ذكر جميل لأيام في القدس والخليل (15)

خرجنا في الصباح إلى بعض الأسواق داخل السور في المدينة القديمة لاشتراء ملابس وهدايا، وهي محال على جوانب شوارع صغيرة وتشبه الأسواق القديمة التي أنشأها الأيوبيون والمماليك والعثمانيون في دمشق والقاهرة، ممتازة بجمال مبانيها، وبهاء قبابها وبديع مناظرها.

مسجد الزاوية النقشبندية:

زرنا على طريق باب حطة جامع الزاوية النقشبندية عند باب الغوانمة في الساعة الحادية عشرة والنصف، ويطلق عليها أيضا الزاوية الأزبكية أو البخارية نسبة إلى القائمين عليها، بنيت في أواخر العهد المملوكي أو أوائل العهد العثماني، وقام الشيخ عثمان بك البخاري الصوفي بتوسعتها سنة 1731م في عمارة متميزة بالإتقان والصنعة، نفذنا من مدخلها الرئيسي في ممر صغير ضيق إلى مسجدها الصغير، ووُجِّهنا إلى حجرة دفن فيها بعض علماء النقشبندية، ثم صعدنا درجات إلى جناح طوَّره العثمانيون مكتبة علمية.

سوق باب القطانين:

وتجولنا في سوق باب القطانين، واشتريت ملابس لبناتي، وهدايا لأولادهن، ودخلنا محلا صاحبه رجل محترم اسمه محمد الرجبي عضو لجنة زكاة القدس ويرأس جمعية خيرية ترعى الأيتام، وقد وفد إلى بريطانيا مرارا، ويقود حملة لتشجيع المسلمين من العالم كله على زيارة القدس.

سوق باب القطانين من أقدم أسواق القدس، أنشأه الأمير المملوكي أنكز الناصري، وجدده السلطان الناصر محمد بن قلاوون سنة 727هـ، وكان في عهد المماليك من أحسن أسواق المدينة ومن أكثرها ازدحاماً وأتقنها بناء وأكثرها ارتفاعاً، وقد كان يباع فيها أقمشة قطنية وحريرية من الهند، وفي وسط السوق حمام للرجال يعرف باسم حمام الشفا، وفي آخرها من الغرب حمام العين، وأمامها من الناحية الغربية شارع يؤدي إلى دار الأيتام الإسلامية.

صلاة الظهر:

وصلينا الظهر والعصر جمعا في رواق بين بابي الناظر والمطهرة، ثم زرنا مكتبات عند باب الناظر واشترينا كتبا، وأخيرا رجعنا إلى الفندق متعبين فاضطجعنا على فرشنا مستريحين.

مجلس بعد العصر:

وكان لي مجلس طويل مع رفاقنا بعد العصر، أجبت فيه عن أسئلتهم عن الزواج، وكيف يختارون أزواجهم، وعن السفر وأموره، وعن عورة النساء، وعن الخمار والحجاب والجلباب، وعن ظهورهن للعلم والصلاة وقضاء حوائجهن في الأسواق والمرافق العامة.

شارع صلاح الدين:

وصعدنا إلى شارع صلاح الدين لاشتراء التمور وبعض الهدايا، ورجعنا قبل الإفطار بقليل، وأفطرنا في المطعم.

صلاة العشاء:

صلينا العشاء في المسجد الأقصى، ودعا الإمام في الوتر بدعوات طويلة منها الدعاء لتحرير المسجد الأقصى.

موعظة على جبل الزيتون:

وعقد زيد اجتماعا على جبل الزيتون، فسَّرت فيه سورة التين مستوحيا من آراء العلامة عبد الحميد الفراهي رحمه الله تعالى، وألخص هنا ما يتصل بجبل الزيتون، ومن أراد التفصيل فليراجع التفسير المذكور:

إن عمود السورة هو إثبات الجزاء وحكم الله العادل، وبدأ السورة بالقسم، والقسم هنا من أجل الاستشهاد بأربع وقائع حدثت في الدنيا على الجزاء، فاستدل بتلك الوقائع على أن الدين أي الجزاء واقع لا محالة.

فالتين والزيتون هما جبلان، الأول في العراق، والثاني هو هذا الجبل الذي نحن الآن عليه، وطور سينين معروف وكذلك البلد الأمين أي مكة، وإن هذه البقاع الأربع مواضع لظهور الدينونة الدالة على أن الرب تعالى يدين الإنسان بالرحمة والعدل حسب أعماله، والتين هو أول موضع لظهور الدينونة على الإنسان، وهو جبل الجودي، قال تعالى: "وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء وقضي الأمر واستوت على الجودي وقيل بعدا للقوم الظالمين.

ووقعت على جبل الزيتون الدينونة العظمى من سلب الأمانة والناموس من اليهود وإعطائها لدوحة أخرى من شجرة إبراهيم عليه السلام إذ وقع ما وقع في آخر عهد المسيح عليه السلام في ليلة سهرها على جبل الزيتون، وقد ناجى الرب إلى السحر، ويئس من قومه فحزن غاية الحزن، لما علم أن اليهود يهمون بقتله، وبذلك يلعنون ويسلبون الأمانة، فتعطى لأمة جديرة بها، كما صرح به المسيح عليه السلام حيث قال: "أما قرأتم قط في الكتب الحجر الذي رفضه البناؤون هو قد صار رأس الزاوية من قبل الرب، كان هذا وهو عجيب في أعيننا، لذلك أقول لكم إن ملكوت الله ينزع منكم ويعطى لأمة تعمل أثماره، ومن سقط على هذا الحجر يترضض ومن سقط هو عليه يسحقه" (إنجيل متى 21: 42-44). فهذا نزع ملكوت الله وقع على جبل الزيتون، ويتبين ما ذكرنا مما جاء في الأناجيل، مقتصرا هنا على ما في الإنجيل المنحول إلى لوقا (22: 39-52):

"وخرج ومضى كالعادة إلى جبل الزيتون، وتبعه أيضا تلاميذه، ولما صار إلى المكان قال لهم: صلوا لكي لا تدخلوا في تجربة، وانفصل عنهم نحو رمية حجر وجثا على ركبتيه وصلى، قائلا: يا أبتاه، إن شئت أن تجيز عني هذه الكأس. ولكن لتكن لا إرادتي بل إرادتك، وظهر له ملاك من السماء يقويه، وإذ كان في جهاد كان يصلي بأشد لجاجة، وصار عرقه كقطرات دم نازلة على الأرض، ثم قام من الصلاة وجاء إلى تلاميذه، فوجدهم نياما من الحزن، فقال لهم: لماذا أنتم نيام؟ قوموا وصلوا لئلا تدخلوا في تجربة، وبينما هو يتكلم إذا جمع، والذي يدعى يهوذا، أحد الاثني عشر، يتقدمهم، فدنا من يسوع ليقبله، فقال له يسوع يا يهوذا، أبقبلة تسلم ابن الإنسان، فلما رأى الذين حوله ما يكون، قالوا: يا رب، أنضرب بالسيف، وضرب واحد منهم عبد رئيس الكهنة فقطع أذنه اليمنى، فأجاب يسوع وقال: دعوا إلى هذا ولمس أذنه وأبرأها، ثم قال يسوع لرؤساء الكهنة وقواد جند الهيكل والشيوخ المقبلين عليه: كأنه على لص خرجتم بسيوف وعصي."

ذكر في سورة التين كيف يدين الله الإنسان بالحكمة، ويقيم من بين الناس أمة بعد أمة ويعطيهم الأمانة، ويرفع قوما ويضع قوما ليدينهم حسب ما أوفوا بعهده وأمانته كما قال: (وهو الذي جعلكم خلائف في الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم فيما آتاكم إن ربك سريع العقاب وإنه لغفور حيم) سورة الأنعام 165.

الرجوع إلى الفندق:

ورجعنا إلى الفندق حوالي الساعة الواحدة والنصف، ففوجئنا بصدامات ومواجهات بين الفلسطينيين وبين الشرطة في الشوارع حول الفندق، وأغلقت الشرطة مداخل البلدة القديمة مانعة الفلسطينيين من الدخول أو الخروج، ووضعت السواتر الحديدية على محيط الأبواب وسط توتر شديد بقيت آثاره حتى اليوم التالي.

انظر الحلقة 14 هـــنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين