ذكرٌ جميل لأيامٍ في القدس والخليل (13)

تسحرنا، وصلينا الفجر، واضطجعنا للنوم، واستيقظت في الساعة التاسعة واغتسلت، وقرأت شيئا من القرآن الكريم، وخرجت مع أهلي وبناتي في الساعة الحادية عشرة والنصف إلى المسجد الأقصى نزور بعض مرافقها.

مقام البديري:

دخلنا المسجد من باب حطة منعرجين منه على الساحة أمام باب الناظر، وزرنا على يسار الخارج منه مقام سيدنا العلامة الأوحد والفهامة الأمجد مولانا الشيخ محمد بن بدير بن محمد بن محمود بن حبيش الشافعي المقدسي من عائلة البديري، توفاه الله في القدس الشريف رحمه الله عام 1220هـ قدس الله سره.

?قال عنه الجبرتي في (عجائب الآثار في التراجم والأخبار) ما ملخصه: ومات العمدة الإمام الصالح الناسك العلامة والبحر الفهامة الشيخ محمد بن بدير بن محمد بن محمود بن حبيش الشافعي المقدسي، قدم به والده إلى مصر في حدود الستين ومائة وألف، فقرأ القرآن واشتغل بالعلم وحضر دروس الشيخ عيسى البراوي فتفقه عليه، وحلت عليه أنظاره وحصل طرفا جيدا من العلوم على الشيخ عطية الأجهوري ولازمه ملازمة كلية، وبعد وفاة شيخه اشتغل بالحديث فسمع صحيح مسلم على الشيخ أحمد الراشدي، واتصل بشيخنا الشيخ محمود الكردي فلقنه الذكر ولازمه وحصلت منه الأنوار، وانجمع عن الناس ولاحت عليه لوائح النجابة، وألبسه التاج وجعله من جملة خلفاء الخلوتية، وأمره بالتوجه إلي بيت المقدس فقدمه وسكن بالحرم وصار يذاكر الطلبة بالعلوم ويعقد حلقة الذكر، وله فهم جيد مع حدة الذهن وأقبلت عليه الناس بالمحبة ونشر له القبول عند الأمراء والوزراء وقبلت شفاعته مع الانجماع عنهم وعدم قبول هداياهم، وفي سنة 1182 كتب إلى شيخنا السيد مرتضى يستجيزه فكتب له أسانيده العالية في كراسة وسماها قلنسوة التاج، ولم يزل يملي ويفيد ويدرس ويعيد واشتهر ذكره في الآفاق وانعقد على اعتقاده وانفراده الاتفاق وسطعت أنواره وعمت أسراره وانتشرت في الكون أخباره وازدحمت على سدته زواره إلى أن أجاب الداعي ونعته النواعي، وذلك سابع وعشرين شهر شعبان من السنة (1220) ولم يخلف بعده مثله.

مسجد البراق:

وزرنا قبة أمام باب السلسلة مكتوبا عليها دار القرآن الكريم، وبعد باب السلسلة بخطوات علامة مسجد البراق الشريف، وهو عند باب المغاربة المغلق، ويعود تاريخه إلى الفترة الأمويّة، وهبطنا نحو أربعين درجةً حجريّة لنصل إلى أرضية المسجد، ومكثنا في داخل المسجد قليلا.

متحف الآثار الإسلامية:

وبجانبه متحف الآثار الإسلامية، دخلناه الثانية عشرة والربع، أنشئ بقرار من المجلس الإسلاميّ الأعلى سنة 1923، بهدف حفظ الآثار الإسلاميّة في القدس الشريف، يضمّ العديد من القطع الأثريّة والفنّيّة وأشياء كثيرة من بقايا المباني القديمة والزخارف العتيقة.

ومما شاهدناه اليوم فيه: بقايا منبر المسجد الأقصى الذي حرق على يد أحد المتطرفين أسترالي الجنسية، ويدعى مايكل ديتيس روهني عام 1969، وقد صنع بدمشق عام 1168م زمن نور الدين زنكي، وأمر بإحضاره إلى القدس السلطان صلاح الدين الأيوبي بعد تحريرها من أيدي الصليبيين عام 1180م.

ومقرنصات خشبية كانت تعلو مدخل منبر صلاح الدين الأيوبي تعود للفترة العثمانية، ورأس منبر من الخشب المزخرف بنقوش نباتية ملونة بين الأحمر والأصفر والأخضر، يعود للفترة العثمانية، كان يعلو منبر صلاح الدين الأيوبي بالمسجد الأقصى المبارك، وأربع لوحات كتابية كانت من الفترة العثمانية بيد الخطاط حسام الدين خوقندي سنة 1292هـ كانت تعلو أبواب قبة الصخرة المشرفة من الداخل.

?وجرار فخارية متنوعة تعود لفترات إسلامية متعددة، وكانت تستخدم لحفظ الماء وتخزين الزيت، وأسلحة نارية متنوعة من الفترة العثمانية، وقطع نقدية ودنانير ذهبية تعود إلى فترات إسلامية متعددة.

ومشكاة للإنارة داخل المسجد الأقصى قبل إنارته بالكهرباء عام 1931، وكان المسجد الأقصى يضاء بواسطة عشرة آلاف من القناديل والأسرجة، التي كان يوضع فيها الزيت بعد استخراجه من بئر الزيت الموجودة أسفل القبّة النحويّة بالقرب من باب السلسلة، أوقفها أمير الشام تنكز (1310/ 1340م) على مدرسته في القدس، ونُقِلَت في فترة لاحقة إلى المسجد الإبراهيميّ في الخليل، وفي عام 1927 نُقِلَت إلى المتحف، تزدان بقوله تعالى: "إنّما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر".

وفيه زي الشيخ محمد الخليلي مفتي القدس والخليل من الفترة العثمانية، ويحوي عباءة، قبعتين، وشعارا معدنيا يحمل لفظ الجلالة كان يعلو الراية الخضراء التي كانت تحمل في المواسم والمناسبات.

مكتبة المسجد الأقصى:

وبجانب المتحف مكتبة المسجد الأقصى، وكان مبناها يعرف سابقًا بـ(مسجد النساء)، افتتحت المكتبة سنة 1922 م، وتحتوي على مخطوطات يبلغ عددها 4000 مخطوط، من بينها عدد كبير من المصاحف، وفيها أيضًا عدد من المخطوطات باللغة التركية العثمانية، وعلى آلاف الكتب والمجلات المطبوعة القديمة، والمطبوعات الحديثة، وتقدر بأكثر من 160 ألف كتاب في مواضيع مختلفة.

صلاة الظهر:

صليت الظهر في المسجد وتعرفت فيه على مثقف فلسطيني قد عمل الدكتوراة في بريطانيا، فتكلم معي باللغة الإنكليزية وسألني إذا كنت أحتاج إلى أي مساعدة، ثم عدت إلى الفندق واسترحت قليلا.

درس صفحات من صبر العلماء:

ونزلت في الساعة الثالثة لدرس صفحات من صبر العلماء، ودرَّست اليوم قصة بقي بن مخلد في طلب العلم، روى عبد الرحمن بن أحمد بن بقي بن مخلد، سمعت أبي يقول: رحل أبي من مكة إلى بغداد، وكان رجلا بغيته ملاقاة أحمد بن حنبل، قال: فلما قربت بلغتني المحنة، وأنه ممنوع، فاغتممت غما شديدا، فاحتللت بغداد، واكتريت بيتا في فندق، ثم أتيت الجامع وأنا أريد أن أجلس إلى الناس، فدفعت إلى حلقة نبيلة، فإذا برجل يتكلم في الرجال، فقيل لي: هذا يحيى بن معين، ففرجت لى فرجة، فقمت إليه، فقلت: يا أبا زكريا -رحمك الله- رجل غريب ناء عن وطنه، يحب السؤال، فلا تستجفني، فقال: قل. فسألت عن بعض من لقيته، فبعضا زكى، وبعضا جرح، فسألته عن هشام بن عمار، فقال لي: أبو الوليد، صاحب صلاة دمشق، ثقة، وفوق الثقة، لو كان تحت ردائه كبر، أو متقلدا كبرا، ما ضره شيئا لخيره وفضله، فصاح أصحاب الحلقة: يكفيك -رحمك الله- غيرك له سؤال. فقلت وأنا واقف على قدم: اكشف عن رجل واحد: أحمد بن حنبل، فنظر إلي كالمتعجب، فقال لي: ومثلنا، نحن نكشف عن أحمد؟ ذاك إمام المسلمين، وخيرهم وفاضلهم. فخرجت أستدل على منزل أحمد بن حنبل، فدللت عليه، فقرعت بابه، فخرج إلي. فقلت: يا أبا عبد الله: رجل غريب، نائي الدار، هذا أول دخولي هذا البلد، وأنا طالب حديث ومقيد سنة، ولم تكن رحلتي إلا إليك، فقال: ادخل الأصطوان ولا يقع عليك عين. فدخلت، فقال لي: وأين موضعك؟ قلت: المغرب الأقصى. فقال: إفريقية؟ قلت: أبعد من إفريقية، أجوز من بلدي البحر إلى إفريقية، بلدي الأندلس، قال: إن موضعك لبعيد، وما كان شيء أحب إلي من أن أحسن عون مثلك، غير أني ممتحن بما لعله قد بلغك. فقلت: بلى، قد بلغني، وهذا أول دخولي، وأنا مجهول العين عندكم، فإن أذنت لي أن آتي كل يوم في زي السؤال، فأقول عند الباب ما يقوله السؤال، فتخرج إلى هذا الموضع، فلو لم تحدثني كل يوم إلا بحديث واحد، لكان لي فيه كفاية. فقال لي: نعم، على شرط أن لا تظهر في الخلق، ولا عند المحدثين. فقلت: لك شرطك، فكنت آخذ عصا بيدي، وألف رأسي بخرقة مدنسة، وآتي بابه فأصيح: الأجر -رحمك الله- والسؤال هناك كذلك، فيخرج إلي، ويغلق، ويحدثني بالحديثين والثلاثة والأكثر، فالتزمت ذلك حتى مات الممتحن له، وولي بعده من كان على مذهب السنة، فظهر أحمد، وعلت إمامته، وكانت تضرب إليه آباط الإبل، فكان يعرف لي حق صبري، فكنت إذا أتيت حلقته فسح لي، ويقص على أصحاب الحديث قصتي معه، فكان يناولني الحديث مناولة ويقرؤه علي وأقرؤه عليه، فاعتللتُ علة أشفيت منها ففقدني من مجلسه، فأُعلم بعلتي، فقام من فوره مقبلاً إلي عائداً لي بمن معه، وأنا مضطجع في البيت الذي كنت اكتريت، وكسائي عليَّ، وكتبي عند رأسي، فسمعت الفندق قد ارتج بأهله، وأنا أسمعهم يقولون: هو ذاك، أبصروه، هذا إمام المسلمين مقبلاً. قال: فبدر إلي صاحب الفندق مسرعاً، فقال لي: أبا عبد الرحمن! هذا أبو عبد الله أحمد بن حنبل إمام المسلمين مقبلاً إليك عائداً لك. فدخل فجلس عند رأسي، وقد احتشى البيت من أصحابه فلم يسعهم، حتى صارت فرقة منهم في الدار وقوفاً، وأقلامهم بأيديهم، فما زادني على هذه الكلمات، فقال لي: يا أبا عبد الرحمن! أبشر بثواب الله، أيام الصحة لا سقم فيها، وأيام السقم لا صحة فيها، أعلاك الله إلى العافية، ومسح عنك بيمينه الشافية. فرأيت الأقلام تكتب لفظه، ثم خرج عني، فأتاني أهل الفندق يلطفون بي، وكانوا في تمريضي أكثر من تمريض أهلي لو كنت بين أظهرهم؛ لعيادة الرجل الصالح.

درس إحياء العلوم:

وصلينا العصر في المسجد، وانطلقنا إلى المصلى المرواني، وبقينا منصتين لما يقرؤون من القرآن الكريم حتى الساعة الخامسة والنصف بصوت جهوري، ثم بدأت الدرس وشرحت لهم معنى الحنيفية والإيمان والإسلام في ضوء قصة إبراهيم عليه السلام، وأجبت عن أسئلتهم، منها سؤال عما إذا أطلق القرآن الإسلام على اسم ديننا، وهل يوجد الإسلام قبل الإيمان.

الإفطار مع مدير المسجد الأقصى:

ورجعنا إلى المنزل وأفطرنا مع فضيلة الشيخ عمر الكسواني مدير المسجد الاقصى، وقد عرف بمواقفه الجريئة النبيلة تجاه القضية الفلسطينية والدفاع عن المقدسات الإسلامية، وتحدث إلينا عن الظروف الحرجة التي يمر بها المسلمون في فلسطين، وعن جامعة القدس وأن الدولة لا تعترف بها، وتحدث عن أئمة المسجد الأقصى، ولماذا هناك جماعتان، إحداهما في قبة الصخرة، والأخرى في المسجد القبلي.

موعظة:

وصلينا العشاء والتراويح في المسجد القبلي، وصعدت إلى ساحة قبة الصخرة، وألقيت بها درسا عن العبادة والدعاء ومعنى الدعاء، ولماذا تتأخر الإجابة أحيانا، وشرحت لهم الأجر في الدعاء وأن الدعاء مخ العبادة، وذكرت أن الله تعالى حين يؤخر الإجابة ليس ذلك لعجز أو بخل، ولكن لمصالح العباد، فلا يُقَصِّرُنّ في العبادة والدعاء.

مجلس مع الرجال:

وانقلبنا إلى الفندق، وشهدت مجلسا لي مع الرجال مجيبا فيه على أسئلتهم عن الجمع بين الصلاتين في السفر، وسفر المرأة بدون محرم، وصلاة النفل في جماعة، والرحلة في سبيل العلم، والمشكلة الأساسية لتخلف النساء في المجتمعات المسلمة، وأخذ العلم من المصادر الأساسية، والزكاة ومن يستحقها، وما هو الترتيب في توزيع أموال الزكاة بين الأقربين والجيران والفقراء في البلدان الأخرى.

انظر الحلقة 12 هــــنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين