الفهم الحرفي للنصوص قد يفتح أبوابا للتكفير-10-

 

هذه بعض البحوث المنتقاة من كتاب فضيلة الشيخ محمد أمين محمد الحامد " الميزان" الذي ناقش فيه بعض نواقض الإيمان في كتابه الذي نشرناه كاملا على موقع رابطة العلماء السوريين. وهذا رابطه:

http://islamsyria.com/site/show_library/1031%20

وقد سبق في الحلقة السابقة حديثه عن خطر التفسير الحرفي للنصوص، وضرب مثالا لذلك في تفسير قول الله تعالى: ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون)

ونحب أن نذكر القراء بأن ما ينشر في هذا الموقع لا يعبر دائما عن موقف علماء الرابطة من كل ما ينشر ، بل هو اجتهاد شخصي ينسب لقائله .

ب - المثال الثاني :

وهذا مثال آخر يبين مساوئ هذه الطريقة في فهم النصوص، وما فيها من عجز عن تفسير أشد النصوص وضوحاً وسهولة. قال تعالى : (مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ * أُولَ?ئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ ? وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [سورة هود الآيات 15،16].

فإذا تساءلنا الآن: من هو الذي لا يريد الدنيا من البشر، والإرادة هنا إما أنها تعني : الحب، أو تعني : السعي في الاكتساب، فمن هو الذي لا يحب الدنيا بعد أن زيَّنها الله تعالى لنا بنص القرآن . وانظر في قوله تعالى : (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ? ذَ?لِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ? وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ) [سورة آل عمران آية 14].

ومن هو الذي لا يسعى للاكتساب والحصول على الرزق ، سواء كان هذا الاكتساب ضرورة أم كان رغبة في الازدياد ، ومع احترامنا للزهد والزاهدين ، إلا أن الزهد لا يعني أبداً كراهية ما يزهد به صاحب الزهد ، إنما يعني منع نفسه منه بحرمانها مما تشتهيه .

فإذا كان الناس جميعاً يحبون هذه الحياة ويسعون فيها للارتزاق ، فإن هذه الآية تحكم عليهم بحرفيتها ، أنهم ليس لهم في الآخرة إلا النار . وهذا المعنى الواضح هو الذي تدل عليه هذه الآية بشكل مباشر. وهذا يعني أن جميع المؤمنين والأتقياء والصالحين والصدِّيقين سيدخلون جهنم ، لأنهم يحبون هذه الحياة ويحبون زينتها . وذلك عندما نأخذ المعنى الحرفي للآية على إطلاقه .

لكن هذا المعنى لا يمكن أن يكون مقصوداً أبداً ، إذن لابد من تأويل هذه الآية ، بأن المقصود منها من لم يكن مؤمناً بالله واليوم الآخر، أما من كان مؤمناً بالله إيماناً صحيحاً ، فإنه في الآخرة لا يكون أبداً من هؤلاء الذين ليس لهم إلا النار، بل سيحاسب بقضاء عادل يتم فيه وزن حسناته وسيئاته، ثم يدخل الجنة إما مباشرة أو بعد قضاء فترة من العقوبة .

هذا هو التأويل الأول في هذه الآية ، وسيأتي تأويلان آخران لا بد منهما، ولا ينقصان عن هذا التأويل في الأهمية.

أحدهما : أن الله سبحانه وتعالى وعد كل من أراد الحياة الدنيا وزينتها ، أن يعطيه كل شيء يريده من هذه الحياة ومن زينتها ، وهذا هو ما يدل عليه لفظ : ( نوف إليهم أعمالهم فيها ) .

والأمر الثاني: أن الآية تزيد على ذلك بالتعهد لهؤلاء بأن لا ينقص عليهم شيء مما يطلبونه ، وهذا هو ما يدل عليه لفظ : ( وهم فيها لا يبخسون ) .

لكن الواقع المشاهد يدل على أن كل إنسان مهما كان غنياً أو مقتدراً ، فإنه ينقصه دائماً شيء من مطالب هذه الحياة، حيث لا تكتمل مطالب هذه الحياة لأحد حتى لو كان ملكاً، ولذلك لابد من التأويل هنا مرة أخرى، بأن المقصود من التوفية هو إعطاؤه أكثر ما يريد، وليس جميع ما يتمناه، لأن بعض الناس قد يتمنى أن يتزوج مثلاً أجمل امرأة في العالم، أو بامرأة جميلة عند غيره ، وهذا أمر لا يمكن تحقيقه دائماً .

ولذلك لابد من تأويل التوفيه المذكور في هذه الآية على معنى: أن الله تعالى يعطي هذا العبد أكثر المطالب من طعام وشراب وسكن وزوجة وولد ومكانة بين الناس ، وهذا هو المشاهد عند أكثر الذين يطلبون هذه الحياة ، أي إن هذه التوفية لم تعد على إطلاقها، بل هي مقيدة قيداً يستغرق معظمها ولا يبقى لها إلا ما هو أساسي، وكذلك لابد من تأويل البخس في قوله تعالى : ( وهم فيها لا يبخسون ) ، بنفس هذه الطريقة ، أي لا ينقص عليهم شيء أساسي يطلبونه بصفة عامة.

وهكذا أصبح لدينا الآن تأويلان جديدان في هذه الآية ، وهما : تأويل التوفية ، وتأويل عدم البخس، وإذا أضفنا إليهم التأويل الأول ، وهو أن هذه الآية ليست على إطلاقها ، بل هي مخصوصة بالذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر . فقد أصبح لدينا الآن تأويلات ثلاثة ، اثنان منهما في الآية الأولى ، وواحد منهما في الآية الثانية .

رأي الجمهور :

ولا بد من الإشارة هنا إلى رأي جمهور المفسرين لهاتين الآيتين ، فهم يرون أن هذا الوعد ليس على إطلاقه لجميع الناس ، بل هو لفريق خاص ممن أراد الله تعالى بحسب مشيئته أن يحقق لهم كل ما يريدون ، فالآية هنا هي من العام الذي أريد به الخصوص ، فهي إذن مؤولة بفريق من الكافرين ممَّن أراد الله تعالى أن يستدرجهم ، فأعطاهم ما يريدون ليس حباً وإنما استدراجا ، حيث قد كان في سابق علمه أن مصير هؤلاء إلى جهنم .

ويشمل هذا الفريق كبار القوم ووجهاءهم وأغنياءهم من السادة العتاة الذين يتحكمون بالمجتمعات ويصدونها عن الإيمان بالدين واتباع المرسلين ، ولذلك فإن ورود هذه الآيات هو في مساق التهديد لهذا الملأ ، المفتون بسيادته وغناه ورفاهية دنياه ، بأن لا يغتروا بهذا العطاء وأن لا يظنوا أنه دليل على الرضوان والقبول.

الحكمة المقصودة من إيراد هذه الآيات :

لكننا إذا تساءلنا عن الحكمة من إيراد هذه الآيات ، فإننا سنصل إلى حقيقتين هامتين بحسب ما أظن، وهما حقيقتان يمكن الوصول إليهما عن طريق الاجتهاد والبحث العقلي.

الحقيقة الأولى : من أجل تثبيت المؤمنين : وهذا يعني أن ورود هذه الآيات كان ضرورياً ، من أجل تثبيت الضعفاء من المؤمنين الذين لا يملكون شيئاً من متاع هذه الحياة ، حتى لا ييأسوا ويظنوا أن الله تعالى لا يأبه بهم ولا يتولاهم ، بل هم أولياؤه حتى لو كانوا محرومين من هذا المتاع.

والحقيقة الثانية : من أجل إثبات أن هذا العطاء من الله تعالى : - وهذه حقيقة هامة للكافرين- من أجل إفهامهم أن ما عندهم من السيادة والرفاهية ، هي عطاء من الله تعالى لهم ، أي هي ليست من كسبهم بحسب ما هو ظاهر ، وليس المقصود هنا هو فقط أن الله تعالى قادر على سلبها منهم إذا أراد ، بل المقصود الأساسي أن هذا العطاء ليس دليلا على رضاه عنهم ولا عن دينهم ، لأنهم كانوا يعتقدون أن هذه النعمة التي أعطاها ربهم لهم ، هي دليل على رضاه عنهم وعن دينهم.

وهذا ما كان يراه جميع الناس حتى المؤمنون منهم ، بل لقد صرح كثير من الكافرين من أصحاب هذه النعماء، أنهم يعتقدون أن هذا من الرضا الإلهي عنهم في هذه الحياة الدنيا، وكذلك هو الذي سيعود إليهم في الدار الآخرة فيما لو كان وجودها حقيقياً ، وهذا يدل على شدة الإيمان بهذا الرضى الإلهي عنهم، بسبب ما آتاهم الله تعالى من نعمائه في هذه الحياة.

قال تعالى على لسان أحد الرجلين الذين آتاهما جنتين ، وكان أحدهما مؤمن والآخر كافر ، وكان من قول الكافر وهو يرد على قول المؤمن (وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى? رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِّنْهَا مُنقَلَبًا ) [سورة الكهف آية 36]. وقوله: ولئن رددت إلى ربي ...... أي هذا على افتراض وجود الآخرة ، أي لو كان ذلك المعاد زعماً صحيحاً ، فسأجد خيراً منها منقلبا .

ولذلك فإن ورود هذه الآية كان ضرورياً لكشف زيف هذه الحقيقة ، التي تقول : إن وجود النعمة دليل على الرضا ، وهي حقيقة خاطئة، لكنها كانت سائدة ومستقرة في جميع النفوس البشرية ، فكان لا بد من إبطالها وبيان أن لا علاقة لها نهائياً بالرضا الإلهي .

انظر الحلقة التاسعة هــــنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين