوم القرآن في جامعة اليرموك:

 
الأستاذ الدكتور فضل عباس أحد العلماء المعدودين في علوم التفسير وعلوم اللغة، عرفه الناس من خلال كتبه ودروسه ومحاضراته في حلقات العلم وفي المساجد وفي المنتديات العلمية، وعرفه طلاب العلم في رحاب المعاهد العلمية والجامعات، وقبل ذلك برز الدكتور فضل عباس كأحد أهم علماء التفسير والتلاوة – وكان ذلك قبل ثلاثين عاماً – حين سجلت له الإذاعة الأردنية (400) حلقة إذاعية في تلاوة القرآن الكريم وتفسيره، كانت باكورة مسيرته العلمية التي أثمرت فيما بعد نتاجاً كبيراً وهاماً من المؤلفات والنظرات الجديدة في تفسير القرآن الكريم.
لكن أستاذنا لا يحبّ الحديث عن نفسه، وعندما علم أن أحد الأساتذة الذين أفادوا من علمه الكثير أصدر كتاباً أهداه إليه وأشاد بمناقبه لم يرق له ذلك، ولو كان يعلم لما قبل.
ويعد ضيفنا الكريم موسوعة علمية جادة في زمان فُقد فيه العلماء الموسوعيون، فقلما تجد عالماً في أيامنا يتقن تخصصاً ويبرع فيه بجانب تخصصه الأصلي، لكن أستاذنا الدكتور فضل تراه في علوم القرآن وفي علوم البلاغة واللغة وفي الدراسات الفقهية والتصوف يضرب بأسهم وافرة في العلم والفهم، هذا إلى جانب جهاده الدعوي ومواقفه الشجاعة.
حُرم أستاذنا نعمة البصر، فعوضه الله تبارك وتعالى عنها نفاذ البصيرة، وعمق الفكرة، وحضور الذهن.
وحتى نعرّف قراءنا الكرام بعلم من الأعلام - بشيء من التفصيل - نترك لفضيلته عرض بطاقته الشخصية والعلمية في هذا الحوار الذي أجريته معه في منزله في عمان.
 
* الفرقان: نرحب بكم ضيفاً على مجلة الفرقان.
- د. فضل: ومرحباً بكم. وأرجو للجمعية ولمجلة الفرقان التوفيق ودوام العطاء الطيب، والله لا يضيع أجر من أحسن عملاً.
 
* الفرقان: فضيلتكم غني عن التعريف، لكن قراء الفرقان بحاجة ماسة لزيادة معرفة بكم فماذا تقولون؟
- د. فضل: هويتي هوية مسلم عاش أحداثاً كثيرة عقوداً من الزمن في أكثر من قرن. اسمي فضل حسن أحمد عباس ولدت في رمضان من عام 1350هـ في شهر كانون الثاني من سنة 1932م. وكان والداي رحمهما الله حريصين كل الحرص على أن أحفظ كتاب الله تبارك وتعالى وأدرس العلم، ذلكم لأن هذا العلم يكاد يكون شيئاً معروفاً عندنا في الأسرة، فخالي رحمه الله الشيخ يوسف عبدالرزاق المشهدي كان أستاذاً في جامعة الأزهر، وبهذه المناسبة طبعنا له حديثاً كتاب " معالم دار الهجرة". ومن فضل الله حفظت كتاب الله تبارك وتعالى وأنا دون العاشرة، ثم بعد ذلك بدأت حفظ المتون العلمية الكثيرة فحفظت (متن الغاية والتقريب) في الفقه الشافعي ومتن الرحابية في الفرائض، ومتن الجوهرة في التوحيد، وبعض متون المنطق وغيره من متون علوم الحديث، ثم بدأت بحفظ ألفية ابن مالك. وهذا كله كان في أثناء وجودي في بلدتنا صفّوريا التي لا تبعد عن الناصرة كثيراً في فلسطين، وذهبت في هذه الأثناء فدرست في عكا في جامع الجزار في المدرسة الأحمدية نسبة لأحمد باشا الجزار - رحمه الله - وهي مدرسة علمية، وحينما أنهيت الدراسة في هذه المدرسة ذهبت لمصر قبل النكبة بالقطار من حيفا، ونحن هناك حدث ما حدث من نكبة سنة 1948. وبدأت أدرس في مصر علوم القرآن - أعني القراءات والتجويد - وكانت أول شهادة حصلت عليها من كلية اللغة العربية في تجويد القرآن سنة 1948، ثم بدأت أدرس على شيخي محمد سليمان – جزاه الله خيراً ورحمه الله – وكان عالماً كبيراً فذّاً من علماء القراءات، وكان دقيقاً جداًّ، وله عليّ فضل كبير بعد رب العالمين، ثم دخلت كلية أصول الدين وتخرجت فيها سنة 1952م، وفي هذه الأثناء بقينا مدة حتى تعرفنا أين صار أهلنا - بسبب النكبة - فقد كانوا في لبنان، فاضطررت للسفر عندهم، وبعد أن حصلت على الشهادة العالية سنة 1952م، دخلت في تخصص التدريس في كلية اللغة العربية، وفي هذه الأثناء توفي والدي – رحمه الله – وكان رأي خالي أن أذهب إلى لبنان لأن والدتي هناك وإخواني وأخواتي كانوا صغاراً، وهناك بدأنا نكافح كفاحاً اجتماعياً وسياسياً وفكرياً مدة من الزمن، ولم أتمكن في ذلك الوقت من إكمال دراستي لأكثر من سبب، وبقيت حتى سنة 1965 حيث ذهبت في نفس السنة إلى مصر مرة أخرى لإكمال دراستي، وكنت في عمان هنا وقد رغبت مديرية الأوقاف أن أعمل معها – قبل أن تكون هناك وزارة للأوقاف - وكان رئيس مجلس الأوقاف الأعلى الشيخ عبدالله غوشة - رحمه الله - وكان مدير الأوقاف عبدالوهاب الموصللي (أبوخلدون) رحمه الله تعالى، وطلبا مني العمل مع المديرية حتى عينت في 25/12/1965، وفي سنة 1967 حصلت على الماجستير من كلية أصول الدين، وفي سنة 1972 حصلت على الدكتوراه، وعملت في المعهد الشرعي سنة أو سنتين، ثم ذهبت إلى دولة الإمارات وبقيت هناك سنتين إلى أن عينت في الجامعة الأردنية في الفصل الأول 77/78، وبقيت في الجامعة إلى أن خرجت منها بسبب عامل السن، والآن أدرّس في برنامج الدكتوراه في جامعة اليرموك.
 
* الفرقان: عُرفتم فضيلتكم بأنكم موسوعة علم ومعرفة، فقد برزتم في مجالات التفسير وعلوم القرآن واللغة، وضربتم بأسهم وافرة في صنوف العلم. وهذا الأمر يدعونا إلى التساؤل: لماذا اختفت ظاهرة الموسوعية في العلوم المختلفة هذه الأيام؟ لماذا المتخصص في الفقه – مثلاً - لا يستطيع أن يدرس في التفسير أيضاً ويبرع فيه كما الفقه، وهكذا؟
- د. فضل: أنا لا أعدّ نفسي في مصافّ أولئك العلماء – رحمهم الله تعالى – لكنني اقتفيت من آثارهم، وحاولت السير على منهاجهم. ومن فضل الله عليّ أنني حينما دخلت الكلية أو درست في الأزهر أكرمني الله بأساتذة موسوعيين، ولعل هذا الجيل – جيلنا نحن – كان آخر تلك الأجيال من حيث العلماء الموسوعيون الذين درّسوهم. أذكر أن أساتذتنا – رحمهم الله – كانوا جهابذة، ولذلك كنت تجد الواحد منهم حينما يتحدث أو حينما يكتب أو إذا بحثت عن نتاجه وجدت أنه دائرة معارف، فمثلاً خالي – رحمه الله – الشيخ يوسف عبدالرزاق حينما تبحث عن نتاجه ستجد أنه كتب في النحو كتاب (لباب الشذور) حيث اختصر كتاب (شذور الذهب) لابن هشام مع شروحه، وكان هذا سنة (36) وكان في أول مراحل التدريس، وتجد له في أصول الفقه كتباً ومقالات مشهورة، ففي الفقه الشافعي تجد له (موارد الظمآن في فقه السنة والقرآن)، وتجد له تعليقاً على شرح ابن قاسم في الفقه الشافعي (شرح ابن شجاع)، وفي علم التوحيد تجد له (إشارات المرام شرح عبارات الإمام) أي الإمام أبي حنيفة، وتجد له في التاريخ مثل (معالم دار الهجرة)، وأساتذتنا الذين درّسونا كنت تجد الواحد منهم متخصصاً في الفلسفة لكنه يكتب في الفقه والقانون والمعاملات مثل الدكتور محمد يوسف موسى، الذي كان أستاذاً عظيماً وعُرف أن تخصصه كان فلسفة الأخلاق، وله كتب كثيرة، وكان يعتزّ بكتابه (فلاسفة الأخلاق في الإسلام) عن الإمام الغزالي وابن عربي وابن مسكوية، ويطلب منّا أن نعتز به، وله كتب في الأخلاق والفلسفة، وطبع كثيراً من كتب التوحيد مثل كتاب (الإرشاد)، لإمام الحرمين، وفي الخمسينات طلبت منه جامعة القاهرة أن يدرّس في كلية الحقوق بعد أن كان يدّرس في كلية أصول الدين، وذهب إليها، وإذ به صار إنساناً آخر كأنه لم يتخصص في الفلسفة من قبل، وكان نتاجه كله نتاجاً فقهياً في فقه المعاملات، فكتب (مدخل لدراسة الفقه الإسلامي) وكتب (مقارنة بين المعاملات في الفقه الإسلامي وبين المعاملات في القوانين الأخرى) وله كتب في العلوم القانونية. ومثال آخر: الدكتور محمد عبدالله درّاز – رحمه الله – صاحب كتاب (النبأ العظيم) المشهور، وصاحب كتاب (المختار في كنوز السنة)، وصاحب رسالتي (دستور الأخلاق في الإسلام) و (مدخل لدراسة القرآن) حيث كتبهما بالفرنسية وهما كتابان جديدان مهمان. أساتذتنا كثيرون .. وكان منهم أيضاً من مشايخنا الشيخ الأودن في الحديث؛ هذا الرجل الصالح العظيم الطيب .. هؤلاء كانوا موسوعيين. أما حين نقرأ تاريخنا نحن ماذا سنجد؟ سنجد أن هؤلاء كانوا على سنة من قبلهم، خذ من تشاء مثلاً: ابن حجر، الإسنوي، البيضاوي، السبكي، القارات .. على اختلاف مذاهبهم ستجد أن كل واحد منهم له كتب في عدة علوم وفي معارف كثيرة – هكذا كانوا –، فأنا من فضل الله هيأ الله لي وشاء أن أتلقى العلم على هؤلاء، ولذلك لم يكن عندنا تخصصات في كلية أصول الدين بل كان الطالب يدرس في الكلية ثلاثة تخصصات : تخصص التفسير والحديث، تخصص التوحيد والفلسفة، تخصص التاريخ الإسلامي، لكن ليس معنى هذا أننا في دراستنا في الكلية كنا نتخصص في فرع من هذه . لا، كنا ندرس هذه الفروع جميعها دراسة قديمة، أي ندرس كبار الكتب مثل : في التفسير ندرس (تفسير أبي السعود وتفسير البيضاوي) وفي الحديث ندرس (صحيح البخاري وصحيح مسلم)، وفي التوحيد ندرس كتب (المواقف) و (المقاصد) و (عقائد النسفية) و (العقائد العضدية)، وفي التاريخ.. ، وهكذا .. من هنا كان لهذه الدراسة أثر كبير في تكويننا العلمي، ولذلك حينما تخرجنا كان بإمكاننا أن نكمل دراستنا في أي علم وأي فن. لقد كان لهؤلاء جميعاً فضل عليّ بعد الله تعالى واستطعت أن أكتب في موضوعات كثيرة، فمثلاً لي في الفقه سلسلة (ليتفقهوا في الدين) أكثر من جزء، سلسلة: إعجاز القرآن، قصص القرآن، رد على دائرة المعارف البريطانية، ولي أيضاً سلسلة (بلاغتنا ولغتنا)، وسلسلة أخرى وعظية (خماسيات مختارة، نفحات من الإسراء والمعراج).
 
* الفرقان: جاء في كتاب دراسات عربية وإسلامية للدكتور جمال أبوحسان أن لكم نظرات جديدة في التفسير، هل لكم أن تذكروا لقراّء الفرقان أهم هذه النظرات؟
- د. فضل: قضية النظرات جاءت نتيجة الدراسة الدائبة، فالإنسان حين يتلو القرآن الكريم كثيراً ويعيش مع كتب التفسير واللغة، لا شك ستفتح له آفاق، أنا من الناس الذين يجلّون السلف رحمهم الله، وليس من طبعي أو هوايتي أن أخالف السلف سواء كانوا مفسرين أم محدّثين أم فقهاء، لكن ليس معنى هذا أن تلمذتنا لهم أن نوافقهم في كل صغيرة وكبيرة، وأظن هذا يرضيهم، فقد يرى الإنسان رأياً لم يرتأوه من قبل، لكن ليس هذا الأمر عاماً في جميع القضايا، هو ممكنٌ في تفسير آية أو في فهم حديث، والدكتور جمال كان يسألني عن بعض هذه القضايا، هناك تفسير آية (وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه) بالنسبة للقبلة الأولى (بيت المقدس)، وهناك تفسير قوله تعالى (وبنات عمك وبنات عماتك وبنات خالك وبنات خالاتك) لماذا أفرد العم والخال وجمعت العمة والخالة ؟! وكذلك حديث الرسول صلى الله عليه وسلم لما وجهنا لقراءة سورة البقرة: اقرءوا سورة البقرة وآل عمران، إن أخذها بركة وإن تركها حسرة ولا تستطيعها البطلة. أنا لي رأي في هذا الحديث، فهذا الطلب من الرسول ليس لأن سورة البقرة من قرأها له أجر أكثر ممن يقرأ غيرها، لأن القرآن الكريم كله في الأجر سواء، في كل حرف عشر حسنات، لا أقول ألم حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف، أقول: إن قراءة بعض السور التي صحت فيها الأحاديث لم تكن من أجل الأجر الأخروي فحسب، وإنما كانت من أجل الحياة الدنيوية لأن هذه السورة التي أمرنا بقراءتها فضلاً عمّا لها من أجر في الآخرة فإن لها فائدة في الدنيا لأنها تكوّن المنهجية للمسلم، فلماذا إذن أمرنا الرسول بقراءة سورة البقرة؟ لأنها أطول سورة في القرآن، وأكثر سورة حدثتنا عن اليهود ومكرهم وحيلهم ووسائلهم في الحياة، فنستطيع من خلال سورة البقرة أن نردّ على مكرهم وخداعهم.
ومن هنا سورة الكهف – مثلاً - لأنها تشكل منهجية كاملة في حياة المسلمين، وأرى فيها رأياً خاصاً. وفي القصص القرآني – مثلاً - كتبت كثيراً من هذا، وبخاصة في كتابي الجديد: (قصص القرآن الكريم صدق حدث وسمو هدف) ومن جملة ذلك قضايا تعارف عليها الناس، مثل (الشيخ الكبير الذي هو موسى) حيث يظن الناس أنه شعيب، فأنا أقول إنه ليس شعيباً قطعاً.
وأنا بالمناسبة في سنة 1971 كنت سجلت للإذاعة الأردنية وكانت لأول مرة (القرآن الكريم) كله تلاوة وتفسيراً ما يقرب من (400) حلقة بمعدل (100) ساعة كاملة، وأذيع مرات كثيرة، ولا يزال يذاع في الإذاعات الموجهة للخارج وليس في الداخل، فهذا الأمر أفادني كثيراً في بعض النظرات في تفسير كتاب الله تبارك وتعالى.
 
* الفرقان: القرآن الكريم سبيل النجاة لهذه الأمة، كيف يمكن إصلاح أحوال المسلمين المتردية وفق المصدر الأول للتشريع: القرآن الكريم؟
- قضية القرآن قضية حساسة، ليس لهذه الدنيا راحة إلا حينما تلجأ إلى ظله وتتأدب بمأدبته، هذا بالنسبة للدنيا كلها، أما المسلمون فلن يتفيئوا ظلال الخير ولن يذوقوا طعم الهناء، ولن يشعروا بحلاوة العز إلا إذا عادوا إلى هذا القرآن كما كانوا من قبل. كان التعليم قبل القرن الماضي تعليماً يشتمل القرآن وغيره، فكنت تجد أن كثيرين من الناس حتى من غير المسلمين من ذوي الأريحية وذوي الوطنية حينما يتكلمون أو يكتبون تجد لهم أسلوباً رفيعاً، وما ذلك – حينما تسأل - إلا لأنهم كانوا يحفظون القرآن من صغرهم. مكرم عبيد – مثلاً – المحامي المصري المشهور من الأقباط، سل عنه كيف كان حينما كان يخطب أو يتكلم، وفارس الخوري الذي كان مندوب سوريا في هيئة الأمم المتحدة في سنة 1948، سل عنه، هؤلاء كانوا يحفظون ويحضرون دروس العلماء المسلمين، ثم بعد ذلك خلف خلف أضاعوا هذا كله. عندنا الآن جمعيات كثيرة للمحافظة على القرآن الكريم في تعليم الصغار، نحن كان عندنا كتاتيب فقبل أن يذهب الطالب إلى المدرسة الرسمية يدرس في الكتاتيب ويتعلم فيها أصول القراءة والكتابة ويتعلم القرآن، لقد كانت خيراً ثم ذهبت. لا بد الآن حينما نود أن نعلم الناشئة القرآن الكريم أن نعلمهم: ما هذا القرآن؟ مع ما نعطيهم من أحكام التجويد لا بد أن نبين لهم عظمة هذا القرآن وأنه السر الذي لا بد أن ندركه ونفهمه حتى نستطيع أن نسترجع حياتنا الفاضلة الكريمة، ولا بد أن يتواصى علماء المسلمين في العالم بذلك، وفي ظني أنه يجب أن ندع الإسلام الرسمي الآن، وأنه لا بد للقائمين على هذه الجمعيات في بلاد إسلامية كثيرة أن يتداعوا للقاء سنوي أو أكثر أو أقل، وأن يتدارسوا فيما بينهم كيف يمكن أن نتقدم بطلبة العلم مرحلة أخرى تتجاوز تعليمهم الأحكام والقراءة والنطق بالحروف، أي علينا أن نتدارس كيف يمكن أن يكون هذا القرآن حياتهم الوجدانية والعاطفية والفكرية، هذا ما نريده حقيقة، حتى لا يصدق علينا ما جاء في بعض الآثار: أنتم الآن تقيمون حدود القرآن وسيأتي بعدكم قوم يقيمون حروفه ويهملون حدوده – نحن نرجو أن لا نكون من هؤلاء – ومن هنا أقول: هذا واجب على علماء المسلمين وهؤلاء المسؤولين، صحيح أنه ستكون عوائق، لكن ينبغي أن نتغلب على هذه العوائق بقدر ما نستطيع، وأظننا إن أردنا ذلك وصدقنا الله في هذا فسيهيئ الله لنا اليسر حتى نؤدي رسالة القرآن الكريم. نحن لا نستطيع – في واقع الأمر – أن نحلّ مشكلاتنا الكثيرة من سياسية وعسكرية وغيرها وخاصة الآن حينما كشّر لنا الأعداء عن أنيابهم إلا حينما نهرع إلى هذا القرآن ونحتمي به ليحمينا ونهتدي به ليهدينا ونعتز به ليعزّنا الله تبارك وتعالى.
 
* الفرقان: سيصدر لكم - بإذن الله – كتاب بعنوان " إعجاز القرآن المجيد عرض ونقد وتجديد " ماذا يميزه عن كتب الإعجاز الأخرى؟ وماذا يضيفه إلى المكتبة الإسلامية ؟
- د. فضل: حينما أكتب أبحث في السوق وفي المكتبات، فإن وجدت ما يغني عن كتابي، أو ما هو خير منه لا أكتب، أنا لا أكتب إلا إذا وجدت أن هناك ضرورة للكتابة. كتبت كتاب " إعجاز القرآن الكريم " وكان مدرسيّاً للطلاب، ولكن وجدت أن هناك حاجة ماسة لموسوعة إعجازية، ولذلك كانت فكرة كتاب (إعجاز القرآن المجيد) تنبع من هذا. الأستاذ مصطفى صادق الرافعي – رحمه الله – كان أول من كتب كتاباً في الإعجاز في العصر الحديث (إعجاز القرآن والبلاغة النبوية)، وكان هذا الكتاب توسيعاً للجزء الثاني من كتابه (تاريخ آداب العربية) في ثلاثة مجلدات، وكان من خير ما كتب في هذا الموضوع، والأستاذ الرافعي كان صاحب أسلوب عالٍ رفيع، وكان وعد أن يكتب كتاب (سر الإعجاز) وهذا أشار إليه في كتابه (إعجاز القرآن والبلاغة النبوية)، وتوفي – رحمه الله تعالى – في آخر الثلاثينات وكنا نتمنى أن يكتب هذا الكتاب، وقد مضى على وفاته ما يزيد على 60 سنة ولم يكتب الكتاب، وأظن لو أن الكتاب كان موجوداً لظهر يقيناً، وكان الأستاذ محمد سعيد العريان – رحمه الله – الذي كتب عن حياة الرافعي ذكر أنه لم يوجد هذا الكتاب. وأستاذنا الدكتور محمد عبدالله دراز – رحمه الله تعالى – صاحب كتاب (النبأ العظيم)؛ هذا الكتاب في ظني كان من خير ما كتب في الإعجاز، ولكن لله حكمة، وحينما تكلم عن الإعجاز فيه، قال إنه سيأخذ الإعجاز من جوانب ثلاثة: أولاً: القرآن معجزة لغوية، ثانياً: الإعجاز العلمي، ثالثاً: الإعجاز التهذيبي الإصلاحي الاجتماعي، ولما بدأ يكتب عن الجانب الأول: القرآن معجزة لغوية، قال إنه سيأخذ الموضوعات التالية: أولاً: القرآن في قطعة قطعة أي فقرة فقرة، ثانياً: القرآن في سورة سورة، ثالثاً: القرآن بين السورة والسورة، رابعاً: القرآن وحدة تامة، فكتب من هذه الموضوعات الأربعة موضوعين اثنين فقط: القرآن في فقرة فقرة، والقرآن في سورة سورة، وحدثنا عن بعض فقرات القرآن اختارها لنا واختار لنا سورة البقرة، درسها دراسة جيدة، لكن الموضوعين الأخريين لم يكملهما، ثم البابين الثاني والثالث أيضاً – بالطبع - لم يكتب عنهما شيئاً، هذا كله – في حقيقة الأمر - جعلني أفكر في كتاب موسوعي إعجازي. الرافعي رحمه الله ذكر لنا أنموذجاً إعجازياًّ من كتاب (سر الإعجاز) الذي لم يظهر في كتابه: إعجاز القرآن والبلاغة النبوية، وكان الإعجاز يتعلق بآية في سورة الكهف (سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم ويقولون خمسة سادسهم كلبهم رجماً بالغيب ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم) لماذا جاءت (الواو) في سبعة وثامنهم، ولم تأت في ثلاثة وخمسة، فقال (رابعهم، سادسهم) ولم يقل (ورابعهم، وسادسهم)، فقال هذا مما سنكتبه في (سر الإعجاز). وأنا لما قرأت كثيراً من كتب الإعجاز وجدت أنها كان ينقصها أمران اثنان : الأمر الأول - وهو في الكتب القديمة - كان ينقصها يسر الأسلوب لأنها كتبت لأناس غيرنا كانوا قبلنا يفهمون هذا الأسلوب الصعب، والأمر الثاني: كان ينقصها الدراسة العملية للآيات، لا أقول كانت دراسة إنشائية ولكن أقول دراسة وصفية، وكتاب الأستاذ الرافعي (إعجاز القرآن والبلاغة النبوية) كان كذلك، لذلك هو وعد بكتاب (سر الإعجاز) ليكون دراسة عملية، وأنا في هذا الكتاب (إعجاز القرآن المجيد) حاولت أن أتلافى هذه جميعها، وأن يكون هذا الكتاب أمام الدارسين سواء كانوا من المتخصصين أم المثقفين، ولذلك أسميته (إعجاز القرآن المجيد، عرض ونقد وتجديد) ففيه موضوعات ثلاثة:
العرض: وأعني به ما كتب بجهود العلماء قديماً وحديثاً في الإعجاز في فصلين أو بابين: الباب الأول لجهود العلماء قديماً، حيث أعطي فكرة عن كتابتهم بحيث يستغني بها القارئ عن الرجوع إلى هذه الكتب، والباب الثاني في الدراسات الحديثة. هذا هو القسم الأول وهو العرض. أما النقد، فهو تقويم لهذه الكتب قديمها وحديثها ومالها وما عليها، وسبب هذا أنني وجدت أن كثيرين ممن كتبوا عن هذه الكتب ظلموا أصحابها، فكان لابد من أن نرجع الحق إلى نصابه. وهناك دراسات نوافق أصحابها في بعض ما ذهبوا إليه، ومن هنا كان القسم الثاني هو النقد، وهو دراسة موضوعية لهذه الجهود بأمانة. والقسم الثالث – وهو الأهم - التجديد، وهذا التجديد ناشئ عن دراسة عملية لكثير من آيات القرآن، بمعنى أنني لم أعتمد الدراسة الوصفية مثل كثير من الكتب السابقة، كقولك: إن القرآن معجز لأن فيه عاطفة وفيه لغة ... إلخ، بل حاولت أن يكون جلّ هذه الدراسة دراسة ميدانية ليشعر القارئ – فعلاً – أن هذا هو الإعجاز، وقد تحدثت فيه عن الإعجاز البياني وهذا هو الأصل، وقد كتبت جلّه في البيان القرآني، وجلّ هذه الدراسة الميدانية مما لم أسبق إليه، وما سبقت إليه أشير إليه، فمثلاً، جاء في القرآن الكريم في الأنفال (سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب) بينما جاء في سورة الحشر عن بني النضير (وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم)، فالقرآن لما قال (سألقي) كان الحديث عن بدر، وقريش وأهل مكة حينما جاءوا لبدر كانوا في العراء في الصحراء، ومن هنا هم ليسوا بحاجة إلى شيء كثير من القوة، ولذلك قال (سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب) إلقاءٌ فقط، بينما بنو النضير كانوا متحصّنين، بل إن المسلمين كانوا يظنون بأن حصونهم ستكفيهم، وهم كانوا متأكدين بأن حصونهم ستمنعهم من المسلمين، ولذلك نقرأ هذا في قول الله تعالى عن المسلمين (ما ظننتم أن يخرجوا) أما بنو النضير فكانوا متيقنين من عدم خروجهم وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله، فالقرآن الكريم لم يعبّر هنا بالإلقاء وإنما بالقذف، والقذف هو الضربة القوية بشيء قوي. فحينما تُطلع القارئ على هذه الأسرار في الكلمات القرآنية، في التعبير القرآني، في الجملة القرآنية، لا شك أنك تعطيه زاداً إيمانياً عظيماً في هذا. والقرآن الكريم لما تكلّم عن اليهود قال: (وألقينا بينهم العداوة والبغضاء ) ولما تكلم عن النصارى قال: (فأغرينا)، ولا شك أن الإغراء أشدّ من الإلقاء، وإذا أردت أن تعرف الفرق بين الإغراء والإلقاء ارجع إلى (الغِرَة) التي يستعملها الناس، إنه أمر صعب، وأنت عندما تسأل التاريخ، سله ما كان بين الأمم النصرانية وحتى الآن، بينما بالنسبة لليهود قال (ألقينا). وفي كتابي هذا سيكون الباب الأول منه في الإعجاز البياني، والثاني في الإعجاز العلمي وما يتصل به، والثالث في الإعجاز التهذيبي أو التشريعي كما يسمى وسيكون في العقيدة، وفي الفقه (العبادات والمعاملات والتشريع)، وفي الأخلاقيات والتهذيب والاجتماع.
 
* الفرقان: ونحن نتحدث في الإعجاز، ما حقيقة الخلاف حول مفهوم الإعجاز العلمي وغيره من أوجه الإعجاز، حيث لا يقبل البعض إلا بمفهوم الإعجاز البياني دون غيره من مسميات؟.
- د. فضل: تكلمت عن هذا في كتابي عن الإعجاز، وذكرت الخلاف في هذا الأمر، وحجة من لا يرى إلا وجهاً واحداً - هو الإعجاز البياني - أن القرآن الكريم لما تحدى العرب تحداهم وهم لم يحسنوا إلا البيان، والذين ذهبوا مذهباً آخر قالوا إن الإعجاز ليس بالضرورة ما تحدّى به العرب لأن هناك أموراً حدثت فيما بعد، ولأن القرآن لم يأت للعرب وحدهم وإنما للناس جميعاً على مدى الدهور، فلماذا لا نتوسع في دائرة الإعجاز. بعض العلماء يحتجون بأننا لا يجوز أن نفهم من القرآن إلا ما كان يفهمه الصحابة وأن هذا هو رأي الشاطبي ومن أخذ بهذا الرأي من بعده .. هذا تحكّم، وأنا رددت على هذا الكلام في كتابي الأول حول الإعجاز، فالقرآن يخاطب الناس جميعاً، ولقد وجدت أن هذه المرحلة تختلف عن المراحل السابقة من حيث المخاطبون، ومن حيث الأسلوب، ومن حيث التنزيل أيضاً، فأخذت من ذلك أن هذه المرحلة التحدي فيها عام وليس بيانياًّ فحسب، لكن أقول على الرغم من أننا نؤمن أن للقرآن وجوهاً للإعجاز لكن أصلها الإعجاز البياني، ثم إن هذا الإعجاز البياني عام في آي القرآن جميعه، بينما أنواع الإعجاز القرآني الأخرى: التشريعي، والعلمي ليست عامة ولم ترد في كل الآيات، هذه ناحية، ثم إن الأصل – كما بدا لي – في الإعجاز العلمي والتشريعي أنه إعجاز بياني، فمثلاً: لماذا قال القرآن في سورة التكوير (إذا الشمس كورت. وإذا النجوم انكدرت) وفي سورة الانفطار قال (إذا السماء انفطرت. وإذا الكواكب انتثرت)، فحينما تحدث عن النجوم قال (انكدرت) وحينما تحدث عن الكواكب قال (انتثرت). نحن حينما ننظر إلى هذه الناحية ننظر لها من زاويتين: البيانية أولاً ثم العلمية ثانياً، نحن نعرف أن الانكدار للأجسام المضيئة، فانكدر بمعنى أن الضوء خَفَتْ، بينما الانتثار للأجسام الصلبة التي لا إضاءة فيها، مثلما يُكسر كأس الزجاج فنقول: انتثرت أجزاؤه على الأرض. من هنا ندرك السر العلمي في القرآن بأن عبّر عن النجوم بالانكدار وعن الكواكب بالانتثار، لأن النجوم أجسام مضيئة والكواكب مرتبطة بالأرض. وعليه أقول : إننا يجب أن لا نهمل هذه الأنواع من الإعجاز لكن أهمها وأعمّها الإعجاز البياني.
 
* الفرقان: تفسير القرآن الكريم ظهر بعدة أوجه: تفسير مفردات أو كلمات، تفسير معاني، تفسير علمي، تفسير بياني، أدبي، لغوي، وغير ذلك. أي أنواع التفاسير أنجع في إيصال رسالة القرآن – في نظركم - ؟
- د. فضل: أنا أفضل الذي يتفق مع ثقافة القارئ وشخصيته وميوله. ومن هنا حينما يسألني بعض الناس: أي التفاسير ترشحها لي؟ أقول: لا أجيبك حتى أعرف من أنت، ولذلك كل التفاسير فيها خير، والمفسرون – جزاهم الله خيراً – ما قصّروا، وهذا من فضل الله أنه أراد أن تكتمل جهات الفهم لهذا الكتاب فكان هؤلاء المفسرون، وأقول إن التفسير الأكثر إفادة الذي يستطيع قارئه أن يفيد منه. فمثلاً الطالب المتخصص يمكن أن أختار له بعض التفاسير التي فيها مصطلحات علمية حتى يستطيع أن يفهم لغة هذا المفسر وعباراته وكيف يربط هذه العبارات ببعض، وكيف يستخرج منها ما يجب أن يفهمه في تفسير الآية، لكن لإنسان آخر متخصص في دراسة الحاسوب أو الهندسة أو الطب – مثلاً – فهذا لا أختار له هذا التفسير يقيناً بل أختار له تفسيراً آخر، لكن إذا استطعنا أن نقرب أوجه التفاسير للدارس وللمثقف يكون في ذلك الخير.
 
* الفرقان: هنالك تفاسير كثيرة منها ما هو قديم ومنها ما هو جديد، كالكشاف للزمخشري وجامع البيان للطبري، وكالظلال لسيد قطب، والتفسير البياني لبنت الشاطئ، وغيرها كثير، ما رأيكم فيها، وما أفضلها؟
- التفاسير القديمة ثلاثة: تفسير الزمخشري وتفسير الطبري وتفسير الرازي، ويقولون إن كل ما عدا هذه التفاسير إنما هو منها وإليها. هذه العبارة قد يكون فيها نوع من المبالغة، لكن هي في مجملها قد تكون صحيحة إلى حدّ ما. فابن جرير الطبري كان شيخ المفسرين وهو أصل لكل من جاء بعده، لكن مشكلة تفسيره كثرة الأسانيد وهذه قد يجد فيها بعض الدارسين هذه الأيام ما يزيد على أوقاتهم، مع أن ابن جرير في مقدمته كان يريد أن يجعل تفسيره من ثلاثين ألف ورقة، لكن لما رأى ضعف الهمم جعله في ثلاثة آلاف. تفسيره جيد، وهناك روايات في تفسيره تحتاج إلى عرض وتدقيق.
أما الكشاف للزمخشري فهو درّة يتيمة، لم يوضع مثله، لكن يؤخذ عليه اعتزالياته، لأن الزمخشري كان معتزلاً، وهو من حيث البيان لا يجارى ولا يُشقّ له غبار. لا يوجد تفسير بعد الزمخشري إلا وللزمخشري فضل عليه، حتى الذين حملوا عليه مثلما في البحر المحيط لابن حيّان، كلهم أخذوا عنه.
أما تفسير الرازي فهو بحر لا ساحل له، وقد توسع كثيراً في القضايا الكونية والفرق الكلامية من معتزلة وأشاعرة وحنابلة. قالوا: فيه كل شيء إلا التفسير، وهي عبارة ظالمة، وأنا أقول : فيه كل شيء وفيه التفسير.
والجامع للقرطبي مختص بالأحكام، والبحر المحيط لابن حيان من خير ما كتب مع أن اختصاصه بالنحو، وتفسير البيضاوي مأخوذ من الكشاف، وكل هؤلاء تلاميذ للزمخشري، هذه هي التفاسير القديمة. وفي العصر الحديث هناك تفسير المنار، الذي تمثله مدرسة المنار وهي المدرسة العقلية الاجتماعية. بدأه محمد عبده في تفسير جزء عم ثم الأجزاء التي درّسها في الأزهر، واختصرها صاحب المنار رشيد رضا بما يعرف بتفسير المنار، وكان ممن يمثل مدرسة المنار العلماء: عبدالقادر المغربي ومحمود شلتوت وعبدالجليل عيسى، وتفسير المراغي. والمنار من خير التفاسير التي كتبت، ولا يوجد تفسير قد سلم من الخطأ لكن القضية نسبية.
وهناك المدرسة العلمية ويمثلها تفسير الجواهري (طنطاوي جوهري) وهو من (20) جزءاً، تطرق فيه إلى قضايا علمية وكونية، كما تطرق إلى واقع المسلمين وهمومهم، فهو شخصية موسوعية وكان من رفقاء الإمام الشهيد حسن البنا.
وهناك المدرسة التربوية الوجدانية ويمثلها كتاب (في ظلال القرآن) لسيد قطب - رحمه الله -، وهو نفثات مؤمنة كانت تعيش مختزنة في صدر صاحبها فأخرجها للناس بهذا الاسم (الظلال). مشكلته أنه سيّد كتبه ولم يكن في جميع أحواله مستقر النفس في السجن، ففيه تكرار كثير أحياناً، وفيه تطويل كثير أحياناً، وفيه اختصار كثير أيضاً، وبعض القضايا كانت بحاجة إلى اختصار أطال فيها، وبعض القضايا كانت بحاجة إلى تطويل اختصر فيها، ولو أنه قدّر لأحد أن يخرجه بقالب آخر مع المحافظة على نفثات صاحبه لكان فيه خير كثير، وأما الأساس في التفسير لسعيد حوى فهو في كثير منه مأخوذ من الظلال ومن غيره كما جاء في مقدمته.
وهناك مدرسة الجمهور، التي نجد فيها تفسير ابن عاشور (التحرير والتنوير) وتفسير (الوسيط) لمحمد سيد طنطاوي شيخ الأزهر الحالي، والذي أصله كان للكومي ولم يكمله فأكمله طنطاوي.
وهناك تفاسير في بعض سور القرآن كالتفسير البياني لبنت الشاطئ، التي سارت فيه على منهج زوجها أمين الخولي، واعتبرت أن القرآن قبل أن يكون كتاب هداية فهو كتاب العربية الأكبر، وأنا لا أوافقها وزوجها على ذلك. وقد كتبت مقالاً تحدثت فيه عن مؤاخذات عليها فهي تريد أن تقلل من شأن الأئمة السابقين، وتريد أن تنسب لهم أشياء غير صحيحة، وكان ينبغي عليها أن لا تحمل على هؤلاء الجهابذة.
 
* الفرقان: في كتابك " القصص القرآني إيحاؤه ونفحاته " تطرقت بشكل موسع لموضوع تكرار القصة القرآنية . لماذا ؟
- د. فضل: كأنما قضية التكرار شغلتني عن كل شئ، وكتبت في هذا الكتاب في حدود (400) صفحة، فأخذت قضية التكرار حق غيرها، كتبت عن التكرار في القرآن كله: في القصص، وفي آيات العقيدة في بعض الجمل، بل إنني حين ذكرت قصة يوسف لم أكتبها إلا في عشر صفحات فهي لم تذكر في القرآن إلا مرة واحدة. أنا أقول: لا تكرار في القرآن، وسيد قطب له في هذا حديث ومحمد أخوه أخذ عنه شيئاً من هذا. التكرار غير وارد، وحين تقرأ قصة موسى وتدرسها حسب ترتيب السور وليس حسب ترتيب المصحف ستقتنع أنه لا تكرار، وأنا في هذا الكتاب أفنّد ادعاءات من يقول بالتكرار.
 
* الفرقان: بماذا تنصح دارسي علوم القرآن الكريم في الكليات الجامعية والمعاهد القرآنية كلٌّ في مجال تخصصاتهم الشرعية؟
- د. فضل : أنصح المدرسين قبل الطلاب أن لا يكونوا ضمن أقفاص صفيّة وأن يخرجوا طلابهم إلى حيث ضوء الشمس وحيث البراح وحيث الخصب والربيع والمناظر الجميلة التي تأخذ بالألباب في دراسة القرآن الكريم. ومن هنا لا ينبغي أن نحصر أنفسنا في كل ما قيل، فكثير مما قيل بحاجة لإعادة نظر، وليس معنى هذا أن نثور على القديم، وهناك قضايا لا بد من تجديدها، ففي علوم القرآن عدة معارف، فهناك (البرهان) للزركشي و (الإتقان) للسيوطي، لكن الموسوعات التي تتكلم عن القرآن لا يتكلم فيها أحد، لا بد أن تدرّس كما تدرّس هذه الكتب وأمثالها.
 
* الفرقان: لا شك أنه رافق مسيرتكم القرآنية مواقف مؤثرة كان لها صدى طيب في شخص فضيلتكم، هل من أمثلة تذكرونها لنا ؟
- د. فضل: أنا – من فضل الله عليّ – حينما أقرأ القرآن أقرؤه بكل ما منحني الله تبارك وتعالى من خلايا، وأنا أقرأ القرآن كثيراً والحمد لله، فلو سألتني كم مرة ختمت القرآن؟ أقول: آلاف المرات، ولقد وقفت – حين كنت صغيراً – أمام الكلمات أول موقف في قوله تعالى (سلام قولاً من ربّ رحيم) في سورة يس، فكنت أسال نفسي: لماذا (من رب رحيم) ولم يقل (كريم)؟! وحاولت أن أجيب عن هذا التساؤل فعرفت أنّ في هذا الموقف تكون رحمة الله هي الأساس، ومن هنا بدأت أتأثر بالقرآن وأحفظه وأقف عند بعض القضايا فيه، وأنا أقول إن الذي يتعامل مع القرآن سوف يجد أموراً كثيرة في حياته: سيملك عزة النفس وسيراها، وفرق بين عزة النفس وبين الكِبر، كما سيجد أن الله منحه ومنّ عليه بما لم يمنّ به على أحد (من أعطاه الله القرآن فوجد أن غيره أعطى خيراً منه فقد استصغر عظمة الله) والله تعالى يقول: (ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين). كما سيجد نفسه يعيش في ربيع الآخرة (من أعطاه الله القرآن فقد استدرج النبوة بين جنبيه) ، ولن يبالي بالدنيا. وعمر رضي الله عنه يقول (ارفعوا رؤوسكم ولا تلهوا مع اللاهين). وفي القرآن حلاوة لو عرفها الملوك لحاربوا عليها.
* الفرقان: لا يسعنا في ختام هذا الحوار إلا أن نتوجه بالشكر الجزيل لكم على هذه الكلمات الطيبة والمعلومات القيمة، ونسأله تعالى أن يثيبكم وأن يمدّ في عمركم

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين