النبي الأمي صلى الله عليه وسلم 

الأبوان الكريمان:

1 – في بطحاء مكة، وفي بيت هو في الذروة من بيتها، نشأ شاب امتلأ حياة وقوة، وكساه ربه جمالاً وبهاء، ورمقته العيون، وأحبته القلوب، وقد تزوج ذلك الشاب من فتاة في مثل شبابه ونسبه ولكنهما لم يجتمعا إلا أشهراً معدودات ولم يعش آخرهما بعد أولهما إلا سنين معدودة، وكأنهما برزا إلى الوجود ليُودِّعَا الدنيا أعظم من في الوجود: ذانِكَ الشاب والفتاة هما عبد الله وآمنة، أودعا الدنيا نورها محمداً صلى الله عليه وسلم.

ألقى عبد الله وديعته، وفارق الحياة بعد بضعة أشهر، وألقت آمنة حملها النوراني، ثم فارقته بعد بضع سنين، وتعهده ربه من بعد ليصنع على عينه، وليعطيه مصباح الحقيقة الخالد إلى يوم القيامة، يوم يرث الله تعالى الأرض ومن عليها، وهو خير الوارثين.

كفالة جده وعمه:

2 – كفل ذلك اليتيم جدُّه عبد المطلب رئيس قريش وذؤابتها، فاحتضنه وألقى عليه محبته، وعوضه عن فقد الأبوين بعطفه ورعايته، وحسن كلاءته وحمايته، حتى كان أقرب من أولاده إليه مجلساً، وأدنى منه إلى قلبه منزلاً، ولكنه الآخر لم يلبث حتى اخترمه الموت وشيكاً، واليتيم في الثامنة، فكفله عمه أبو طالب، وكان عنده كما كان عند جده، واستمر في كفالته ورعايته إلى أن شبَّ عن الطوق، واستوى شاباً مكتمل القوى، واضح السنا، بهيَّ الطلعة، أحبته قريش كلها وأجلَّته، وكان فيها الشاب المحبوب المرهوب، والليِّن القوي، والرفيق الأبي، والفقير السخي، والصادق الأمين، يُروى أنه حضر دار الندوة بمكة التي يجتمع فيها زعماء القبائل وأقيال العرب ليتشاوروا، فكان يستمع إلى الخطباء والمتكلمين، فإن أرضاه القول استراح، وإن لم يرضه استنكر بقلبه، وبدا رضاه وغضبه في عينه، فقال قَيْل من أقْيَال العرب لبعض قريش: (ما لي أرى هذا الغلام ينظر إليكم تارة بعين لبؤة، وأخرى بعيني عذراء خفرة؟ والله لو أن نظرته الأولى كانت سهاماً لانتظمت أفئدتكم فؤاداً فؤاداً، ولو أن نظرته الثانية كانت نسيماً لأنشرت أمواتكم)!

يتمه وفقره صلى الله عليه وسلم:

3 – نشأ محمد صلى الله عليه وسلم يتيماً فقيراً، فكان في المال قُلاً، ولكنه كان محباً للناس يألفهم ويألفونه، فلم يكن من اليتامى الفقراء الذين يتبرمون من الناس ولا يحيونهم، لأنهم نشئوا لم يلقوا العطف الذي يؤلف قلوبهم، والمحبة التي توسع أفئدتهم، بل كان محمد صلى الله عليه وسلم الذي تربى يتيماً رؤوفاً بالناس رحيماً، لأن القلوب التي حاطته أحبته، فكان من بعد ذلك بين الناس المحب المحبوب، والقريب إلى القلوب المألوف.

ولم ينل فقره من نفسه العزيزة الكريمة، لأنه بشرف نسبه، وعزته في قومه، ومكانة أسرته بين العرب كان الفقير العزيز، فأبعده الفقر عن الخيلاء، وظلم الكبرياء، وأبعده النسب الرفيع عن سفاسف الأمور فاتجه إلى معاليها.

أميته صلى الله عليه وسلم:

4 – نشأ محمد صلى الله عليه وسلم في أمة أميَّة، قراؤها قليل، وعلمها في ذاكرتها، تعتمد على الوعي أكثر مما تعتمد على القرطاس، وتعتمد على الصدور أكثر مما تعتمد على السطور، والأمة التي على هذا الشأن يقل فيها العلم، ولا يوجد فيها بحث واستقصاء ودراسة، وقليل من قريش كان يعرف القراءة والكتابة، ولم يتهيأ لمحمد الرسول الأمين صلى الله عليه وسلم أن يتعلمها، فكان لا يقرأ ولا يكتب إلى أن قبضه الله سبحانه وتعالى إليه، فلم يُعرف عنه عليه السلام أنه تعلم علماً قط، فلم يتعلم لا بطريق الدراسة التي تقتضي القلم والقرطاس، ولا بطريق التلقين التي تقتضي الموقّف والمعلم، ولم يختلط بأحد من أصحاب العلوم قط، بل كان الرجل الفطري الذي نشَّأه ربه على الفطرة.

وإن رحلاته إلى الشام للتجارة لم تكن كثيرة كرحلة غيره من التجار في قريش، وذوي الرياسة فيهم، فلم تعرف له إلا رحلتان، وكان غيره ممن له منزلته في نسبه وقومه أكثر منه حلاً وارتحالاً فلم يأته حتى علم التجربة بالأسفار، وركوب متن البحار.

الخلق القويم:

5 – ومع هذه العزلة الفكرية، ومع انقطاعه انقطاعاً مطلقاً عن العلم والعلماء، وعن أسباب التعلم بالقراءة والاطلاع، مع كل هذا لم يرض لنفسه ما ارتضاه الشباب في قريش لأنفسهم، فلم يسجد لصنم قط، ولم يتجه إلى ملاهيهم قط، ولم يشرب الخمر أبداً، وهداه تفكيره الفطري ، أن يعبد الله وحده، فكان يتحنث في غار حراء الليالي ذوات العدد.

وكان صلى الله عليه وسلم على خلق قويم، فلم تعرف له قبل الإسلام كذبة قط، ولا خيانة أبداً، وكان صلى الله عليه وسلم يُسمَّى الأمين، لما اُشتهر به من استقامة، ونزاهة نفس، وعفاف في الفعل والقول، فكان فيه أدب الفطرة الإنسانية العالية، حتى ساغ له أن يقول فيما يروي (أدبني ربي فأحسن تأديبي) وحتى لقد قال له ربه تعالى من بعد: [وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ] {القلم:4}.

الكتاب المحكم:

6 – هذا الإنسان الكامل في إنسانيته، السامي بفطرته الذي لم يتعلم على بشر أبداً، جاء بعد أن بلغ الأربعين أو تجاوزها يقول إنه: يحدث الناس عن ربه، وإنه النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل، فطلبوا منه الدليل، فقدَّم إليهم ذلك الأمي كتاباً محكماً، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وتحداهم أن يأتوا بسورة من مثله فلم يستطيعوا ولو كانت مفتراة، فأعجز العرب ببلاغته وفصاحته وأسلوبه ونظمه، إذ وجدوه على غير مثال من القول سبق، وهذه شهادة زعيم من زعماء الشرك الجاحدين، وهو الوليد بن المغيرة فقد قال لقريش عندما سمعه: (و الله ما منكم رجل أعلم بالأشعار مني، ولا أعلم برجزه ولا بقصيده مني، والله ما يشبه الذي يقول شيئاً من هذا، والله إن لقوله الذي يقول لحلاوة، وإن عليه لطلاوة ، وإنه لمثمر أعلاه، مغدق أسفله، وإنه ليعلو وما يعلى، وإنه ليحطم ما تحته)!.

أعجز العرب بهذا النظم القويم، وأعجز الناس أجمعين بمعناه الحكيم، فكان كتاب الحقيقة خاطب الخليقة إلى يوم الدين.

نظام الحكم الإسلامي:

7 – خاطب هذا الأمي العالَم كله بهذا الكتاب المبين، المشتمل على شرائع لم يصل إلى مثلها عقل بشر من قبل، وقضى في مشاكل الإنسانية التي أعجز حلها فلاسفة اليونان، ووضع نظاماً لمدنية فاضلة لم يصل العالم من قبله لمثلها.

واقرأ كتاب جمهورية أفلاطون الذي حوى نظام مدنيته الفاضلة، وكتاب السياسة لأرسطو، وما شرعه سولون من قوانين لأثينا، وما سنه ليكورغ لأسبارطة من أحكام، ووازن بينها و بين ما سنه الإسلام من نظام مثالي محكم، واحذر عند الموازنة أن تستخلص أحكام الإسلام مما ابتدعه الملوك الذين حكموا باسم الخلافة الإسلامية، فقد كان الحكم الإسلامي بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بثلاثين سنة ملكاً عضوضاً، قد عضَّ عليه أصحابه بالنواجذ، وصار من بعد حكماً استبدادياً طاغوتياً، وحينما كان الاستبداد الطاغوتي كان حكم الهوى والشهوة، وكان العيث والفساد.

وإن أردت الميزان المستقيم، فزِنْ التعاليم القرآنية والنبوية في صورتها السامية المثالية وغيرها، ثم إن أردت أن تراها واقعة في الحس، بعد إدراكها مُثلاً عالية في النفس، فانظر إلى حكم الرسول صلى الله عليه وسلم وهدايته، ثم إلى حكم الصديق رضي الله عنه وهمته، ثم إلى حكم عمر رضي الله عنه وعدالته، فقد كان الإسلام في ذلك الإبان غضاً لم يرفق بأوهام، وكان الشعب فاضلاً، والإمام عادلاً، وكان القرآن هو الميزان، وقول النبي صلى الله عليه وسلم هو البيان.

المرأة قبل الإسلام وبعده:

8 – كانت المرأة قبل الإسلام متاعاً أو كالمتاع، فجاءت شريعة النبي الأمي صلى الله عليه وسلم، وجعلتها شخصية كاملة مستقلة لها كل الاستقلال في شئونها، تدير أموالها كما تشاء، وتتصرف فيها كما تريد، ليس لأحد عليها سلطان، إلا العقل والتدبير، والفكر المستقيم، فلا تفنى شخصيتها في شخصية زوجها، ولا في شخصية أوليائها، ومنع ظلم الأولياء، وظلم الأزواج، وإن هذه الحقوق لم تكن معروفة قبل محمد صلى الله عليه وسلم في أيِّ أمة من الأمم، ولم يفكر فيها أي فيلسوف من الفلاسفة، وهي في جملتها لم تصل إليها الأمم المتمدنة إلا في العصور المتأخرة، ومازالت بعض الأمم التي تفاخر بمدنيتها قاصرة عن بلوغ غاية الإسلام في ذلك الشأن.

واعتبر الزواج علاقة مقدسة وهو قوام الأسرة، والأسرة قوام المجتمع، ولم يهدم الأسرة في سبيل المجتمع كما فعل أفلاطون، فهُدِمَت الأسرة والمجتمع معاً، بل اعتبرها لبنته، ولا يكون مجتمع قوي إلا من أسر قوية.

إنسانية الأرقاء:

9 – واحترم الإنسانية في الأرقاء كما احترمها في الأحرار، ولم يعتبر التفاضل بين الناس بالحرية والشرف، بل اعتبر بالتقوى والعمل الصالح، ولا فرق بين عبد وحر، ولا شريف ووضيع.

وكانت شريعته أول شريعة حاربت الرق بأحكامها، بل كانت أعمال محمد صلى الله عليه وسلم في الرق والرقيق أول صرخة إنسانية دوَّت في الوجود معلنة أن الرق نظام غير طبيعي، ولكن بطريق الفعال، لا بلسان المقال، فحث على العتق، واعتبره أقرب القربات، وجعلت شريعته من يفطر في رمضان عليه عتق رقبة، ومن يحنث في يمين حلفها، عليه عتق رقبة، ومن قال امرأته كمحارمه، عليه عتق رقبة، ومن قتل مؤمناً خطأ ،عليه عتق رقبة مؤمنة، ومن ضرب عبده، عتق عليه، ومن ملك ذا رحم، عتق عليه، ومن عتق بعض عبده ،عتق كله، وأن من يهزل فيعتق كمن يجِدُّ؛ تشوقاً للعتق، ورغبة فيه، وإذا طلب العبد أن يسعى في طلب المال ليكتسب ويعطي السيد ثمنه، وجب على السيد أن يعاقده على ذلك، كما نصَّت الآية:[ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا] {النور:33}. واعتبر من مصاريف الزكاة: العمل على فك الرقاب.

وهكذا لو نفذت الشريعة على وجهها في الرق ما بقي عبد في ملك سيده أكثر من سنة، ولكان الذين يسترقون في الحروب العادلة التي يجوز الرق فيها، لا يمضي عليهم عام إلا وهم أحرار.

وبهذه الأحكام العملية يقرر الإسلام أن الرق ليس نظاماً طبيعياً، بل هو ضد الفطرة الإنسانية، فالإنسان خلق ليكون مالكاً لا مملوكاً، فل يقل محمد صلى الله عليه وسلم مقالة أرسطو الفيلسوف: إن من الناس أحراراً بالفطرة، وأرقاء بالفطرة، بل للمسلم أن يفاخر العالمين بأن القرآن ليس فيه نص يبيح الرق، ولكن كل ما فيه نصوص تحث على العتق.

نظام الأسرة المالي:

10 – وأتى بنظام مالي للأسرة لم يسبق له مثيل، فكانت الشرائع تحرم المرأة من الميراث، وتجعله في طائفة دون طائفة، فجاء محمد صلى الله عليه وسلم الأمي بنظام في توزيع الأموال بين الأسرة، لم يستطع العقل البشري أن يأتي بنظام أعظم تحقيقاً للعدالة منه، بل ما زال هو الأول بعد أن غبرت السنون وتوالت القرون.

جعل أموال الأسرة بين آحادها شبه مشتركة، فنفقة الفقير العاجز في مال قريبه الغني القادر، ونظام الميراث يسير مع نظام النفقات في خطين متوازيين، وفي متجهين في جملتهما متماثلين.

وجعل توزيع الميراث بين الأقارب ينحو نحو التوزيع لا نحو التجميع، فل يجعل الميراث كله لواحد من الأسرة، بل يندر جداً أن يستبد واحد بكل الميراث، وجعل التفاوت في الأنصبة على أساس الحاجة، فجعل الأولاد أكثر حظاً من الآباء، وجعل الذكران أكبر حظاً من الإناث لحاجة الأولين إلى المال أكثر، وهكذا.

11 – هذه قبسات مما جاء به ذلك الأمي الذي لا يقرأ ولا يكتب ولم يتعلم قط، أليست هذه الشريعة في ذاتها، وعدالتها واستقامتها، وسبقها العالم كله، وإدراك العالم من بعد لمزاياها، دليلاً ساطعاً على أنها ما كانت من ابتداع ذلك الأمي، ولكنها بوحي إلهي، فإذا قال محمد الأمي، قال رب العالمين فهو الصادق الأمين:[وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى] {النَّجم:3-4}.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. 

المصدر: مجلة لواء الإسلام المجلد الرابع، العدد السابع ربيع أول 1370هـ - ديسمبر 1950م.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين