الكتاب كتابان

قالوا: قد كثر الجمع والتأليف في الحديث النبوي الشريف من القرن الأول إلى يومنا هذا من صحف الصحابة والتابعين، إلى جوامع معمر وسفيان الثوري والأوزاعي وابن عيينة ووكيع، والموطآت، ومسانيد أبي داود الطيالسي ومسدد بن مسرهد وأحمد بن حنبل وبقي بن مخلد وأبي يعلى، ومصنفي عبد الرزاق وابن أبي شيبة، وصحيحي البخاري ومسلم، وكتب السنن، فهل تتجانس هذه الكتب متوافقة مناهجها ومتماثلة أغراضها؟ أم تتباين تباينا؟

قلت: هي أجناس مختلفة، أصنفها لكم صنفين، غيرَ مستغنِين عن تبيُّنهما منعوتين بما يخص كل واحد منهما وما يفصل أحدهما عن الآخر، فقد جر عدم التمييز بين الصنفين إلى غلط وتخليط وقع فيهما الكبار بله من دونهم.

قالوا: ما هما الصنفان؟

قلت: اسمعوا وعوا:

الأول: المدونات أو الدواوين، وهي ما دوِّن فيه العلماء أحاديثهم أو أحاديث شيوخهم، ولا غرض لهم إلا تدوين تلك الأحاديث مجموعة أو منتقاة، غير مرتبة، أو مرتبة ترتيبا غير مقصود، مجردة من الفقه والدراية، وغير معنية بدقائق أصول التحديث والعلل، ولا متعرضة لتراجم متظاهرة بالأدلة والشواهد، اعتمدوها للسماع والقراءة، قد تتخللهما تفسيرات من الشيوخ متضمنة استخراج مسائل أو استنباط معان أو بيان علل، يقربونها إلى الآخذين عنهم محادثة أو إملاء، ولم تدون هذه الكتب إلا لزمن خاص ولأناس معينين، لا ينتفع بها إلا من أخذها من الشيوخ سماعا منهم أو قراءة عليهم.

والثاني: المصنفات، وهي ما صنفه العلماء من كتب مؤلفة تأليفا، مستقلة عن الزمان والمكان، وضمنوها فقها ودراية وبيان علل، ووضعوا لها تراجم متظاهرة بالأدلة والشواهد، متوخين فيها الترتيب والتفصيل، ومعنيين باستنباط الأحكام واستخراج المسائل، رابطي الجزئيات بكلياتها، والفروع بأصولها، فليست دواوين للحديث محضة، بل مستوفية لأغراض نواها أصحابها، ومطالب تعمدوها ومرام ابتغوا تحقيقها ابتغاء.

قالوا: فسِّر لنا النوعين بأمثلة.

قلت: فمن النوع الأول كتب الثوري والأوزاعي وابن عيينة ووكيع، دوَّنوا فيها أحاديثهم، سمعها الناس منهم أو قرأوها عليهم، ونسخها أصحابهم لأنفسهم أو انتقوا منها، وصارت هذه الكتب أو منتقياتها أبعاضا وأشطرا للمصنفات في القرون المتأخرة.

وأفضل مثال للنوع الثاني صحيحا البخاري ومسلم، فصحيح البخاري كتاب مصنف مطلقا عن الزمان والمكان، جمع فيه صاحبه الأحاديث الصحيحة على شرط خاص مفسر في ثنايا الكتاب، وترجم لها مستنبطا منها مسائل وأحكاما استنباطا دقيقا يدهش ذوي الألباب والعقول، ويبعث الفقهاء والحكماء على العجب والحيرة في ترتيب بديع، مقررا أن صحيح الحديث يكفي لديننا، فكتابه يتضمن أمرين: 

1- جمع للحديث الصحيح متصديا لما لزمه من بيان علل وقضايا في الأسانيد والمتون، ومعززا مذهبه واختياره بالمتابعات والتعليقات.

2- وفقه للحديث وشرح معانيه من خلال تبويبات وتراجم محتجا لها بالأدلة والبراهين ومثبتا قواعد في أصول الدين وفروعه أرساها إرساءا، مع تكرار للأحاديث وتفريق للمتون على وجه تُستجد منه الفوائد.

وصحيح مسلم ألفه جامعا للحديث الصحيح، وهو عنده ما رواه رجال الطبقة الأولى من ذوي العدالة والاستقامة والحفظ والإتقان كمالك وشعبة وسفيان الثوري وحماد بن زيد وأمثالهم، وتقصى أحاديث هذه الطبقة تقصيا، ثم أتبعها بأحاديث رجال الطبقة الثانية وهم دون الأوَّلين في الحفظ والإتقان مشاركين لهم في الستر والعدالة، ولم يتقصها، بل اختار منها ما اعتمده في بيان المتابعات والشواهد، وإذا كان في حديث من أحاديث الطبقة الأولى علة بيَّنها في آخر الباب، وقد جوَّد في ترتيب الأحاديث وابتكر مناهج لم يسبق إليها، فهو أفضل كتاب طبقت فيه الصناعات الحديثية وأودعت بدائع الفن على أفضل طريقة وأحسن أسلوب، ففاق من تقدمه من المصنفين، وأعجز من تأخر عنه، وخلف كتابا فريدا في بابه.

فينبغي لمن طالع الكتابين أن يعرف غرضهما ومزاياهما وخصائصهما، وأن لا يسلك بهما مسلك المدونات.

قالوا: فأين تضع الموطأ من النوعين؟ 

قلت: هو من النوع الأول.

قالوا: أليس طعنا في الموطأ أن أحللته محل المدونات؟

قلت: لا، وأي طعن في هذا؟ بل هو من محاسن مالك وأمثاله، إذ لم يقيدوا الناس بكتبهم ولم يفرضوها على الأمة، وهو منهج مضى عليه العلماء في الإسلام وغيره، فكتب أرسطاطاليس وكثير من الفلاسفة ليست إلا دروسا ومحاضرات قرروها على تلاميذهم الذين قيدوها تقييدا.

قالوا: فما هي فائدة المدونات؟ 

قلت: هي جمع لمرويات صاحبها محصاة مضبوطة، يسمعها عليه تلاميذه، غير مقيدين بفقهه ومنهجه في الاستخراج والاستنباط مع استفادتهم منه في الأمرين جميعا، ثم يتناقلونها إلى من بعدهم مدربيهم على الفقه والاستنباط، ومن ثم ذهب أرسطاطاليس المذهب نفسه، وتبعه أذكياء الناس.

قالوا: فما الغلط والتخليط اللذان وقع فيهما الناس من عدم الانتباه إلى الفرق بين النوعين؟

قلت: عامل كثير من الناس المصنفات معاملة المدونات، يطالعونها ويشرحونها كمجموعات حديثية محضة غير متبينين لما فيها من المزايا والخصائص التي أودعها أصحابها، فمثلا شروح الصحيحين ليست إلا شروحا لأحاديثهما، مثل شرح السنة للبغوي، ومعالم السنن للخطابي، ولا يحدث كبير فرق إذا جعلت شرح هذا الكتاب شرح كتاب آخر يتضمن الأحاديث نفسها.

قالوا: هل تستثني منها شرحا؟ 

قلت: أبَيتُ أن أستثني إلا فتح الباري، فإنه شرح لصحيح البخاري بجميع مزاياه وخصائصه.

قالوا: وهل لك عليه مآخذ؟

قلت: وأي كتاب يخلو من الخطأ والسهو؟ وإذا كان صحيح البخاري أصح الكتب بعد كتاب الله تعالى فإن فتح الباري أفضل الشروح وأعلاها درجة وأشرفها رتبة، ولقد صدق من قال: لا هجرة بعد الفتح.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين