حدث في التاسع عشر من صفر

 

في التاسع عشر من صفر من عام 898 ولد في اسكليب، مفتي السلطنة العثمانية محمد بن محمد بن مصطفى العمادي المعروف بأبي السعود وصاحب التفسير المعروف باسمه: تفسير أبي السعود.  وهذه الترجمة مستقاة من كتاب خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر للمحبي، ومن مخطوطة في مكتبة جامعة الملك سعود بالرياض تحت رقم 3149 ز.
ولد أبو السعود في بلدة اسكيليب Iskilip التابعة لمحافظة جوروم في شمالي وسط تركية، لأسرة معروفة بالصلاح والعلم، فعمُّ والدته المفسر المؤرخ الفلكي علاء الدين القوشجي، علي بن محمد السمرقندي الرومي المتوفى سنة 879،  وكان والده الملقب بمحيي الدين من المدرسين، وحرص على تعليمه منذ الصغر، وحفّظه وهو صغير كتاب مفتاح العلوم في النحو والأدب والاشتقاق والمعاني والبيان، وهو كتابٌ مشهور أُلفت فيه شروح وحواشي، وهو من تأليف الأديب الشهير سراج الدين أبي يعقوب يوسف بن محمد الخوارزمي الحنفي الشهير بالسكاكي المولود سنة 555 والمتوفي سنة 626، فامتاز أبو السعود منذ صغره بفصاحة العرب، لا يخالط نثره وشعره ركاكة العُجمة، وجاءت براعته الأدبية من هذه التنشئة السديدة، وكان يتكلم العربية والفارسية والتركية. ويبدو أن كتب الشريف الجرجاني، علي بن محمد المولود سنة 740 والمتوفى بشيراز سنة 816، كانت من الكتب المقررة آنذاك لأنه قرأ على والده شرح الجرجاني لكتاب تجريد العقائد للنصير الطوسي، وشرح الجرجاني للمفتاح للسكاكي، وشرحه كذلك لكتاب المواقف في أصول الدين والعقائد لعضد الدين الأيجي المتوفى سنة 756.
تنقل أبو السعود مدرساً في عدد من مدارس إستانبول، ثم إلى مدرسة السلطان محمد في بورصة، ثم إلى إحدى المدارس الثمان الرئيسة في القسطنطينية، ثم ولي قضاء بورصة ثم القسطنطينية ثم قضاء الروم إيلي، ثم عينه السلطان سليمان القانوني قاضياً للقضاة في سنة 944، وفي سنة 951 شغر منصب الإفتاء، ويدعى صاحبه شيخ الإسلام في الدولة العثمانية، فجمع السلطان سليمان رحمه الله العلماء في مجلسه، وأمرهم بالمناظرة، فرجح أبو السعود وتبين فضله واستحق التقديم، فعينه مفتياً فقام بأعباء ذلك المنصب خير قيام على مستوى الدولة وعلى مستوى الأفراد، وهو أطول شيوخ الإسلام مدة، إذ بقي في المنصب فوق 30 سنة، وإذا كان السلطان سليمان يُعرف بالقانوني لما استحدثه من إصلاحات قانونية وتشريعية، فإن المفتى أبا السعود هو الذي اضطلع بهذا الإنجاز الكبير ونظم قوانين البلاد على أساس الشرع الإسلامي، أما على مستوى الأفراد فقد عمل أبو السعود دون كلل لتيسير مصالح العباد وحل مشاكلهم، قال: جلستُ يوماً بعد صلاة الصبح أكتب على الأسئلة المجتمعة فكتبت إلى صلاة العصر ألف وأربعمئة واثني عشر فُتيا.
وكان أبو السعود عالماً عاملاً، وإماماً كاملاً، شديد التحري في فتاويه، حسن التعليق عليها، حاضر الفطنة، جيد القريحة، لطيف العبارة، حلو النادرة، ويعده المؤرخون أعظم علماء الترك وأفضلهم، لم يكن له نظير في زمانه في العلم والرئاسة والديانة، وقد اهتم به فقهاء الأحناف من بعده، فنجد ابن نجيم المصري، زين الدين بن إبراهيم بن محمد، المتوفى سنة 970، ينقل عنه كثيراً في كتابه البحر الرائق في شرح كنز الدقائق، كما نجد فقيه الديار الشامية وإمام الحنفية في عصره الإمام ابن عابدين، محمد أمين بن عمر الدمشقي، المولود سنة 1198 والمتوفى سنة 1252، ينقل عنه كثيراً في حاشيته الشهيرة والمعنونة رد المحتار على الدر المختار، وهو ينقل عن معروضات أبي السعود، وفسَّرها بأنها المسائل التي عرضها على السلطان فأمر بالعمل بها.
وفي أيام أبي السعود انتشر شرب قهوة البُن، وكان لها في أول أيامها مجالس شرب تشبه مجالس الخمر من حيث إدارة الأكواب وتبادل الأنخاب، ولذا حرمها عددٌ من العلماء لهذه الملابسة، وسئل رحمه الله عن حكم شرب القهوة وقد وصف له اجتماع الفسقة على شربها، فأجاب جواباً أشبه بالتوقيعات: ما أكبَّ أهل الفجور على تعاطيه، فينبغي أن يجتنبه من يخشى الله ويتقيه.  وفي هذا قال معاصره الشاعر الحمصي علي جلبي:
أقول لأصحابي: عن القهوة انتهوا ... ولا تجلسوا في مجلس هي فيهِ
وما كان تُركي شربها لكراهة ... ولكن غدت مشروب كل سفيه
وتتحدث بعض مواقع الشيعة على الانترنت أن شيخ الإسلام أبا السعود أفتى السلطان سليمان القانوني بجواز قتل الشيعة، ويتحدث موقع آخر أنه أفتاه كذلك بقتل اليزيديين، ولم أتمكن من مراجعة كتاب فتاويه للتحقق مباشرة من هذين الخبرين، ولا ينقل عنه ابن عابدين في رد المحتار شيئاً في هذا الصدد على كثرة نُقُوله عنه، ولكن ابن عابدين في معرض الحديث عن الشيعة ينقل عنه أن  من سب أبا بكر وعمر ولعنهما فهو كافر. أما الفتوى بقتل اليزيديين فهي - إن صحت - تستند إلى أسباب ومبررات سياسية كوقوفهم إلى جانب أعداء السلطنة، لتعارض ذلك تعارضاً بديهياً مع قاعدة لا إكراه في الدين، وأنا أستبعدها لأن الإمام محمد رشيد رضا رحمه الله يقول في مقالة له في مجلته المنار: وقد اشتُهِرَ أن السلطان سليمان القانوني استفتى شيخ الإسلام أبا السعود في إلزام نصارى الروم إيلي بالإسلام أو إبادتهم؛ لأن بقاءهم متمتّعين بحريتهم في الدين واللغة وجميع الشؤون الاجتماعية خطر على الدولة؛ لأنهم لتعصبهم لا بد أن ينتهزوا فرصة ضعف في الدولة أو تورط في حرب شاغلة فيخرجوا عليها، فلم يفتِهِ أبو السعود بذلك.
ولشاعر الألمان الشهير غوته افتننان عجيب بالإسلام والمسلمين، حتى قال بعضهم إنه أسلم، ونجد غوته الذي جاء بعد أبي السعود بقرنين، يجزل عليه الثناء في قصيدتين مختلفتين في مجموعة غوته المعنونة ديوان حافظ، لأنه لم يُفت السلطان بإحراق ديوان الشاعر حافظ الشيرازي، ولأنه منعه من قتل أحد الشعراء.
ألف أبو السعود مؤلفات حافلة أشهرها تفسير القرآن الكريم المسمى إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم، جمع فيه ما في تفسير البيضاوي، وزاد فيه زيادات حسنة من تفسير القرطبي، والثعلبي والواحدي، والبغوي، وغيرها، إضافة إلى تأملاته الفكرية والعقلية، وهو من التفاسير التي لاقت القبول ويسَّر الله لها الاشتهار، وكَتبَ حواشي على هذا التفسير عددٌ من العلماء في أزمنة مختلفة وأصقاع متباعدة ما بين الشام ومصر وتونس والمغرب. والجدير بالذكر أن السلطان سليمان القانوني سمع أن أبا السعود يكتب تفسيراً للقرآن الكريم فطلب أن يطلع عليه وذلك في سنة 972، وكان أبو السعود قد وصل فيه إلى تفسير سورة ص، فبيضه وأرسله للسلطان الذي استقبله بنفسه وتسلمه بيده وحمد الله أن جعل في مملكته من يكتب مثله، وأمر بمضاعفة مخصصات أبي السعود وزيادة تشريفه، فأكمله في شعبان سنة 973، وأرسله إلى السلطان فتلقاه بالتعظيم والإجلال، ثم وقف السلطان نسختين من التفسير وأرسلتا للحرمين الشريفين، وصدر الإذن للطلاب باستنساخه.
ولأبي السعود كتاب جمع فيه بعض ملازميه جملة صالحة من فتاويه، وكتاب في إنشاء الصكوك وإحكامها اسمه بضاعة القاضي، ورسالة في الفقه حول المسح على الخفين عنوانها حسم الخلاف في المسح على الخفاف، وله رسائل في الأوقاف وتسجيلها، ورسالة في غلطات العوام، وكتب أخرى في الفقه وفي المناظرة، وله شعر جيد منه ميمية قصيدة طويلة اشتُهِرت في حينها، وأعجبت الأدباء، فمنهم من خمسَّها، ومنهم من شرحها، وأورد قدراً واسعاً منها لبيان تمكنه من اللغة والبلاغة:
أبعد سُليمي مطلبٌ ومرامُ ... وغير هواها لوعة وغرام؟!
وفوق حماها ملجأٌ ومثابة ... ودون ذراها موقف ومقام؟!
وهيهات أن يُثني إلى غير بابها ... عنانُ المطايا أو يشد حزام
هي الغاية القصوى فإن فات نيلها ... فكل مُنى الدنيا عليَّ حرام
محوت نقوش الجاه عن لوح خاطري ... فأضحى كأن لم يجر فيه قلام
آنسِتُ بلأواء الزمان وذله ... فيا عزة الدنيا عليك سلام
إلى كم أعاني تيهها ودلالها؟ ... ألم يأن عنها سلوة وسآم
تولت ليال للمسرات وانقضت ... لكل زمان غاية وتمام
فسرعان ما مرت وولت، ولَيتَها ... تدوم ولكن ما لهن دوام
دهور تقضت بالمسرة ساعة ... ويوم تولى بالمسائة عام
فلله در الغم حيث أمدني ... بطول حياة والغموم سهام
أسيح بتيهاء التحير مفرداً ... ولي مع صحبي عشرة وندام
وكم عِشرة ما أورثت غير عُسرة ... ورُبَّ كَلام في القلوب كِلام
فما عشت لا أنسى حقوق صنيعة ... وهيهات أن ينسى لدي ذمام
كما اعتاد أبناء الزمان وأجمعت ... عليه فئام إثر ذاك فئام
خبت نار أعلام المعارف والهدى ... وشب لنيران الضلال ضرام
وكان سرير العلم صرحاً ممرداً ... يناغي القباب السبع وهي عظام
متيناً رفيعاً لا يطار غرابه ... عزيزاً منيعاً لا يكاد يرام
يلوح سنا برق الهدى من بروجه ... كبرق بدا بين السحاب تسام
فجرَّت عليه الراسيات ذيولها ... فخرت عروش منه ثم دعام
وسيق إلى دار المهانة أهله ... مَساق أسير لا يزال يضام
كذا تحكم الأيام بين الورى على ... طرائق منها جائر وتوام
فما كل قِيلٍ قيلَ علمٌ وحكمة ... وما كل أفراد الحديد حسام
وللدهر ثارات تمر على الفتى ... نعيم وبؤس، صحة وسقام
ومن يك في الدنيا فلا يعتبنها ... فليس عليها معتب وملام
أَجدَّك ما الدنيا وما ذا متاعها ... وما ذا الذي تبغيه فهو حطام
هب أنْ مقاليد الأمور ملكتها ... ودانت لك الدنيا وأنت همام
ومتعت باللذات دهراً بغبطة ... أليس بحتم بعد ذاك حمام؟
فبين البرايا والخلود تباين ... وبين المنايا والنفوس لزام
سل الأرض عن حال الملوك التي خلت ... لهم فوق فَرْق الفرقدين مقام
بأبوابهم للوافدين تراكم ... بأعتابهم للعاكفين زحام
تجبك عن اْسرار الشؤون التي جرت ... عليهم جواباً ليس فيه كلام
بأن المنايا أقصدتهم تبابها ... وما طاش عن مرمى لهن سهام
وسيقوا مساق الغابرين إلى الردى ... وأقفر منهم منزل ومقام
وحلوا محلاً غير ما يعبدونه ... فليس لهم حتى القيام قيام
ألمَّ بهم ريب المنون فغالهم ... فهم تحت أطباق الرغام رغام
فسبحان رب العرش ليس لملكه ... تناه وحد مبدا وختام
كان أبو السعود طويل القد خفيف العارضين، غير متكلف في طعامه أو لباسه، يميل لمداراة الناس، وكان ذا مهابة عظيمة وتؤدة شديدة، قلما يقع في مجلسه للكبار المبادرة بالكلام، واسع التقرير سائغ التحرير.
توفي أبو السعود رحمه الله تعالى بالقسطنطينية في الخامس من جمادى الأولى من سنة 982، وكانت جنازته حافلة وصُلِّي عليه في حرم جامع السلطان محمد الفاتح في ملأ عظيم وجمع كثير، وتقدم للصلاة عليه فخر الموالي سنان، ودفن بمقبرته التي أنشأها بالقرب من تربة أبي أيوب الأنصاري رضي الله تعالى عنه، وجاءت وفاته بعد أن توفي حفيده عبد الكريم بن محمد فحزن عليه حزناً شديداً، ودعا الله ألا يَتوفى أحداً من أهل بيته قبله، فاستجاب الله دعاءه وكان أول أهل بيته وفاة.
قال مفتي مكة قطب الدين النهروالي، محمد بن أحمد المتوفى سنة 988، في كتابه عن رحلته إلى بلاد الروم: واجتمعت به في الرحلة الأولى وهو قاضي اسطنبول سنة 943 فرأيته فصيحاً وفي الفن رجيحاً، فعجبت لتلك العربية ممن لم يسلك ديار العرب، ولا محالة أنها مِنحَ الرب ... وأتى نعيه إلى الحرم فنودي بالصلاة عليه من أعلى زمزم، وصُليَّ عليه صلاة الغائب، ورثاه جماعة من أهل مكة.
وكان لأبي السعود رحمه الله أولاد نجباء ساروا على طريقه في طلب العلم وإتقان البلاغة، ومنهم ابنه أحمد المولود سنة 944، والذي درس على والده، وعلى شمس الدين أحمد بن طاش كبرى، صاحب كتاب الشقائق النعمانية، وقد التقى به وأعجب به إعجاباً شديداً، وقال عنه: اجتمعت به في سنة 965، وهو مدرس في مدرسة رستم باشا في إستانبول، فأكرمني وأضافني وباسطني، فرأيت من حفظه وذكائه ما أدهشني وحيرني، مع صغر سنه، وكبر قدره وشأنه، وكان يحفظ  مقامات الحريري، وقرأ لي منها عدة مقامات، ومع ذلك كان ينظم شعراً غريباً بليغاً في أعلى درجات الفصاحة، مع كمال الحسن والملاحة، وأنشدني من لفظه تخميس قصيدة لأبي الطيب المتنبي، وأنه هو الذي خمسها، وقد بقي في حفظي منها هذا البيت:
نشرتُ على الآفاق دُرَّ فوائدي ... وفي سِلْك شعْرِي قد نظمتُ فَرائدي
فمن ذا يُضاهيني وتلك مَقاصدي ... وما الدهرُ إلا من رُواة قصائدي
إذا قلتُ شعراً أصبح الدهرُ مُنشِدَا
وكان لأبي السعود ولد اسمه كذلك محمد فهو محمد بن محمد بن محمد، وكان فاضلاً بارعاً، ترقى في المناصب حتى عيِّن قاضياً للقضاة بدمشق في 965، وكان محمود السيرة مشهوراً يالسخاء، ما جاء من الترك أسخى منه، وكان ودوداً مر بسوق الأساكفة في دمشق، فوقفوا وشكوا إليه ما هُم فيه من همِّ العوارض، أي الضرائب الإضافية، فقال لهم: عليَّ جميع ما عليكم منها، فدفعها عنهم جميعاً دون تمييز بين غني وفقي، فبلغت 500 دينار، وتوفي في حياة أبيه رحمهما الله تعالى.
وله ولد اسمه مصطفى، بلغ من العلم أن عينه الصدر الأعظم مدرساً في إحدى مدارس إستانبول الثمان الكبار، ثم عزلوه منها بعد ما توفي والده كيداً وحسداً، وما لبث أن أعيد إليها، ثم تقلد قضاء سالونيك، وتقلب في المناصب بين عزل وتعيين، إلى أن توفي في حدود 1007، ودفن بجوار أبيه في مقبرة أبي أيوب الأنصاري.
ومن تلاميذ أبي السعود المحقق العالم الأمير حسين باشا بن رستم المعروف بباشا زاده الرومي نزيل مصر، المولود في بلغراد سنة 958، والمتوفى بالقاهرة سنة، وكان أبو السعود آخر شيوخه وعلى يده التزم بطلب العلم. ومن تلاميذه كذلك حامد أفندي مفتي السلطنة من بعده والمتوفى سنة 985، ومن تلاميذه مصطفى الجنابي،  مصطفى بن حسن، المتوفى سنة 999، ويقال له السعودي نسبة إلى أستاذه أبى السعود

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين