القرآن والعلوم الكونية

المعارضون لتفسير الآيات الكونية في القرآن: 

يشفق بعض العلماء – ومنهم من يتظاهر بالإشفاق – من المحاولات التي بذلت ولا تزال تبذل لتفسير بعض آيات القرآن الكريم بما انتهى أو وصل إليه العلم الحديث من قضايا في مختلف فروعه وأنواعه، وبعضهم يشتد في معارضة هذا الاتجاه، ويشتط في الحكم عليه، إذ يرى فيه انحرافاً عن منهج السلف، واجتراء على حرمة القرآن، ومخاطرة غير مأمونة العواقب، تعرِّض كتاب الله تعالى لزلزلة يهتز بها الإيمان به، والإقبال عليه.

ومن أبرز حججهم في ذلك: أن قضايا العلم قد يعرض لها ما يثبت بطلانها وفسادها، فإذا فسرنا القرآن بها جرى عليه ما يجري عليها من بطلان وفساد، وإذا وقع فيها ارتياب واضطراب اهتزت الثقة به والحرص عليه، ثم إن القرآن كتاب هداية وإرشاد كما يقول الله تعالى فيه:[ذَلِكَ الكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ] {البقرة:2}، فكيف نحمله ما لا يتعرض له من القضايا والنتائج العلمية التي وصل إليها الإنسان بعقله وعلمه واجتهاده، ثم ننسب إليه ما لم يقله أو يتحمله؟

هذه – فيما يبدو لي – هي وجهة النظر عند المعارضين لتفسير الآيات الكونية في القرآن بما يصل إليه العلم الحديث من نتائج.

وجهة نظر المؤيدين لتفسير الآيات الكونية في القرآن: 

أما الذين يتجهون هذا الاتجاه أو يؤيدونه ويتحمسون له فيرون أن القرآن هو حجة الله تعالى على الناس إلى أن تقوم الساعة، وتبدّل الأرض غير الأرض والسموات، ولا تقوم هذه الحجة إلا بثبوت إعجازه، وأنه صالح مصلح للناس في كل زمان ومكان، ولا يمكن إقناع غير العرب بإعجازه البلاغي لأنهم لا يعرفون اللغة العربية ولا يذوقون تبعاً لذلك جمال أسلوبه وجلال معانيه، وقد تحدى الله تعالى به الناس جميعاً على اختلاف ألسنتهم وألوانهم، وتحدَّى به مع الناس الجن حيث قال جل شأنه:[قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا القُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا] {الإسراء:88}.

ولا تظهر قيمة هذا التحدي إذا قصد به من لا يعرفون اللغة العربية أو قصد به الإعجاز، فإن من لا يعرفون لغة وجه واحد أو عدة وجوه من وجوه العرب يعجزون – بالطبع – عن معارضة أي فرد عربي عادي إذا تحداهم أن يأتوا بمثل ما يقوله لهم أو يكتبه إليهم، والعناية بجانب فيه دون جانب تفريط في حقه وحق الدين فيه، وقد اشتمل القرآن على آيات كونية كثيرة تبلغ نحو سُبعه – بضم السين – وتمثل جانباً كبيراً فيه.

فكيف لا نفسرها بما وصل إليه العلم الحديث من حقائق تزيدها إشراقاً وائتلافاً في أعين المتأملين فيها والناظرين إليها وقد قال تعالى: [سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ] {فصِّلت:53}.

لا يمكن أن تتعارض حقيقة علمية مع قضية قرآنية 

والواقع الذي يلتقي الفريقان على الإيمان به والاتفاق عليه: أن القرآن حق. فإنه كما يقول الله تعالى فيه:[وَبِالحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالحَقِّ نَزَلَ] {الإسراء:105}.وكما يقول سبحانه:[إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لَا يَأْتِيهِ البَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ] {فصِّلت:41-42}. ومن ثم لا يتصور مؤمن أنه يتعارض مع حقيقة علمية تبوح بها التجارب والبحوث والمكتشفات العصرية، وهذا بعض ما يفهم من قوله تعالى: [قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا] {الفرقان:6}. فكل ما خفي في السموات والأرض من حقائق وقوانين لم يكتشف العلم إلا قليلاً منها يعلمها الله، لأنه هو الذي أوجدها وأقام الوجود عليها: [أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ] {الملك:14}.ولا يتصور مع علمه بها أن يكون كلامه مخالفاً لها؟!!

ومن ثم لا يمكن أن تتعارض حقيقة علمية مع قضية قرآنية، بل إن العلم بحقائق الكون ودقائق الأسرار التي تكمن فيه يزيد المؤمنين إيماناً بالله تعالى وبكتابه، ويثير في نفوسهم الشعور بعظمته وعظمة كتابه، وهذا الشعور يثمر التقوى منه والخشوع له والإذعان لأمره، كما يفهم من قوله تعالى:[أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ * إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ * وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الكِتَابِ هُوَ الحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ] {فاطر:27-31}.

الكون كتاب منظور والقرآن كتاب مقروء: 

فهذه الآيات يفهم منها أن الكون كتاب منظور يطالع الإنسان فيه قدرة الله تعالى وحكمته فيما خلق من سماء وماء وثمر مختلف الألوان وجبال وسهول، وناس ودوابّ وأنعام، وأن العلم بما تقوم عليه هذه الكائنات يثمر التقوى، كما أن القرآن كتاب مقروء يتقرب المؤمن إلى الله تعالى بتلاوته والتأمل فيه، ويجد فيه التوافق والتطابق بينه وبين ما بين يديه من كتب إلهية وسنن كونية، وحقائق علمية.

كما يقول الله تعالى:[وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ العَزِيزِ الحَمِيدِ] {سبأ:6} وكما يفهم من قوله سبحانه:[لَكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا] {النساء:166}.

فتفسير الآيات الكونيَّة القرآنيَّة بالحقائق العلمية التي لم تكشف ولم تعرف إلا حديثاً فوق أنه واجب يمليه الدين وتمليه الأمانة وتمليه المصلحة هو السبيل الأقوم لنجاح الدعوة إلى الإسلام في عصر العلم، وإقناع غير المسلمين بأن هذا الكتاب من عند الله تعالى وأنه وأن الرسول الذي بعث به كما يقول الله فيهما:[وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الكِتَابُ وَلَا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ] {الشُّورى:52}.

النظريات العلمية الظنية: 

بقي بعد هذا أن نتحدث عن النظريات العلمية التي لم تصل إلى درجة الحقائق، ولا تزال موضع فحص وتمحيص عند العلماء، قد تقحم في التفسير اعتماداً على أن القرآن فيما لا يتصل بالعقائد قطعي الثبوت ظني الدلالة، وعلى أن المفسرين بالرأي قالوا كلاماً كثيراً لم يقطعوا بصحته ولم تثبت الأيام صحته، بل إنهم جميعاً كانوا يفوِّضون علم المراد من النصِّ إلى الله جل وعلا، ويختمون ما يعرضونه من آراء بالعبارة المشهورة وهي: الله أعلم بمراده... فهل تأخذ النظريات العلمية حكم هذه الآراء والمذاهب وتعرض في تفسير الآيات الكونية كما عرضت الآراء والاتجاهات المذهبية؟ 

عندي أن ذلك لا يسوغ إلا بأمرين ضروريين.

الأول: أن تكون هذه النظريات خادمةً للمعنى لا حاكمةً عليه.

الثاني: ألا يعدل باللفظ عن الحقيقة إلى المجاز إلا بقرينة تبرر صرفه عن الظاهر كما هو الأصل المتبع في تفسير القرآن الكريم.

فإذا تعارضت النظرية مع صريح معنى آية فيه، حكمنا ببطلانها ونحن واثقون بأن المستقبل سيكشف للعلماء عن فسادها، ويكون ذلك معجزة علمية للقرآن إن لم نعرفها فسيعرفها غيرنا من بعدنا، وسيجدون كما نجد جدة القرآن دائمة لازمة كما يقول شوقي رحمه الله تعالى في نهج البردة لرسول الله صلى الله عليه وسلم:

جاء النبيون بالآيات فانصرمت=وجئتنا بحكيم غير منصر

آياته كلما طال المدى جدد=يزينهن جلال العتق والقدم

نعم وسيبقى القرآن كما أنزله الله تعالى محفوظاً في الصدور والسطور، جديداً على الأيام والعصور (لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا تتشعَّب معه الآراء، ولا يشبع منه العلماء، ولا يمله الأتقياء، ولا يخلَق عن كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه).

ورحم الله فضيلة الدكتور محمد عبد الله دراز إذ يقول عنه في كتابه النبأ العظيم: (وتقرأ القطعة من القرآن فتجد في ألفاظها من الشفوف والملاسة والإحكام والخلو عن كل غريب عن الغرض ما يتسابق به مغزاها إلى نفسك دون كد خاطر، ولا استعادة حديث، كأنك لا تسمع كلاماً ولغات، بل ترى صوراً وحقائق ماثلة، وهكذا يخيل إليك أنك قد أحطت به خُبراً، ووقفت على معناها محدوداً – هذا ولو رجعت إليه كرَّة أخرى لرأيتك منه بإزاء معنى جديد غير الذي سبق إلى فهمك أول مرة، وكذلك حتى ترى للجملة الواحدة أو الكلمة الواحدة وجوهاً عدة، كلها صحيح أو محتمل للصحة، كأنما هي فصٌّ من ألماس يعطيك كل ضلع منه شعاعاً فإذا نظرت إلى أضلاعه جملة بهرتك بألوان الطيف كلها، فلا تدري ماذا تأخذ عينك وماذا تدع، ولعلك لو وكلت النظر فيها إلى غيرك رأى منها أكثر مما رأيت، وهكذا تجد كتاباً مفتوحاً مع الزمان يأخذ كلٌّ منه ما يُسِّر له، بل ترى محيطاً مترامي الأطراف لا تحده عقول الأفراد ولا الأجيال.

ألم تر كيف وسع الفرق الإسلامية على اختلاف منازعها في الأصول والفروع، وكيف وسع الآراء العلمية على اختلاف وسائلها في القديم والحديث، وهو على لينه للعقول والأفهام صلب متين، لا يتناقض ولا يتبدل، يحتج به كل فريق لرأيه ويدعيه لنفسه، وهو في سموه فوق الجميع، يطل على معاركهم حوله، وكأن لسان حاله يقول لهؤلاء وهؤلاء:[قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا] {الإسراء:84} ).

ونخلص من هذا بأن نطمئن المشفقين من تفسير آيات الله الكونية في القرآن بما وصل ويصل إليه العلم من قضايا ونظريات، فقد تكفل الله تعالى بحفظه حيث قال:[إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ] {الحجر:9}. ومعنى حفظه يتَّسع لحفظ اللغة التي نزل بها، والعلماء الذين يحفظونه، والقراء الذين يتلونه، والأمم والشعوب التي تؤمن به، وتحرص عليه، وتذعن لحكمه، وصدق الله إذ يقول فيه:[يَا أَهْلَ الكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ] {المائدة:15-16}.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. 

المصدر: مجلة الأزهر السنة السابعة والأربعون، ربيع الآخر 1395 - الجزء 4 .

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين