التربية الإسلامية وتحديات القرن الحادي والعشرين -10-

 

الإنسان المنشود:

وغاية العملية التربوية في كل زمان وفي كل مكان أن نربي شخصية إنسانية تتمثل كل أو معظم ما تأمله الأمة لغدها. والتربية الإسلامية هي أولى بذلك، فهذا الإنسان هو الذي كرمه الله على سائر خلقه، وهو الذي خلقه في أحسن تقويم وأجمل صورة، وأودعه من المقومات ما يعينه على أن يتسود كل ما سخره له المولى عز وجل مما خلقه في هذا الكون. وجماع مقومات الإنسان المنشودة هي التي تمكنه من أن يواجه الغد بفاعلية واقتدار، ويحسن التعامل مع متغيرات المستقبل.

ويمكن أن نوجز مقترحاً لهذه المقومات في الخطوط العريضة التالية:

- فنقطة البداية لابد أن تكون الإيمان بالله وبرسله وكتبه واليوم الآخر، صحيح أن موضوع التربية الإسلامية هو الإنسان المسلم، ولا يكون الإنسان مسلما إلا بهذا الإيمان، فلماذا النص عليه هنا؟ ننصُّ عليه ونبرزه ونقدمه لأن التربية الإسلامية هنا تسعى إلى إقامة هذا الإيمان على علم وعلى وعي. إيمان لا يقف عند حد التلفظ به وإنما يتعدى ذلك إلى القدرة على الدفاع عن عقيدته وسوق الأدلة والبراهين التي يقيم عليها الإيمان بالعقيدة، إيمان يمثل طاقة نور تبث إشعاعها في التفكير وفي السلوك، ولا تكون حبيسة العقل والفكر.

- و(التقوى) هي القيمة المركزية في سلوك الإنسان المسلم... إنه في كل ما يسلك يتقي الله، ويضع نصب عينيه أنه يرى الله، فإن لم يكن يراه فالله يراه، وهكذا يكون سبحانه هو الموجه وهو المرشد وهو الرقيب وهو الحسيب.

لقد قلنا (التقوى) ولم نقل (فضيلة) أو (خلق)؛ لأن الفضيلة أو الخلق تلعب النسبية فيها دوراً كبيراً؛ إذ المعاني هنا قد تتبدل وتتغير بتغير الزمان والمكان لكن تقوى الله ترتبط بالخالق الذي لا يتبدل ولا يتغير؛ ترتبط (برب العالمين) الذي يريد الخير للجميع ، ولا يميز بين إنسان وآخر إلا (بالتقوى).

إنها أشد لزوماً للإنسان وهو يستقبل الجديد من الزمان والذي يحمل طوفاناً من التغيرات التي من شأنها أن تزعزع وتهز أركان البنية القيمية، فتظل التقوى هي قارب النجاة، والبوصلة على الطريق.

- والتربية الإسلامية إذا كانت تركز على التوجيه السلوكي فهي بحكم طبيعتها تسعى إلى أن تزود إنسانها بزاد معرفيّ في العلوم الدينية يشكل البنية التحتية لسلوكه، فهو عندما يحرص على استقامة السلوك لابد أن يكون على علم بميادين هذا السلوك المستقيم وفقاً للعقيدة الإسلامية، وهو إذ يستقبل كل يوم جديداً من المعارف والعلوم والاختراعات المتعددة يكون بحاجة إلى (ميزان) يزن به ما يستقبله، فهذا – مثلاً – من شأنه أن يوسع دائرة المنفعة لعموم المسلمين فيرحب به، وهذا قد يفعل العكس فيقصيه جانباً، وربما عمل على محاربته، ولن يكون الميزان ذا وظيفه فعالة إلا بثقافة دينية ترتكز على الأصول والقواعد الأساسية والمفاهيم والأركان الرئيسية.

وطالب التربية الإسلامية يعي جيدا أن هذا المجال (تربية) (إسلامية)، فإذا كان ملزما بالتثقف الديني الإسلامي، فهو كذلك ملزم بما يقدم له في الاتصال الدائم بمصادر المعرفة التربوية والنفسية لا يبالي من أي وعاء خرجت، فمن المفروض أنه على قدر من (الإيمان) و(التقوى) و(العلم الديني) الذي يجعله يميز بين النافع وغير النافع، مستجيباً بذلك إلى دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يرزقنا الله علما نافعا، والله لا يرزق عباده وهم متكئون على الأرائك، وإنما يبذل بالجهد وبالكد والعمل الشاق.

التربية الإسلامية ليست مجرد تخصص ضيق، رغم ما تلزم به طالبها من التثقيف الديني والتربوي والنفسي، فالعملية التربوية ليست مثل كثير من العمليات التي يمكن أن تنحصر في دائرة ضيقة إنها تتناول (إنساناً) هو (كل) و(مركب) مما لا حصر له من الاتجاهات والميول والقدرات، وهي لابد واضعة نصب عينيها مقومات المجتمع الذى تربى فيه، ومتغيرات العصر وجملة القوى والعوامل الفاعلة، وكل هذا يوجب أن يكون إنسان التربية الإسلامية (مثقفا) بالمعنى الذى يجعله قادراً على الوعي بالمشكلات الكبرى التي تواجه أمته، وأبرز معالم التغير المعاصر الذى يعيشه.

وإذا كان واجباً على طالب التربية الإسلامية أن يعب بقدر ما يستطيع ويغترف بكل ما يملك من طاقة، من منابع المعرفة الدينية والتربوية والنفسية والعامة، لكى يتكون ذلك التكوين الذى يتيح له أن يحظى برضى الله، ويحسن التعامل مع متغيرات العصر، إلا أن هناك واجباً أساسياً (يتربى) عليه، هو أن يتعدى بما يعلم حدود شخصيته ليكون (عطاء) للآخرين، (داعية) و(مبشراً) . وهو في ذلك لا ينتظر حتى يجيئه آخرون ممن لا يعلمون، يسألونه، بل يبادر هو ليستثمر كل موقف ليثبت من خلاله ما يمكن أن يعرفه للآخرين، وهولا يبث معرفة فقط، وإنما يبث سلوكاً، وهذا لا يتأتى إلا بمدى التزامه هو جانب التقوى، فبمثل هذا الالتزام يقتدي به آخرون.

وطالب التربية لن يكون قادراً حقاً على مواجهة المستقبل إلا إذا توافرت لديه مهارات ثلاثة أساسية:

أولها: أن يكون صاحب رؤية نقدية، لا يقف موقف المستسلم لما يقرأ أو يشاهد أو يسمع، إنما يعرضه على محكات نقدية متعددة أولاً ليقرر بعد ذلك إذا كان قابلاً أم لا ، لما يرى أو يقرأ أو يسمع.

ثانيها: القدرة على (الجدال بالتي هي أحسن) أو المحاورة الهادئة المتزنة التي تقوم على المنطق وأصوله، والعلم الديني والعلم الحديث والعبارات المهذبة والكلمات المحددة.

ثالثها: أن يكون مبدعاً بقدر ما يستطيع، لا يركن إلى (التقليد) ومجرد (الحفظ) و(الاستظهار)، وإنما يسأل نفسه دائماً: ما الذي يمكن أن أضيفه من جديد؟

وأخيراً فكثيرون يظنون أن التربية الإسلامية بحكم نزعتها فهي (روحية)، ونحن نؤكد هنا أن المربي المسلم بحاجة إلى بنيان جسدي قوي وصحة سليمة حتى يستطيع أن يقوم بواجبات يفرضها عليه الدين كالجهاد والعمل، وفرائض الدين نفسها مثل: الصيام والحج يصعب القيام بها إن لم يكن الجسم صحيحاً معافىً وقوياً....

وبعد.......

إن هذه الأفكار لم تجئ من خلال (بحث) يغوص بنا في بطون المصادر والمراجع، وإنما آثرنا أن نسوقها (اجتهاداً) وإعمالاً للفكر ، لنقدم بها رؤيتنا نحن ، لا رؤية هذا أو ذاك من المؤلفين، سائلين المولى عز وجل أن نكون قد التزمنا صواب النهج واستقامة الطريق وبلوغ المرام.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. 

المصدر: مجلة المسلم المعاصر: ربيع الآخر - جمادى الأولى - جمادى الآخرة 1418 - العدد 85

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين