ذكرٌ جميل لأيامٍ في القدس والخليل (14)

تسحرنا في الصباح وصلينا الفجر، واستيقظنا في الساعة التاسعة، وزرنا اليوم المتحف والمكتبة ثانية.

متحف الآثار الإسلامية:

وردنا المتحف حوالي الساعة الحادية عشرة والنصف، ومما شاهدنا فيه اليوم: اسطرلاب وجزء من اسطرلاب من القرن الثامن عشر للحسابات الفلكية ولتعيين الجهات، ومزولة من الخشب لقياس المسافات والزمن، ومقص لقص خيط الشمع من الفترة العثمانية، ومحبرة للتخطيط من الفترة العثمانية وقالب لعمل الجواهر من الفترة العثمانية.

وفيه مصاحف كثيرة مخطوطة ووثائق نادرة، يبلغ عدد المصاحف الشريفة فيه 266 مصحفًا، ويبلغ عدد الوثائق المملوكيّة حوالي 1000 وثيقة تتعلّق بشؤون الحياة الاجتماعيّة والاقتصاديّة.

ومما شاهدنا فيه: القسم الثاني من مصحف كتب بالخط الكوفي الشرقي غير المنقط بواقع 15 سطرا للصفحة، وأسماء السور كتبت باللون الذهبي في أشرطة مستطيلة بالخط الكوفي المذهب، ويختلف تزيين وحجم كل ترويسة قلم بين كل شريط وآخر، ويمثل التزيين في هذا المصحف أسلوب التزيين الإسلامي القديم، وفي آخر المصحف نص يفيد أن هذا المصحف كتب بخط الحسن بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وهذا الجزء موقوف على قبة الصخرة المشرفة، يعتبر أقدم مصحف بالمتحف.

ومصحف كبير جدا، مصحف مملوكي يعود للقرن الخامس عشر الميلادي، وقد كتب النصف الأول منه بخط المحقق وهو الثاني من حيث الحجم بالمتحف الإسلامي، ويبدو أنه كتب بيد أكثر من خطاط، وأول 56 ورقة منه استبدلت بخط حديث.

ومصحف مخطوط يعود للفترة المملوكية، أوقفه السلطان الأشرف سيف الدين برسباي، وقد أحضر سنة 1432م إلى المسجد الأقصى، ويعتبر أكبر مصحف بالمتحف الإسلامي، وهو بطول 107سم وعرض 90 سم وسمك 15 سم.

ومصحف صغير الحجم أوقفه ناظر الحربية في الدولة العثمانية أنور باشا في سنة 1916، والمصحف آية في الخط حيث كتبه الخطاط التركي الشهير عثمان بن حسين المعروف بقايش زاده، وذهّبه الحاج أحمد تلميذ الحاج حسين، وكتب أسماء السور محمد علي بكتائجي عالي باشا.

ومصحف من النسخ العثمانية الجميلة جدا، وموقوف من الأمير با يزيد بن السلطان سليمان القانوني، وقد أضيفت نصوص لاحقة تصف با يزيد بأنه سلطان، وذلك بعد قيامه بثورة ضد والده مما أدى إلى قتله.

وأوقفته فاطمة بنت نيرفر عن روح يعقوب باشا وزوجته على القبة المشرفة، ويشرف على المصحف الشيخ محمد الدنف، وكتب المصحف محمد اللطيف بخط النسخ.

وفيه مصحف: الجزء 12 المتبقي من هذه الربعة، وقد أوقفتها أوغل خاتون بنت الأمير محمد بن الأمير تمق، وأوقفت الربعة على الزاوية الخاتونية والتي أنشأتها إلى الغرب من الحرم الشريف.

وفيه ربعة السلطان أبي الحسن المريني سلطان المغرب من العام 1331م مكتوب بالخط المغربي الجميل، وكانت موقوفة على المسجد الأقصى، وقد أحضر من المغرب مع الصندوق المزين بالفضة وأشرطة مزخرفة ضربت بطريقة الكبس.

وفيه صندوق مزدوج من الخشب المدهون يحتوي على مصحف شريف كامل من ثلاثين جزءا مكتوب على الورق، أوقفه السلطان مراد خان بن السلطان سليم على المسجد الأقصى المبارك، ويعود للفترة العثمانية.

وفيه النصف الأول من مصحف موقوف على المسجد الأقصى وتم ترميمه سنة 1705م بأمر من والي القدس قرة مصطفى باشا تحت إشراف مفتي القدس الشيخ محمد الخليلي، وبين سطور المصحف ترجمة فارسية للنص القرآني.

مكتبة المسجد الأقصى:

ثم دخلنا مكتبة المسجد الأقصى بجانب المتحف، ولقيت فيها الشيخ يوسف الأزبكي ناظر المخطوطات، وهو من العلماء الباحثين المحققين، وقد حقق عدة مخطوطات، وطبعت مؤلفاته في دار البشائر الإسلامية، وهو على صلة بشيخنا نظام اليعقوبي، وشيخنا عبد الله التوم وغيرهما من شيوخنا وأصحابنا، متحلّ بأدب جم وتواضع ورفق في حديثه، ومعنيّ بإنجاز معجم السماعات القدسية.

وأهدى إليّ بعض مؤلفاته، وبعض مؤلفات الدكتور حسام الدين بن موسى عفانة، وقال: هو أعلم علماء فلسطين، وممنوع من الدخول في بيت المقدس، وقال: وسينسق لي لقاء معه، وناولني فهارس المخطوطات المخزونة في المكتبة لأطلع عليها وأختار منها ما يهمني تصويره، ودلني على بعض المكتبات في باب الناظر حيث يمكن أن أشتري ما أحتاج إليه من الكتب.

ثم صليت الظهر والعصر جمعا في المسجد الأقصى، ورجعت إلى الفندق، واسترحت قليلا.

درس صفحات من صبر العلماء:

استيقظت الساعة الثالثة ودرَّست من كتاب (صفحات من صبر العلماء) قصة رحلة أبي حاتم الرازي، رواها ابنه، قال: سمعت أبي، يقول: أول سنة خرجت في طلب الحديث أقمت سبع سنين أحصيت ما مشيت على قدمي زيادة على ألف فرسخ، لم أزل أحصي حتى لما زاد على ألف فرسخ تركته، ما كنت سرت أنا من الكوفة إلى بغداد فما لا أحصي كم مرة، ومن مكة إلى المدينة مرات كثيرة وخرجت من البحرين من قرب مدينة صلا إلى مصر ماشيا، ومن مصر إلى الرملة ماشيا، ومن الرملة إلى بيت المقدس، ومن الرملة إلى عسقلان، ومن الرملة إلى طبرية، ومن طبرية إلى دمشق، ومن دمشق إلى حمص، ومن حمص إلى أنطاكية، ومن أنطاكية إلى طرسوس، ثم رجعت من طرسوس إلى حمص وكان بقي علي شيء من حديث أبي اليمان فسمعت، ثم خرجت من حمص إلى بيسان، ومن بيسان إلى الرقة، ومن الرقة ركبت الفرات إلى بغداد، وخرجت قبل خروجي إلى الشام من واسط إلى النيل، ومن النيل إلى الكوفة، كل ذلك ماشيا، كل هذا في سفري الأول وأنا ابن عشرين سنة أجول سبع سنين، خرجت من الري سنة ثلاث عشرة ومائتين، قدمنا الكوفة في شهر رمضان سنة ثلاث عشرة والمقرئ حي بمكة، وجاءنا نعيه ونحن بالكوفة، ورجعت سنة إحدى وعشرين ومائتين، وخرجت المرة الثانية سنة اثنتين وأربعين، ورجعت سنة خمس وأربعين أقمت ثلاث سنين، وقدمت طرسوس سنة سبع عشرة أو ثماني عشرة وكان واليها الحسن بن مصعب وكنت أنظر إلى الحسن كأنه محدث أحمر الرأس واللحية عليه قلنسوة حبرة وكنت أشبهه بسنيد بن داود، وربما رأيت الوالي فأظن أنه سنيد، وربما اجتمعا فلا أميز بينهما وفي هذه السنة فتحت لؤلؤة وأنا بطرسوس.

وشأن الخليل بن أحمد الفراهيدي، قال تلميذه النضر بن شميل قوله: أقام الخليل في خُصٍّ من أخصاص البصرة، لا يقدرُ على فَلْسَيْنِ، وأصحابه يكسبون بعلمه الأموال. وكان للخليل راتبٌ على سليمان بن حبيب بن المهلَّب بن أبي صُفْرة الأزدي، وكان والي فارس والأهواز، فكتب إليه يستدعيه، فكتب الخليلُ جوابه:

أبلِغْ سليمانَ أني عنه في سَعَةٍ وفي غنى غيرَ أني لستُ ذا مالِ

شُحاً بنفسي أني لا أرى أحداً يموتُ هُزْلاً ولا يبقى على حالِ

الرزقُ عن قَدَرٍ لا الضَّعفُ ينقُصُهُ ولا يزيدك فيه حَوْلُ محتالِ

 

والفقر في النفس لا في المال نعرفُهُ ومثلُ ذاك الغنى في النفسِ لا المالِ

فقطع عنه سليمان الراتب، فقال الخليل:

إنَ الذي شقَّ فمي ضامنٌ للرزقِ حتى يتوفَاني

حرمتني خيراً قليلاً فما زادك في مالك حرماني

فبلغَتْ سليمان، فأقامته وأقعدته، وكتب إلى الخليل يعتذر إليه، وأضعف راتبه.

وقصة أبي علي القالي، قال أبو نصر هارون بن موسى: كنا نختلف إلى أبي علي القالي البغدادي رحمه الله، وقت إملائه (النوادر) بجامع الزهراء في قرطبة، ونحن في فصل الربيع. فبينما أنا ذات يوم في بعض الطريق، إذ أخذتني سحابة، فما وصلت إلى مجلسه رحمه الله إلا وقد ابتلت ثيابي كلها! وحوالي أبي علي أعلام أهل قرطبة، فأمرني بالدُّنوِّ منه، وقال لي: مهلاً يا أبا نصر، لا تأسف على ما عرض لك، فذا شيء يضمحل عنك بسرعة بثياب غيرها تبدلها. وقال أبوعلي: قد عرض لي ما أبقى بجسمي ندوباً تدخل معي القبر! ثم قال: أنا كنت أختلف إلى ابن مجاهد رحمه الله، فادَّلجت إليه لأتقرب منه. فلما انتهيت إلى الدرب الذي كنت أخرج منه إلى مجلسه، ألفيته مغلقاً وعسر علي فتحه، فقلت: سبحان الله! أبكر هذا البكور، وأغلب على القرب منه!! فنظرت إلى سرب بجنب الدار فاقتحمته، فلما توسطته ضاق بي ولم أقدر على الخروج! ولا على النهوض! فاقتحمته أشد اقتحام، حتى نفذت بعد أن تخرقت ثيابي! وأثر السرب في لحمي حتى انكشف العظم! ومنّ الله عليّ بالخروج، فوافيت مجلس الشيخ على هذه الحال، فأين أنت مما عرض لي؟! وأنشدنا:

دببت للمجد والساعون قد بلغوا جهد النفوس وألقوا دونه الأُزرَا

وكابدوا المجد حتى مل أكثرهم وعانق المجد من أوفى ومن صبرا

لا تحسب المجد تمراً أنت آكله لن تبلغ المجد حتى تلعق الصَّبِرا

قال أبو نصر: فكتبناها قبل أن يأتي موضعها في (نوادره)، وسلاني بما حكاه، وهان عندي ما عرض لي من بلل الثياب، واستكثرت من الاختلاف إليه، ولم أفارقه حتى مات رحمه الله تعالى.

درس إحياء العلوم:

وبعد العصر درست من الإحياء عن الموت وقصر الأمل، حديث عبد الله بن عمر وقول علي بن أبي طالب، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ إذا أصبحت فلا تحدث نفسك بالمساء وإذا أمسيت فلا تحدث نفسك بالصباح وَخُذْ مِنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ وَمِنْ صِحَّتِكَ لِسَقَمِكَ فإنك يا عبد الله لا تدري ما اسمك غدا، وروى علي كرم الله وجهه أنه صلى الله عليه وسلم قال إِنَّ أَشَدَّ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ خَصْلَتَانِ اتِّبَاعُ الْهَوَى وَطُولُ الْأَمَلِ فَأَمَّا اتِّبَاعُ الْهَوَى فَإِنَّهُ يَصُدُّ عَنِ الْحَقِّ وَأَمَّا طُولُ الْأَمَلِ فَإِنَّهُ الحب للدنيا ثم قال: ألا إن الله تعالى يعطي الدنيا من يحب ويبغض وإذا أحب عبدا أعطاه الإيمان، ألا إن للدين أبناء وللدنيا أبناء فكونوا من أبناء الدين ولا تكونوامن أبناء الدنيا، ألا إن الدنيا قد ارتحلت مولية، ألا إن الآخرة قد ارتحلت مقبلة، ألا وإنكم في يوم عمل ليس فيه حساب، ألا وإنكم توشكون في يوم حساب ليس فيه عمل.

وأحسست في عيني بألم شديد، فرجعت إلى الفندق واسترحت.

ليلة السابع والعشرين:

وأفطرنا في الفندق، واسترحنا قليلا، وخرجنا حوالي الساعة التاسعة والربع إلى المسجد في طريق مزدحم بالمتوافدين إليه إحياء لهذه الليلة المباركة، ازدحاما ربا على كل تقدير وحسبان، مضاعفا على الحشد المتجمهر لصلاة الجمعة أضعافا مضاعفة، ولما دنونا من باب حطة فإذا بالناس مرتجعين منه لأنه أغلق من كثرة الزحام، وأنه ليس موضع فارغ في المسجد من تلك الجهة، فدفعنا من باب إلى آخر حتى رُمينا إلى باب الغوانمة في تكتل من الناس يدب دبيبا، ومحتقن احتقانا، وخفنا أن نصادفه مغلقا، فتفوتنا الصلاة، وحمدنا الله إذ ألفينا أنفسنا في داخل المسجد زائلا عنا كمدنا، ورأيت فسحة في ممر بين الناس بجانب المصطبة أمام باب القطانين، فقمت فيها مصليا العشاء والتراويح والوتر.

وأطال الإمام القنوت في الوتر إطالة لم أشهد مثلها في حياتي، ولما قضيت الصلاة اتجهت إلى ساحة قبة الصخرة للدرس أكابد الازدحام مندسا بين صفوف الرجال والنساء اندساسا، ووصلت إلى موضع الدرس وإذا به قد ألغي، فاتجهنا إلى الفندق في سير بطيئ أخرنا تأخيرا.

مجلس مع النساء:

وعقد لي مجلس مع النساء للإجابة عن أسئلتهن عن حجاب المرأة، وعورتها، والنقاب، وصلاة المرأة في الخارج، وهل يجوز للمرأة أن تصلي وعيون الرجال تقع عليها، وأشياء تتعلق بشؤونهن.

انظر الحلقة 13 هــــنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين