ذكر جميل لأيام في القدس والخليل (16)

 

صلينا الفجر في الفندق محظورين من الشخوص من محيطه للاضطراب الناشب بالليل، وقد شغل بال الناس وأهمهم أمره، وهو جل حديثهم وهم يتناولون السحور.

التسوق:

طلعنا من الفندق للتسوق حوالي الساعة الحادية عشرة وقد زال الحظر وعاد المرور في الشوارع والطرقات إلى طبيعته، تجولنا في شارع صلاح الدين غير قاضين أهواءنا، وحدا بنا الشره إلى الأزقة والدروب المجاورة لبابي الغوانمة والقطانين مترددين بين المحلات والدكاكين نتمتع بمناظرها، ونحتك بالباعة والزبائن، ونصادف المارة الذين لايهمهم ما يهمنا، ونحن عن شجونهم مشغولون، وتذكرني هذه الأسواق القديمة بماض غرس في قلبي حبه غرسا، محبا لذويه كلفا بهم، وغير باغ عن ذا الحلم اللذيذ بدلا.

المكتبة:

ومضيت إلى مكتبة المسجد الأقصى للقاء أخينا الشيخ يوسف الأزبكي، وقد بُطِّئ عن الموعد تبطئة، فسألت عنه سيدة مسؤولة عن قسم الدراسات النسائية في المكتبة فاتصلتْ به، وأبلغتني أن الشيخ سيحضر بعد الظهر، وتحدثنا قليلا عن اهتماماتها واهتماماتي، ثم انكفأت مع أهلي إلى باب الناظر ندور على المحلات ونطوف الشوارع والأزقة، وصلينا الظهر قريبا من باب السلسلة.

الشيخ يوسف الأزبكي:

وبعد الظهر بقليل أبْنا إلى المكتبة لرؤية الشيخ الأزبكي، وإذا هو في اجتماع، فأخذت أتنقل بين رفوف الكتب، والتقطت كتاب الأنس الجليل أطالعه آلفا إياه وغارقا في مضامينه ومعانيه، ولم يخلص الشيخ إلي إلا بعد الساعة الثانية، وتجاذبنا أطراف الحديث عن الإجازات والروايات وتحقيقات الكتب والمخطوطات، وأهدى إلي اسطوانة فيها فهارس المكتبة وبعض المخطوطات، وتواعدنا على أن أتصل به يوم العيد فنزوره في قريته، وأعجبتني الفكرة فإني أحرص ما أكون على أن أشاهد حياة إخواني الفلسطينيين عن كثب في مدنهم وقراهم.

مجلس:

ورجعنا إلى الفندق واسترحنا قليلا، ونزلت إلى صالة الطعام حوالي الساعة الثالثة لمجلس الأسئلة، فألقيت كلمة مقتضبة، متعرضا لاستفسارات متناولة لمسائل الإقامة والسفر وصلاة النساء وما يختلفن فيه عن الرجال في أمورها.

درس:

وبعد العشاء ألقيت درسا عند الصخرة عن توديع شهر رمضان المبارك، وأننا إذ نفقده لا نفقد أمما، وأن من آثار قبول طاعاتنا فيه أن نقضي أيامنا وليالينا آسفين على ما حرمنا من بركاته وجادين في عبادة ربنا مسترضين إياه، فإننا لا نعبد رمضان، وإنما نعبد رب رمضان، وقد ذكَّرنا القرآن الكريم أن نبينا صلى الله عليه وسلم وهو مصدر كل خير لنا إذا انتقل منا أن نظل متمسكين بما جاء به غير مقصرين في الإسلام لرب العالمين (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين)، فلما توفي قام عمر بن الخطاب، فقال: والله ما مات رسول الله، وليبعثنه الله فليقطعنّ أيدي رجال وأرجلهم، وجاء أبو بكر مسرعاً فكشف عن وجهه وقبّله، وقال: بأبي أنت وأمّي، طبتَ حياً وميتاً، ثم خرج وخطب النّاس قائلاً: ألا من كان يعبد محمدًا، فإنّ محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حيّ لا يموت.

ألا من كان يعبد رمضان فإن رمضان قد انقطع ومضى، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، وباق لا يفنى.

جبل المكبر:

ثم قصدنا جبل المكبر، وهو جبل يشرف على أكثر أحياء القدس، ويروى أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه علاه حين فتح بيت المقدس، وبجانبه بلدة تسمى جبل المكبر، تقع إلى الجنوب الشرقي من مدينة القدس، معظم سكانها من عشائر العبيدية والسواحرة، بنى الروم على جبل المكبر كنيسة باسم القديس برمزيوس، وبنى الانكليز عليه داراً اتخذوها مقرا لمندوبهم السامي، وأنشأوا عليه الكلية العربية.

درس على الجبل:

وألقيت على الجبل كلمة عن وعد الله المسلمين باستخلافهم أرض إبراهيم عليه السلام وتمكينهم دينهم الذي ارتضى لهم، وعن فتح بيت المقدس في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه:

لما انتهى أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه من فتح دمشق حاصر بيت المقدس، وطلب من أهلها الصلح، ولكنهم رفضوا، وقال رهبانهم: لن يفتحها إلا رجلٌ نعته كذا وكذا، وكتب أبو عبيدة كتابًا بذلك إلى عمر، فاستشار الناس في ذلك، فأشار عثمان بن عفان بأن لا يركب إليهم؛ ليكون أحقر لهم، وأرغم لأنوفهم، وأشار علي بن أبي طالب بالمسير إليهم؛ ليكون أخف وطأة على المسلمين في حصارهم، فهوى ما قال عليٌّ إجابة لطلب أبي عبيدة واستطلاعا للبلاد المفتوحة، وسار بالجيوش نحوهم، واستخلف على المدينة عليَّ بن أبي طالب، وسار العباس بن عبدالمطلب على مقدمته، وكتب عمر إلى أمراء الأجناد أن يُوافُوه بالجابية ليومٍ سمَّاه لهم في المجرَّدة، ويستخلفوا على أعمالهم، فلقوه حيث رُفِعت لهم الجابية، فكان أول مَن لقيه يزيد بن أبي سفيان، وأبو عبيدة، ثم خالد على الخيول، وركب حتى دخل الجابية، وقد نزل عمر عن بعيرِه، وخلع ما كان يلبس في قدمه، وأمسكهما بيده، وذلك لوجود بركة من الماء، وخاض الماء ومعه بعيره، فقال له أبو عبيدة: قد صنعتَ اليوم صنيعًا عظيمًا عند أهل الأرض، صنعت كذا وكذا، قال: فصكَّ في صدرِه، وقال: أَوَ لو غيرك يقولها يا أبا عبيدة، إنكم كنتم أذل الناس، وأحقر الناس، وأقل الناس، فأعزَّكم الله بالإسلام، فمهما تطلبوا العز بغيره يذلكم الله، ثم سار عمر حتى صالح نصارى بيت المقدس، واشترط عليهم إجلاء الروم إلى ثلاث، ثم دخلها إذ دخل المسجد من الباب الذي دخل منه رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء. ويقال: إنه لبَّى حين دخل بيت المقدس، فصلى فيه تحية المسجد بمحراب داود، وصلى بالمسلمين فيه صلاة الغداة من الغد، فقرأ في الأولى بسورة ص وسجد فيها والمسلمون معه، وفي الثانية بسورة بني إسرائيل، ثم جاء إلى الصخرة فاستدلَّ على مكانها من كعب الأحبار، وأشار عليه كعبٌ أن يجعل المسجد من ورائه، فقال: ضاهيتَ اليهودية، ثم جعل المسجد في قِبْليِّ بيت المقدس وهو العُمَري اليوم. وكان فتح بيت المقدس في ربيع الأول سنة ست عشرة.

وكانت هناك أسئلة كثيرة جدا حول عمل المسلمين في المطاعم التي تباع فيها الخمور، وعمل المسلمين في جيش غير المسلمين، وسألت طالبة: كان الصحابة يبكون حين يقرأون القرآن، ونحن نقرأه فلا نبكي فماذا نفعل؟ فأجبت عن سؤالها في تفصيل وقلت: إن الحزن على عدم البكاء بكاء.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين