التربية الإسلامية وتحديات القرن الحادي والعشرين -5-

 

أخطار الداخل:

منذ أن قام رسول الله صلى الله عليه وسلم مستجيباً لأمر ربه عز وجل بدعوة الناس إلى رسالة الإسلام والحرب مستمرة ضده....

كانت طلائع الخطر من الخارج تتمثل في كفار قريش... ثم أخذت الدائرة تتسع كلما قويت شوكة الإسلام، فإذا بها تشمل أكبر قوتين في ذلك الزمان: الفرس والروم.

.. وهكذا استمرت رحى الحرب دائمة حتى هذه اللحظة التي نكتب فيها، وإن تبدلت أشكال هذه الحرب ومواقعها وأساليبها.

كل هذا صحيح ... فهناك دار إسلام ... ودار حرب.

ولكن ... هل صحيح أن الخطر لا يأتي إلا من الخارج؟ ... كلا، ذلك أن هناك أخطاراً عدة تأتينا كذلك من الداخل:

1- فهناك فئه من المشتغلين بالتربية تنكر على التربية الإسلامية هويتها ، وتنكر عليها حق الوجود، وهؤلاء فريقان:

فريق تمثل نموذج الحضارة الغربية في النهج والتفكير فأصبح الإسلام عنده مجموعة (شعائر) تؤدَّى دون أن يتحول إلى منهج في النظر والتفكير والمعاملات، فالتربية عند هؤلاء – كما سبق أن بينا من قبل – مثلها مثل سائر العلوم لا دين لها.

وفريق آخر قد يكون تمثل نموذج الحضارة الغربية، وقد لا يكون، وهو في الحالة الثانية لا يرى الإسلام بديلاً، وإنما يرى البديل في اتجاه آخر قد يبدو رافضاً لنموذج الحضارة الغربية، ولكنه في الحقيقة إنما يرفض فقط وجهها الرأسمالي ليتبنى وجهاً لها آخر يجعله يتعامل مع (الدين) كظاهرة تاريخية، مما قد يلتبس على كثيرين عندما يستمع إليهم، فقد يذكرون الإسلام وأنه يأمرنا بكذا وكذا ..وقد يذكرون فقهاء عظاماً ويحنون لهم الرأس تقديراً وإعجاباً، وترد في أحاديثهم استشهادات من أقوالهم، ولكنهم في كل ذلك يصدرون عن أن الإسلام حضارة احتلت فترة من التاريخ مضت وأن المصادر الإسلامية هي (تراث) نأخذ منه ونترك، ونفسره وفقاً لأبعاد الزمان والمكان... وهكذا.

ويظهر موقف هؤلاء عندما تطرح المناقشة قضية في القرآن الكريم أو السنة النبوية يريد باحث أن يدرسها من منظور التربية الإسلامية، إنهم لا يجرؤون على الجهر بحقيقة رأيهم، وإنما يتحايلون بدعاوى – تبدو علمية ظاهراً – بأن البحث التربوي في القرآن والسنة أمامه محاذير ومزالق لا حصر لها، وأن الباحث هنا لابد أن تتوافر فيه كذا وكذا من الاستعدادات، مما يجعل الأمر يبدو مستحيلاً ومن ثم فالأفضل بحث هذا الموضوع أو ذاك من خلال (مؤسسات) أو (مفكرين)..

إن هؤلاء ينسون أن مؤسسات التربية الإسلامية ومفكريها إنما هي (فروع) من أصل كبير هو القرآن والسنة، فكيف تتم دراسة الفروع قبل أن تدرس الأصول؟

إن ما نرجحه – والله أعلم – أنهم يهدفون إلى سحب البحث إلى دائرة يستطيعون على أرضها أن ينقدوا ويعترضوا وينكروا ويلغوا، أما لو ظل في دائرة القرآن والسنة، فإن الإنكار والاعتراض والحذف والنقد سوف تصبح أموراً مستحيلة.

2- وعقب حرب أكتوبر تشرين الأول 1973  دخل العالم العربي حقبه تاريخية درج كثيرون على تسميتها بالحقبة النفطية، حيث تدفق المال على دول الخليج العربي بصفة خاصة، مما جعلها قوة جذب لقوى عاملة من شتى البلدان، ومنها بطبيعة الحال بلدان عربية، وخاصة تلك التي كانت تمر بضائقة مالية اقتصادية، حتى لقد سميت بلدان النفط ببلدان اليسر، والبلدان المصدرة للعمالة ببلان العسر.

في مقدمة البلدان النفطية احتلت المملكة العربية السعودية وضعاً مميزاً، فمن حيث المساحة والحجم كانت هي الأكبر، مما يجعلها مساحة أوسع لاستقطاب العمالة لمواجهة العديد من مشروعات عملاقة للتنمية والنهضة. وأهم من هذا أنها بلد الحرمين: المسجد الحرام والمسجد النبوي، وهي الأرض التي ظهرت عليها رسالة الإسلام، وولد فيها رسوله صلى الله عليه وسلم... وغير هذا وذاك من أسباب جعلت منها قوة ذات طبيعة إسلامية تتميز بها عن سائر البلدان.

وكان لابدَّ لمظاهر النهضة والتقدم أن تنال العلوم والدراسات الإسلامية، ومنها بطبيعة الحال التربية الإسلامية.

وهكذا بدأنا نرى كثيرا من الكتاب والكتابات التربوية الإسلامية، وخاصة من العاملين الوافدين في كليات التربية والمعلمين.

ولا نريد أن ندَّعي بما ليس من حقنا في الكشف عن النوايا، ولكنا في الوقت نفسه لا نستطيع أن نغض الطرف عن القول، بأن المساحة التربوية قد عرفت – نتيجة لما سبق – قدراً من الكتابات في التربية الإسلامية انطلق من مجرد (المسايرة)، وأخشى أن أقول وبعضاً من مظاهر (المتاجرة)، وأتاح هذا للبعض أن يغمز ويلمز الكتابات التربوية الإسلامية، ويدَّعي أن رائحة النفط تفوح منها ولا نغالي إذا قلنا: إن هذا القطاع يمثل صورة من صور الخطر على التربية الإسلامية وتحدياً لابدَّ من مواجهته.

3- وهناك نفر من كتاب التربية الإسلامية، قد تمتلئ قلوبهم بالحب والإخلاص، وتجري في عروقهم الحمية، لكن التربية الإسلامية تتحول لديهم إلى دعوة تبشيرية تمتلئ بعبارات تثير انفعالات دون أن تثير أفكاراً، قد تهز القلوب، لكنها لا تحرك العقول، ألفاظها ذات رنين عال. تعميماتها كاسحة... يسهل عليها إصدار الأحكام قبل أن يتوافر الأدلة الكافية، إذا دقق القارئ، فقد لا يرى وصلاً قوياً بين ما يساق من مقدمات وما ينتهون إليه من نتائج، ومثل هذا المنهج قد يصلح في المخاطبة الشفوية لبسطاء الناس، وفى المناسبات، لكنه لا يبني علماً ولا يشق طريقاً منهجياً سليماً.

مشكلات البنية العلمية:

وإذا كانت تلك الأخطار – التي أشرنا إليها تشير إلى تحديات تجيء من (بشر)، فإن هناك مشكلات تشكل تحديات تتصل بالبنية العلمية للتربية الإسلامية نفسها، ولعل في مقدمة تلك المشكلات: المشكلة الخاصة بالمفهوم والتي أفردنا لها جزءاً خاصاً نظراً لأهميتها المركزية، مما يجعل منها (مفرخة) لكثير من المشكلات.

ومنها القضية الخاصة بموقع التربية الإسلامية على خريطة الإعداد المهني للمعلم في وطننا العربي.

صحيح أن هناك أقطاراً تحتل فيها التربية الإسلامية موقعها على هذه الخريطة كما نرى في كليات التربية بالمملكة السعودية والكويت وهناك غيرها مما لا نعلم، لكن هناك أقطاراً لا تعترف بضرورتها على هذه الخريطة، حيث يكتفى منها بما قد لا يزيد عن محاضرة أو محاضرتين في مقرر تاريخ التربية فتجيء وكأنها تمثل مرحلة تاريخية مضت وانتهت.

وإذ لا نملك –مع الأسف–بيانات تتيح لنا التحدث عن كثرة من البلدان العربية، إلا إننا يمكن أن نسوق مصر مثالا حيث فيها ما قد يزيد على الستين كلية لإعداد المعلم، لا يوجد في أي منها مقرر بهذا الاسم باستثناء كلية التربية بجامعة الأزهر.

والغريب أننا نجد عكس ذلك في مواقع أكاديمية أخرى، ففي كليات الحقوق، مثلاً حيث إعداد رجال القانون تدرس الشريعة الإسلامية ويدرس الفقه الإسلامي، على أساس أن كثيراً من القوانين المعمول بها في البلاد تصدر عن الشريعة فلا يجوز إذن ولا يصح أن يتخرج رجل القانون جاهلاً بها.

وهكذا نجد نفس المنطق في كليات الآداب في قسم الفلسفة؛ حيث نجد: علم الكلام والتصوف الإسلامي والفلسفة الإسلامية، ومع ذلك فإن المعلم الذي نقول له: إن (الثقافة) هي مصدر التربية وموضوعاتها، لا نتيح له فرصة دراسة التربية الإسلامية المعبرة عن (وجهة) الثقافة في هذا المجتمع، فكثير من عناصر الثقافة ومفرداتها وأساليبها وقيمتها مشبعة بالعقيدة الإسلامية، ونتاج واضح للإرث الحضاري الإسلامي.

كذلك نشير إلى ما سبق أن أشرنا إليه من غياب قناة خاصة لإعداد الباحث في التربية الإسلامية. وهي نتيجة طبيعية لغياب هذا النسق المعرفي، وهنا نعيد التأكيد على ضرورة أن يشمل هذا الإعداد جانبيه الأساسين: الثقافة الدينية الإسلامية، والعلوم التربوية والنفسية.

ولا يكون ذلك بإنشاء قسم متخصص فيها في المرحلة الجامعية الأولى، ولا يكفي أن يوجد مقرر يحمل اسمها في هذه المرحلة، كما هو الأمر في بعض الأقطار؛ إذ سوف تكون هنا مجرد استكمال للثقافة التربوية والنفسية للمعلم العربي.

لكن إعداد الباحث يوجب أن تكون هناك درجة جامعية في مرحلة الدراسات العليا(دبلوم) ؛ حيث تتاح الفرصة كي تقدم مجموعة مقررات متخصصة تكون من بينها مقررات في الثقافة الدينية، إذ حتى لو اتحنا الفرصة لأن يكون هناك مقرر دراسي في مرحلة الدراسات العليا فسوف تبرز نفس المشكلة، وهي غياب الثقافة الدينية.

مشكلة أخرى تبرز في هذا المجال، ألا وهي مشكلة المنهجية؛ إذ يذهب بعض المتحمسين إلى القول بأنه نظراً للطبيعة الخاصة للتربية الإسلامية فلابد وأن يكون لها منهج بحثي خاص؛ وهذا ما يستفز آخرين فيؤكدون على أن (المنهج العلمي) واحد، له مفهوم واحد. وتعدد أساليبه إنما يعود إلى طبيعة الموضوع نفسه، فدراسة موضوع عن (نبات) تستلزم أسلوباً يختلف عن دراسة اتجاه ما للرأي العام، وهذه وتلك تختلف عن دراسة فترة من تاريخ أمة عن الأمم... وهكذا.

والحق أننا إذا نظرنا إلى التربية الإسلامية في مصدريها الأساسيين: القرآن والسنة فسوف نجد أننا بالفعل أمام (خصوصية منهجية) تجعل من المناسب التعويل على نفس المنهج الذي يستخدمه الفقهاء في دراستهم لهذين المصدرين، وإن كان هذا لا يمنع استخدام بعض الأساليب التي تستخدم في علوم أخرى، مثل (تحليل المضمون)، والتحليل الفلسفي عندما نكون إزاء موضوع يتعلق بدراسة مفهوم تربوي بعينه من خلال القرآن الكريم أو السنة أو كليهما.

لكننا إذا كنا بإزاء دراسة فترة من تاريخ التربية الإسلامية، أو مؤسسة تعليمية في هذا التاريخ، أو شخصية، أو اتجاه فكري، أو تطور أسلوب، فلابد من استخدام المنهج التاريخي بقواعده وخطواته المصطلح عليها.

وإذا كنا بصدد دراسة وضع خاص بالتربية الإسلامية في الواقع المجتمعي المعاصر، فلابد هنا كذلك من اصطناع المناهج والأساليب العلمية المستقر الرأي عليها في دراسات الواقع المجتمعي.

ولا شك أن هذا يرتبط بالضرورة بتحديد مجال التربية الإسلامية، فهل هي دراسة أصولية تقتصر على استنباط ما يمكن استنباطه من القرآن والسنة؟ أم هي دراسة للتربية في الحضارة الإسلامية؟ أم هي دراسة لفلاسفة ومفكرين عاشوا في العهود الإسلامية؟ أم هي دراسة للموقف الديني من قضايا التربية التي نعيشها؟ الحق إنها هي كل ذلك....

فالأصل – في رأينا – إنها دراسة للموقف الديني الإسلامي من قضايا التربية التي نعيشها، ومثل هذا يقتضي بالضرورة الاعتماد أولاً على القرآن والسنة النبوية. والقرآن والسنة ليسا مجرد نصوص، إنما هما حياة تشخص في (سلوكيات) و(اجتهادات فكرية) مما يوجب علينا أن ندرس اجتهادات الفلاسفة والمفكرين، وكذلك كيف طبق المسلمون ما فهموه من القرآن والسنة في معاشهم الدنيوي؟

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين