التربية الإسلامية وتحديات القرن الحادي والعشرين -6-

 

معرفة الحق بالرجال:

من يقرأ أهداف التربية الإسلامية ومبادئها والقيم التي تدعو لها والصورة التي تنشدها للإنسان ينبهر بما يقرأ؛ لأن أهدافها ومبادئها وقيمها واتساقها هو جوهر الإسلام، حتى لو أنه أغمض عينه وكان مستمعاً لشخص آخر فقد يظنه يصف له جانباً من الفردوس الموعود. لكنه إذ يفتش بعينيه وأذنيه بين المسلمين فسوف يرى نماذج وأحوالاً وسلوكاً ومواقف تسير في معظمها على طريق التخلف والازدراء.

إن هذه الهوة الواسعة بين (النموذج) و(الواقع) تسيئ إلى النموذج إساءة بالغة وتشكل تحدياً كبيراً له.

فلربما دفعت هذه الهوة البعض إلى أن يصف هذا النموذج بالتعالي على الواقع والمثالية المفارقة لإمكان الحدوث. كأنه مجموعة أحلام ومسارات خيال، وفي هذا ظلم صارخ للنموذج، ويستطيع القارئ أن يرجع إلى كم كبير من البحوث والدراسات التي تؤكد جميعها، على ما يتسم به هذا النموذج من (واقعية) واتفاق مع الفطرة البشرية مما يجعله غير عصي على التنفيذ والتشخيص العملي. ولعل ما هو أصدق برهاناً هو أن هناك نماذج عديدة من مسلمي صدر الإسلام قد تمثلوا هذا النموذج وسلكوه معيشة وحياة، بل في عصور أخرى تلت صدر الإسلام، وإلا فكيف تأتى للمسلمين أن يقيموا هذه الحضارة الرائعة التي فاقت كل ما سبقها من حضارات، وأهدت للإنسانية أشهى ثمرات أبدعها إنسان الإسلام واستمرت قرونا عدة؟ كيف تأتَّى لهم هذا من غير توافر الأبنية البشرية التي هي الطاقة المحركة للحضارة؟

وإذا كانت الهوة الشاسعة بين النموذج والواقع يمكن أن تدفع البعض إلى سوء الفهم هذا في مدى قابلية النموذج للتطبيق، فإنها أحياناً ما تكون سنداً لدى لبعض آخر للجحود والإنكار عندما يتخذون من سلوك المسلمين معياراً للحكم على التربية الإسلامية، وأشهر الأمثلة على ذلك ما نجده بخصوص بعض الأمثلة السياسية المعاصرة التي ترفع شعاراً إسلامياً ويصدر منها من المواقف والسلوك ما قد يصدم الإنسان، فهنا يشير المنكرون: أرأيتم ؟ هذا هو الحال عندما يحكم الإسلام.

إن الخطأ الفاحش هنا هو قياس الحق بالرجال، والمفروض أن يقاس الرجال بالحق . 

الحق هو تربية الإسلام، وتربية الإسلام هي الحق، ومن ثم فهي (المعيار) الذي نقيس عليه ما يمارس من سلوك فنحكم عليه بالتخطئة أو الصواب.

وإذا كنا قد أشرنا إلى أن الحضارة الإسلامية الزاهية لابد أن تكون من صنع أبنية بشرية على أعلى قدر ممكن من الكفاءة التربوية الإنسانية، فإننا لا نستطيع أن نقول: إن المجتمع الإسلامي في تطوره كان دائما مجتمعا من الملائكة. كلا.. فهناك في كل زمان ومكان نماذج من انحراف وسوء ، وحركة المجتمع الكلية إنما تكون بالجمهرة الكبرى.

لكن البعض مغرم بأسلوب (الاصطياد) في التعامل مع التاريخ. إنه يصدر الحكم مسبقاً بينه وبين نفسه بالجحود والإنكار، ثم يعمل أدوات بحثه بين صفحات التاريخ كي يصطاد الأمثلة المؤيدة، وهو لابد واجدها، ليقول لنا فرحا: أرأيتم؟ هذه هي نتائج التربية الإسلامية: غدر هنا، ودس هنا، وذبح هنا، وتآمر هناك، قهر هنا، واستغلال هناك، وكأن التاريخ الإسلامي كله غدر ودس، ولو صح هذا فكيف تأتّى للمسلمين أن يقيموا ما أقاموا من حضارة مذهلة عدة قرون؟

إن ما ينبغي التنبيه إليه هو أن هذه الجهود المستميتة لمحاصرة الإسلام بحيث يظل معتقلاً على صفحات الورق داخل المساجد، وترك الناس يفكرون ويسلكون وفقاً لنماذج أخرى مغايرة، من شأنها أن تزيد الهوة بين النموذج الإسلامي وسلوك المسلمين، ومن ثم يسهل الأمر على المهاجمين أن يدفعوا بسهامهم ورماحهم تشكيكاً وإنكاراً.

ولو أن إنسانا تفرغ يوماً واحداً لمراقبة ما يذاع ويشاهد في أجهزة الإعلام المرئية والمسموعة لوضع يده على بيان علمي واسع النطاق متعدد الأساليب على صحة ما نقول، فأجهزة الإعلام كما نعلم جميعاً لها من قوة الجذب وربما (التخدير) ما يمكنها من أن تفترس العقول وتحتل القلوب بنماذج من الأفكار والقيم والاتجاهات ما يساعد على تشكيل سلوك المسلم وفقاً للغايات التي يستهدفها القائمون بأمر الأجهزة.

لقد سمعت يوماً في إحدى القنوات الفضائية العربية مواطناً من بلد هذه القناة يعيش في إحدى البلدان الأوروبية يخاطب مسئول القناة بأنهم مشتاقون لمشاهدة برامج دينية تعينهم على مواجهة هذا الزخم الذي تحفل به الحياة الأوروبية من حولهم، حتى تستمر صلتهم بدينهم وتساعدهم على حماية أبنائهم، فإذا بالمسئول يرد بأنهم في هذه القناة لا يتأخرون عن ذلك عندما تكون هناك مناسبات، مثل: رمضان والعيد ورأس السنة الهجرية، وموعد مولد الرسول صلى الله ليه وسلم.

وهكذا يعتبر هذا المسئول عن تصوره للدين بأنه مرتبط فقط بمناسبات لا يزيد مجموعها في العام عن أربعين يوماً على وجه التقريب، وفي غير هذه الأيام، فلا حاجة للناس بالإسلام ولا الحديث عنه!

وحتى إذا فحصنا ما يقال من أنه برامج دينية في مثل هذه المناسبات فسوف نجد – مثلاً- الأعمال (الدرامية)، وهي التي تحظى بنسبة مشاهدة أكبر تدور حول وقائع تاريخية مما يرسخ فكرة، أن الإسلام (فترة تاريخية) وليس (حاضراً)، فضلاً عن أن يكون مستقبلاً، وهنا نجد أن ليس من الضروري أن يسمى العمل التليفزيوني أو الإذاعي بأنه (ديني) وإنما يمكن بث القيم والاتجاهات الدينية الإسلامية من خلال أعمال عادية، ففي العمل (الدرامي) مثلاً يمكن للإنسان (المأزوم) أن يهرع إلى صلاة ركعتين بدلاً من أن يسرع إلى إشعال سيجارة أو شرب كأس من الخمر. ويمكن أن تكون التحية دائما هي (السلام عليكم ورحمة الله وبركاته)، ويمكن أن يشير العمل إلى عالم دين يقوم بدور إصلاحي ينفع الناس، بدلاً من أن يظهر المتدينين دائماً بأنهم لابسو جلاليب بيضاء قصيرة ملتحين، حالقو الشوارب مقطبو الوجوه، لا تعرف الابتسامة طريقها إليهم، ولا همَّ لهم إلا الإرهاب والتآمر وإفزاع الناس وترويعهم.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين