معجزة القرآن في وصف الكائنات-2-

وعدت القراء في العدد الماضي أن أذكر لهم بعض نماذج من بحوث كتاب (معجزة القرآن في وصف الكائنات) وبعض ما يلاحظ عليه، وأنا أكتفي بعرض نموذجين، وإبداء ملاحظتين:

1 – الضياء والنور في القرآن وفي العلم (1):

ورد لفظ الضياء وبعض مشتقاته في ست آيات من آي القرآن الكريم، ورد خمس منها مراداً به الضياء الحسِّي، في مثل قوله تعالى:[ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ] {النور:35 }. وفي مثل قوله تعالى:[هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً] {يونس:5} وورد في واحدة منها مراداً به الضياء المعنوي، أي الهداية إلى الحق، في مثل قوله تعالى:[وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ] {الأنبياء:48}.

وورد لفظ النور وبعض مشتقاته في آيات كثيرة من آي القرآن نحو خمسين، ورد في اثنتين منها مراداً به النور الحسي في قوله تعالى:[مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ] {البقرة:17}. وفي قوله تعالى:[اللهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ المِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ] {النور:35 } وورد في باقي الآيات مراداً به النور المعنوي، أي الهادي إلى الحق، في مثل قوله تعالى:[يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا] {النساء:174} وفي مثل قوله تعالى:[إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ] {المائدة:44} وأكثر معاجم اللغة العربية لا تفرق بين معنى الضياء ومعنى النور، فمعنى كل منهما الضوء المنتشر من الأجسام النيِّرة الذي يعين على الإبصار، وبعض المعاجم ذكرت أن الضياء أخص من النور.

ومن تدبر آيات القرآن التي ورد فيها لفظ الضياء ومشتقاته، تبين أن القرآن استعمل الضياء للأجسام التي تضيء بذاتها، كالنار في قوله تعالى:[مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ] {البقرة:17} والبرق في قوله تعالى:[يَكَادُ البَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ] {البقرة:20} والشمس في قوله سبحانه:[هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً] {يونس:5}.

ومن تدبر آيات القرآن الكريم التي ورد فيها لفظ النور ومشتقاته تبين أن القرآن استعمل النور للضوء المكتسب المعكوس من الأجسام المظلمة كما ورد في قوله تعالى: [ نُورٌ عَلَى نُورٍ] {النور:35 } سمى سبحانه الضوء اللامع المعكوس من زجاجة المصباح التي هي جسم مظلم بنفسه نوراً.

ومن هذا ينتج أن القرآن الكريم استعمل (الضياء، وأضاء، ويُضيء) للأجسام التي تضيء بذاتها، واستعمل النور ومشتقاته لما تكسبه الأجسام المظلمة من الأجسام المضيئة ثم تعكسه.

وقد قرر العلم التفريق بين الضوء الذاتي والضوء المعكوس، فالضوء الذاتي هو ما يصدر عن الأجسام المضيئة بذاتها، والضوء المعكوس هو ما ينعكس على الأجسام المظلمة من الأجسام المضيئة بذاتها، وهو الذي سماه القرآن نوراً.

ولعل هذا يُظهر السر في أنَّ الله سبحانه وصف رسوله صلى الله عليه وسلم بأنه سراج منير، ولم يقل: إنه سراج مضيء، ليشير إلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يضيء بنفسه، وإنما هو ينير بالضوء الذي يكتسبه من وحي الله تعالى إليه.

2 – النجوم وضياؤها وحركتها في القرآن وفي العلم (2): 

ومن الآيات التي ورد فيها وصف النجم وبيان بعض خواصه قوله تعالى في سورة الطارق:[وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ(1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ(2) النَّجْمُ الثَّاقِبُ(3) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ(4) ]. {الطًّارق}. وقوله تعالى في سورة الأنعام:[وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ البَرِّ وَالبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ] {الأنعام:97} وفي قوله تعالى في سورة النحل:[وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ] {النحل:15-16}. وقد ذكر المفسرون في تفسير هذه الآيات ما خلاصته: 

في تفسير آية الطارق قالوا: أقسم بالسماء وبالطارق، والطارق معناه لغة: القادم، والآتي، و الظاهر ليلاً، وأشار إلى تفخيم شأن الطارق بقوله: [وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ] {الطًّارق:2} وبيَّن المراد به بقوله:[النَّجْمُ الثَّاقِبُ] {الطًّارق:3} والثاقب هو المضي الذي يثقب الظلام بضيائه، وهو اسم للثريا أو لكل نجم مضيء.

وفي تفسير آية الأنعام قالوا: الله سبحانه امتنَّ على عباده بأنه جعل لهم النجوم ليهتدوا بها في سيرهم براً وبحراً أثناء ظلمة الليل، وقد فصَّل بذلك الدلائل لقوم يتفكرون بعقولهم، ويستدلون بما يشاهدون على ما غاب عنهم.

وفي تفسير آية النحل قالوا: امتنَّ الله سبحانه على عباده بأنه ألقى في الأرض جبالاً راسيات لأجل أن لا تميد الأرض ولا تضطرب:[ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا] {النحل:15} لتكون وسائل لاهتداء الناس [وَعَلَامَاتٍ] أي: أمارات يهتدون بمعالمها في سيرهم نهاراً وفي ظلام الليل هم بضياء النجوم يهتدون.

وبالنظر في الآيات الكريمة وفيما فسرت، يتبين أن القرآن وصف النجم بأنه الثاقب، ووصف النجم بأنه يهتدَى به بضيائه في ظلام الليل، ويؤخذ من هذا أن النجم مضيء بذاته، وضوؤه يثقب الظلام وينفذ فيه، وبهذا الضوء يهتدي السائرون ليلاً، ويؤخذ أيضاً من وصف النجم بالطارق أن النجوم متحركة لا ساكنة، لأن من معاني الطارق: القادم والآتي وهي من صفات المتحرك، والسبب في أننا نراها ساكنة مع أنها في الحقيقة متحركة هو بُعدها الساحق عن الأرض، لأنها في السموات العلا. ومن الظواهر التي نشاهدها أننا نبصر بعض الأجسام المتحركة بحركة سريعة على بعد ساحق كأنها ساكنة، فالقرآن الكريم دلَّ على أن النجوم أجرام نيِّرة مضيئة بذاتها، لأنه وصف النجم بأنه ثاقب، وبأنه يهتدى به، ودل على أنها متحركة لأنه وصف النجم بأنه طارق، والطروق للمتحرك، وما يرى لعيوننا أنها ساكنة فهو ظاهري فقط.

والعلم قرر أن النجوم أجرام غازية شديدة السخونة، أي أنها في درجات حرارة عالية، وهي لهب مضيء، وقرر أنها متحركة، وأن رؤيتها ساكنة هو لبعدها السحيق عن الأرض، فما دلت عليه آيات القرآن في وصف النجم أيده العلم ببحثه واستكشافاته.

بعض ملاحظات:

مما لاحظته أن المؤلف في تفسير بعض الآيات يقف عند ظاهر اللفظ، وبهذا يبدو التناقض بين ظواهر الألفاظ في بعض الآيات، ويلجأ إلى رفع هذا التناقض بوجوه من الاحتمالات.

مثلاً: ذكر في صفحة 35 قوله تعالى:[اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ(1) خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ(2) ]. {العلق}. وقال: (إن الله سبحانه ذكر في عدة آيات أنه خلق الإنسان من نطفة ثم من علقة، وذكر في هذه أنه خلق الإنسان من عَلَق، وقال: وفي هذا تعارض ظاهر، إذ يقول مراراً: إنه خلق الإنسان من علقة واحدة، ويقول مرة: إنه خلق الإنسان من علق كثير. والجواب الشافي عن هذا التناقض الظاهري: أنه تعالى بعد أن صيَّر النطفة علقة واحدة، حوَّل هذه العلقة بالتجزئة إلى علق كثير أي أنه جزأ العلقة بطريقة ما، كما يجزأ الشيء الواحد إلى أجزاء، فأصبحت علقاً كثيراً. ولكن قد يعترض ويقال: كيف تصير أجزاء العلقة علقاً كاملاً، مثل العلقة الأصلية؟ فيرد على ذلك بأن هذه الأجزاء تكون في حال نمو وتطور عجيب تكتسب به نفس صفات العلقة الأصلية، فتصير كل منها علقة كاملة مثلها).

وبهذا الفرض الاحتمالي وجه أن الإنسان خلق من علق كثير، وأغفل الآيات الناطقة بأن الإنسان خلق من علقة واحدة.

والصواب ما قرره أكثر المفسرين من أن لفظ الإنسان قد يستعمل مراداً به الفرد، وقد يستعمل بمعنى الجمع، ففي قوله تعالى: [إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ] {العصر:2} وفي قوله تعالى:[خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ] {العلق:2} المراد من الإنسان آحاده، أي خلق أفراد الإنسان من أفراد العلق، وهذا يقتضي أن كل فرد خلق من علقة، كما قالوا : إن مقابلة الجمع بالجمع تقتضي القسمة آحاداً.

قال صاحب الكشاف في تفسير سورة العلق: (فإن قلت: لِمَ قال: (من علق) على الجمع وإنما خلق من علقة كقوله:[ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ] {الحج:5} ؟ قلت: لأن الإنسان في معنى الجمع كقوله: [إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ].

ومثلاً ذكر في صفحة 132: أن الله تعالى دلَّ على أن النجوم متحركة إذ وصف النجم بالطارق والطروق تحرك، ودل في قوله تعالى:[وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ] {النحل:16} على أنها ترى كعلامات ثابتة في الأرض أي ساكنة، وفي هذا تعارض ولكنه ظاهري، لأن سكونها إنما هو لمن رأى العين فقط لبعدها السحيق عن الأرض).

وأخذُ سكونها من هذه الآية غير ظاهر ـ لأن لفظ : (وَعَلَامَاتٍ) ليس للنجوم وإنما هو للجبال والأنهار والسبل الواردة قبله في قوله تعالى:[وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ] {النحل:15}.

وأهم ما ألاحظه أن تفسير آي القرآن الكونية للموازنة بين ما دلت عليه وما قرره العلم ينبغي أن تراعى فيه الدقة التامَّة بحيث لا يفهم من اللفظ العربي إلا ما يدل عليه لغةً بطريق الحقيقة أو المجاز، وأن لا تحمَّل الألفاظ ما يشق عليها احتماله، وأن توضح النظريات العلمية بكل وسائل الإيضاح الممكنة البعيدة عن تعقيدات الاصطلاحات العلمية، وأن تقام على أوضح براهينها، وعلى ضوء ما يفهم من الآية بطرق الدلالة العربية وما يقرره العلم واضحاً جلياً تكون الموازنة.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. 

المصدر: مجلة لواء الإسلام، العدد الثالث، المجلد الثامن، ذو القعدة 1373 يوليه 1954

(1) مقتبس من صفحة 141 وما بعدها بتصرف لفظي لزيادة الإيضاح. 

(2) مقتبس من صفحة 132 وما بعدها بتصرف لفظي لزيادة الإيضاح.

الحلقة السابقة هـــنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين