مكانة الأمة الإسلامية في القرآن الكريم

للأمة الإسلامية مكانة خاصة في كتاب الله الكريم، فقد اختارها الله عز وجل لرسالته الخاتمة، واختار منها خاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم، وفي هذا يقول الحق تبارك وتعالى : (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ? .. الآية) سورة آل عمران 110 .

ونلمح في هذه الآية الكريمة أن الله عز وجل قد ربط خيرية الأمة بقيامها بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإيمان بالله؛ فهذه الخيرية لم تكتسبها الأمة لأسباب قومية أو عنصرية؛ أو تاريخية أو حضارية؛ وإنما اكتسبت الأمة هذه الخيرية بإيمانها بالله والتزامها بأوامره تبارك وتعالى .

ومن هنا ندرك أن تفضيل الله عز وجل لهذه الأمة مرهون باستقامتها على منهجه الذي أسس عقيدتها، وربى أخلاقها وقيمها، ورسم لها الطريق في الحياة، ويستوقفنا في هذا السياق قوله تعالى : (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) سورة البقرة 143، فقد قال تعالى : (جَعَلْنَاكُمْ) ولم يقل : خلقناكم . أي صيرناكم، فالله سبحانه هو الذي صيرالأمة كذلك باصطفائها واختيارها للرسالة الخاتمة؛ وتوفيقه إياها لالتزامها بشريعته، ولم يصيرها كذلك لأسباب خَلقية تتفرد بها عن بقية البشر، كما تزعم أصحاب الدعوات القومية والعنصرية !

ويؤكد القرآن الكريم هذا المعنى ثانية في قوله تعالى : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) سورة آل عمران 110، الذي يشير إلى إخراج الله للأمة بالإسلام، لا بسبب آخر عنصري أو قومي أو تاريخي ... 

فالتزام الأمة بالإسلام هو الذي منحها "الخيرية" التي ليست مجرد لقب أطلق على هذه الأمة من غير مضمون، وإنما هو عنوان لحقيقة تجسدت في هذه الأمة بفضل هذا الدين الذي شكل عقلها وعقيدتها، ووجه قلوبها وأقوالها وأعمالها، وجعل منها الأنموذج الأفضل الذي يريده الله تبارك وتعالى، ومن ثم فإن هذه الخيرية مرهونة باستمرار الأمة على المنهج الذي حدده لها ربها سبحانه، فلما تخلت الأمة عن هذا الدور في عصورها المتأخرة فقدت هذه الخيرية، وتخلفت عن بقية الأمم، لكن يظل الطريق أمامها مفتوحاً لاستعادة تلك الخيرية، وذلك بعودتها إلى هدي ربها والتمسك بكتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم؛ وهذا ما عبر عنه الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال : (نحن أمة أعزنا الله بالإسلام، فإن ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله) ابن كثير : البداية والنهاية ج4 ص 55 .

وغني عن البيان أن الله عز وجل قد بين خيرية هذه الأمة لا لكي تتفاخر بهذه الخيرية على بقية الخلق، فهذه الخيرية مسؤولية قبل أن تكون تشريفاً، كما أن علم الأمة بهذه الخيرية يمنحها الثقة بنفسها في مواجهة التحديات، وفي هذا يقول تعالى: (وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) سورة آل عمران 139 . أما التفاخر الفارغ فهو مرذول في منظور الله عز وجل، لأن التفاخر مرض وبيل، وهومرض من الأمراض التي ابتليت به البشرية، وتكفي نظرة إلى التاريخ البشري تظهر أن هذا التاريخ كان دوماً مجال تفاخر يثير الصراع بين الأمم، فالتاريخ يخبرنا أن كل أمة - مهما كانت منزلتها متدنية – تدعي أنها الأفضل وأنها الأحسن مما أثار الحروب الطاحنة بين الأمم ! 

ومن المعلوم تاريخياً أن اليهود والنصارى قد ادعوا أنهم الأفضل والأكمل بين البشر، وأن غيرهم من الأمم لا شيء : (وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ) سورة البقرة 113، بل بالغ بعضهم في دعوى الأفضلية، حتى ادعوا أنهم أبناء الله وأحباؤه : (وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ .. الآية ) سورة المائدة 18، فرد الله دعواهم قائلاً سبحانه : ( قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ ) سورة المائدة 18، لكن ظلوا في غيهم يعمهون، بل تمادوا في المبالغة فادعوا أن الجنة حكرٌ عليهم دون بقية الخلق : (وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ) سورة البقرة 111 .

فقد ادعى كل فريق دعوى الخيرية مطالباً غيره باتباع منهجه؛ بحجة أنه الأفضل والأحسن، وأن الجنة وقف عليه وحده؛ وأنه الذي ينبغي للبشرية أن تتابعه : (وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا) سورة البقرة 135، فقد طالبوا غيرهم بأن يصبحوا يهوداً أو نصارى، وكذلك هي حال الأمم التي تتكبر على الخلق بحجة أنها الأفضل، فتردد الدعوى نفسها، فهذا مثلاً الطاغية الألماني أدولف هتلر (1889 – 1945) رفع شعار "ألمانيا فوق الجميع"، واليوم يظن أهل "الغرب" أنهم الأحسن والأفضل مستندين في هذه الدعوى إلى ما يملكون من قوة وجبروت؛ لا بما لديهم من منهج قويم !!؟

وكذلك فعل اليهود ومازالوا محتجين على الإسلام استناداً إلى بعض آيات القرآن الكريم؛ منها قوله تعالى : "يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ" سورة البقرة 47 ، فليس في هذه الآية الكريمة تفضيل مطلق لليهود كما يزعمون؛ وإنما هو تذكير لهم بفترة مباركة كانوا فيها أفضل العالمين عندما كانوا ملتزمين بمنهج الله ! فهم لم يكتسبوا تلك الأفضلية لأسباب عنصرية كما صاروا يدعون، وإنما كان ذلك التفضيل مشروط باستقامتهم على الشريعة التي أنزلها الله تبارك وتعالى عليهم ، وفي هذا تذكير لأمتنا بالعودة إلى التزام منهج الله إن كانت راغبة فعلاً باستعادة تلك الأفضلية التي أشار لها سبحانه في آيات كثيرة، وإلا فلا أفضلية ولا خيرية !

وإن لنا درساً فيما أصاب اليهود والنصارى حين تخلوا عن منهج الله سبحانه، وغيروا وبدلوا فلعنهم الله، وغضب عليهم، وصاروا في ميزان الله من الخاسرين، ولم تعد لهم تلك الخيرية التي كانت لهم عندما كانوا مستقيمين على منهج الله عز وجل، وقد كشف الله عز وجل أمرهم في سورة البقرة وفند دعاويهم الزائفة، وبين كيف سرت فيهم العلل والأدواء التي شوهت العقيدة الصافية والشريعة المنزلة، واختلت عندهم القيم والتصورات الإيمانية واختل سلوكهم وأقوالهم وأعمالهم، واتهموا الخالق العظيم، وشوهوا سير الأنبياء، وحرفوا الكتب السماوية، وكتموا العلم، وسفكهوا الدماء ورفضوا أحكام الله، واتبعوا الشهوات والأهواء !

وشاء الله عز وجل – من بعدهم - أن ينزل رسالته الخاتمة على أمتنا لتكون هي الأمة الفاضلة، كما وصفها الله تبارك وتعالى بقوله : "كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ للناس .. الآية " سورة آل عمران 110، وأراد لها سبحانه أن تكون شاهدة على الناس فقال تعالى : "وَكَذَ?لِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً" سورة البقرة 143. ولهذا يأتي بعد ذلك قوله تبارك وتعالى : "سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا" سورة البقرة 142 . 

ورب قائل يقول : لكن ما نراه اليوم من تقدم اليهود والنصارى وتفوقهم على العالم مقابل تخلف الأمة المسلمة وضعفها .. كل هذا يكذب دعوى خيرية الأمة المسلمة، وفقد أؤلئك للخيرية !!؟

والجواب : أن حال اليهود والنصارى اليوم فضلهم دنيوي عارض، ليس له في ميزان الله اعتبار؛ لأنه قائم على متاع الحياة الدنيا، قال تعالى: "وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ" سورة آل عمران 185 . وقال سبحانه: "يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا" سورة الروم 7 . فقد وصف القرآن الكريم الحضارات التي ارتفعت في العلوم المادية وانحدرت في عقيدتها وأخلاقها وقيمها بالضلال والزيغ؛ لأن المجتمع الذي يوصف بالرقي في ميزان الله هو المجتمع الذي يقيم حياته وفق منهج الله عز وجل، وإن كان غير متقدم في مجال العمران والزراعة والصناعة.

أما أهل الجاهلية فإنهم يعدون المجتمع راقياً إذا كان يملك العلوم المادية، وعندهم أن المجتمع المتأخر هو المجتمع الفقير الذي لا يملك أسباب الرقي المادي وتنتشر فيه الأمية، ونحن نعلم أن المجتمع الإسلامي الأول كان مجتمعاً أمياً فقيراً، لا علوم فيه ولا تقدم صناعي، ومع هذا استطاع ذلك المجتمع قليل العدة وقليل العلم الدنيوي، قد فتح العالم القديم في سنوات قليلة ونشر العلم والهداية في العالمين، وأصبح اؤلئك المسلمون الأوائل سادة الدنيا !

وهكذا ، نجد أن نظرة الإسلام إلى المجتمع الراقي تختلف عن نظرة الجاهلية، فالإسلام يسم أكثر التجمعات الإنسانية تقدماً بالتأخر والرجعية والضلال إذا لم تحقق العبودية لله عز وجل، ولم تقم حياتها وفق تشريعاته ومنهجه، ولنتذكر أن هذا الرقي المادي والعلم المادي لم يخلِّص "فرعون" و "النمرود" و "عاداً" و "ثمود" وغيرهم من الأمم من مقت الله وغضبه !

وليس معنى هذا أن الإسلام يحارب الرقي المادي، فالإسلام يأمرنا أن نسعى في الأرض لنسخر ما فيها من خيرات لصالح البلاد والعباد، فقد أمر الله عز وجل كافة رسله بالعمل فقال تعالى : "يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا ? إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ" سورة المؤمنون 51 . وغني عن البيان أن هذا الأمر ليس موجهاً إلى الرسل وحدهم وإنما هو أمر عام للمؤمنين كافة، كما بين النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو هريرة رضي الله عنه، فقال : قال رسول الله: "أيها الناس إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم .. الآية" .

والإسلام يريد أن نبني الرقي على أصول قويمة، وأن نقوِّم علوم الحياة ونضبطها بضوابط إلهية تحميها من الانحراف والضلال؛ ولا يريدنا أن نقيم الصروح والأبنية لأهداف تافهة كما فعل "الفراعنة" مثلاً فبنوا تلك الأهرامات العظيمة لدفن موتاهم، أو كما فعل الإمبراطور المغولي شاه جهان (1630 – 1648م) الذي بنى القصر العظيم ( تاج محل ) ليدفن فيه زوجته ، ولا هذه الناطحات التي بدأنا نراها هذه الأيام هنا وهناك للتفاخر بها ! فأية حضارة هذه !؟ وأي رقي هذا ؟!!

فليس صحيحاً ما تدعيه بعض الأمم أنها الأفضل والأحسن؛ لأنها توصلت إلى علوم هائلة بنت بها الرقي المادي، فلو كان هذا صحيحاً لكان اللص صاحب القصر الكبير أفضل من الشريف صاحب الكوخ الصغير، ولكان العالِم الذي يخطط لتدمير البشرية أفضل من الإنسان العادي الذي يسعى في صلاح البلاد والعباد !!؟ ويخبرنا التاريخ أن الأمم التي أقامت حضاراتها على أسس مادية ظالمة، قد انتهت إلى الدمار، وقد ذكر القرآن الكريم العديد من تلك الأمم وذكر نهاياتها الكارثية، فقال تعالى : "فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ" سورة الحج 45 ، وقال تعالى : "وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ" سورة الحج 48 ، وقال سبحانه : "وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ * فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ * لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ * قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ * فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ" سورة الأنبياء11 – 15 . 

وهكذا يقرر الخالق عز وجل في محكم تنزيله أن الأمم الأفضل ليست هي التي تملك المقدرات المادية العظيمة ؛ وإنما هي - في ميزان الله – الأمم التي تتمسك بمنهج الله وتتبع شريعته، وتحقق في حياتها الهدف الذي خلقت من أجله؛ وهو العبودية له سبحانه كما قال تعالى : "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ" سورة الذاريات 56 ، علماً بأن العبودية - في منظور الإسلام – ليست القيام بالعبادات وحدها، ولا الاكتفاء بالشعائر والطقوس، بل القيام بكل عمل صالح يستهدف إصلاح البلاد والعباد، فهذه هي العبادة الحق التي إذا اتبعناها وابتغينا بها وجه الله تعالى؛ تحقق لنا ما تحقق على أيدي المسلمين الكبار - الذين رباهم الرسول صلى الله عليه وسلم – فحقق الله لهم العزة والتمكين في الأرض، وظلوا سادة الدنيا لقرون طويلة !!

فهل نعيد سيرة ذلك السلف الصالح في حياتنا، فنتخذ شريعته منهجاً نستمد منه عقيدتنا وأخلاقنا وتشريعاتنا؟!

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين