التربية الإسلامية وتحديات القرن الحادي والعشرين -2-

تحدي الهُويَّة:

الهُويَّة على وجه العموم هي جملة المعالم المميزة للشيء التي تجعله هو هو، وعلى سبيل المثال هذا القلم الذي أكتب به الآن له خصائص ومكونات ووظيفة جعلت منه قلماً بحيث لا تخطئ في تمييزه عن غيره من الأشياء. ولكلٍّ منا – كإنسان – شخصيته المميزة له، فله نسقه القيمي ومعتقداته وعاداته السلوكية وميوله واتجاهاته وثقافته، وكل هذا إنما هو حصيلة جملة الخبرات التي مر بها عبر سنوات عمره نتيجة التفاعل بين ما فطر عليه وبيئته المحيطة بأشيائها وناسها وتفاعلاتها ومواقفها، هذه الشخصية هي التي جعلت من توفيق الحكيم توفيق الحكيم، وهي التي جعلت من جمال عبد الناصر جمال عبد الناصر ... وهكذا الأمر بالنسبة لكل فرد من الناس.

وهكذا الشأن بالنسبة للأمم والشعوب، فللشعب الإنجليزي شخصيته القومية المميزة له حتى إننا أحيانا لنصف سلوكاً ما يأتيه فرد من أبناء البلدان العربية بأنه (إنجليزي) رغم أن جنسيته ليست كذلك، ولا لسانه ولا ثقافته، وإنما نريد بذلك أن نعبر عن أنه قد سلك وفقاً (للنمط الإنجليزي)، تماماً مثلما قد نصف شخصاً بأنه (حاتمي) قاصدين بذلك وصفه بأنه كريم، حيث تحفل كتب تراثنا بقصص ومواقف ميزت شخصاً اسمه (حاتم الطائي) فجعلته (كريماً).

وهناك أمم وشعوب كثيرة لا تعد الهوية مشكلة يدور حولها الجدل والنقاش فهي ليست مشكلة، مثلا في فرنسا؛ لأنهم متفقون على الهُوية الفرنسية، ولا هي مشكلة كذلك في ألمانيا أو بريطانيا أو اليونان.... إلى غير هذا وذاك من بلدان كثيرة....

لكنها تعتبر (قضية كبرى)، ومشكلة خطيرة بالنسبة لأبناء الأمة العربية، ولا نقصد بذلك ما قد تثيره بعض (الفئات) في جنوب السودان مثلاً، أو شمال العراق أو في بعض مناطق الشمال الأفريقي، ولكنها كذلك بالنسبة لشعوب بأكملها، ففي مصر – على سبيل المثال - دار جدل طويل وجاد منذ العشرينيات: هل هي (مصرية) أو (عربية) أو(إسلامية) ؟ وإذا كان هذا الجدل قد ظهر لنا وكأنه قد حسم منذ الخمسينيات وحتى نهاية الستينيات بأن مصر (عربية) إلا أنه عاد وأثير مرة أخرى في السبعينيات، وإن كانت الجمهرة الكبرى تميل إلى أن نصفها بأنها (عربية إسلامية) إلى الآخر، فهناك من يعتبر العروبة هي الوعاء الأكبر وينظر إلى الدين باعتباره (عنصراً) و (مقوما) من جملة مقومات الأمة، وهناك من يعكس العلاقة لينظر إلى الإسلام على أنه الوعاء الأكبر وأن العروبة هي عنصر و(مقوم) ضمن عناصر ومقومات متعددة.

وكان لهذا أثره في الكتابات التربوية، فرأينا كتباً يتحدث كتابها فيها عن (التربية العربية) وكتباً أخرى يتحدث فيها أصحابها عن (التربية الإسلامية).

وفي خضم ما أشرنا إليه من استمرار احتدام (الصراع الأيديولوجي) يبرز ما اصطلح على ما تسميته في السنوات الأخيرة (بالنظام الشرق أوسطي) ليطرح جانبا (الدين) و(القومية) ليجعل من (الجوار الجغرافي) محوراً للحياة بأنشطتها المتعددة، حتى يتيح الفرصة لدول غير (عربية) وغير إسلامية ... زرعت في المنطقة العربية كي تصبح جزءاً من المنظومة الإقليمية المقترحة، لأن هذه الدول (إسرائيل) نموذج حضاري غربي فلقد ساندت الولايات المتحدة هذا التوجه الإقليمي المستحدث.

إنها عملية التفاف خطير حول كل من (القومية) و(الدين) لتسويد النمط الثقافي الغربي، وأخطر ما فيه أنه يلح بوسائل شتى، مباشرة وغير مباشرة على أن يطلب منا طرح (الدين) جانباً، بينما يقوم هذا العنصر المزروع نفسه على (الدين) ويوحد بين الدين والقومية إلى الدرجة التي تجعل البعض يتحدث عما يسميه (القومية اليهودية) وذلك حتى يتلافى أن يستخدم الاسم الحقيقي لقومتيهم ألا وهو (الصهيونية) نظراً لما ارتبطت به أذهان كثير من العرب – بل وغيرهم – من (عنصرية) و(عدوانية) و(عنف)، وفي الممارسة القومية تقوم إسرائيل بعمليات (تطهير عرقي) مبعدة أبناء فلسطين العرب من مناطقهم؛ سعياً من اجل (تهويدها).

جانب آخر لا يقل خطراً عن ذلك هو أن العنصر المزروع – بحكم عوامل شتى ليس هنا مجال تفصيلها – قد أصبح الأقوى علمياً واقتصادياً وتكنولوجياً وعسكرياً، وبالتالي فإن التوحد معه في منظومة إقليمية لابد أن يجعل له القيادة والسيطرة وفقاً للناموس الاجتماعي المعروف، سواء في التاريخ أو حتى على مستوى العلاقات الفردية العادية، فإذا تجمع أفراد ليسيروا في طريق أو للقيام بمشروع، برز أقدرهم علماً وقوة كزعيم وقائد.

ويتم تركيز جهد الآخر الحضاري على مصر بصفة خاصة باعتبارها الأخ الأكبر في منظومة الدول العربية، وهي وإن لم تكن كذلك بالنسبة لمنظومة الدول الإسلامية، إلا أنها من الناحية (الحضارية) تبرز كقوة عمل لها حساب كبير بما أسهمت به في الثقافة والحضارة الإسلامية، وعندما يتم التركيز عليها يضمن المؤثرون – إلى حد كبير – إن دولاُ عربية وإسلامية غالباً ما سوف تحذو حذوها.

وهكذا رأينا هذا من خلال (سيناريو كامب ديفيد).

إننا لا نقصد أن نسوق حديثاً (سياسياً)، وإن كنا قد اضطررنا إليه، وإنما قصدنا ينصب على قضية (الهوية) و(الذاتية) الحضارية، وفي معظم بلداننا فإن المدخل سياسي حتى إذا أردنا الحديث عن هذه القضية، وربما لا يكون الأمر كذلك في الدول الغربية المتقدمة، فقد استقرت فيها الأمور وخاصة فيما يتصل بالمسار الحضاري، بينما مازال الأمر في الدول العربية والإسلامية مرهوناً بالإرادة السياسية، فالإرادة السياسية في مصر – مثلاً – هي التي اختارت الهوية العربية في الخمسينيات والستينيات، وقادت بذلك مختلف الكتابات في مختلف المجالات، كما قادت التعليم بنظمه وكتبه وفلسفته ومقرراته حول المحور العروبي.

والإرادة السياسية هي التي قررت منذ حرب أكتوبر أن تزيل تدريجيا التوجه الاشتراكي؛ لتقود البلاد نحو الغرب على وجه العموم والولايات المتحدة على وجه الخصوص، ثم توجت جهودها بمصالحة إسرائيل، وها هي المنطقة كلها كما نراها في التسعينيات تسير بخطى متسارعة على نفس الطريق.

إن هذه قضية أساسية بالنسبة للتربية الإسلامية تمثل خطراً كبيراً عليها خاصة لما صاحبها في السنوات الأخيرة من حوادث عنف مسلح قامت به فئات قليلة من ذوى الأفق الضيق والتعصب البغيض تحت راية الإسلام، فإذا بالآخر الحضاري ينتهزها فرصة عمر ليضخم من الحديث حول هذه الظاهرة ويبالغ فيها، حتى لقد أصبح الإسلام في المرآه الغربية مقترناً بالإرهاب والوحشية والعنف، مع أن من قتلوهم في البوسنة والهرسك من المسلمين لا يقارن بضحايا هذا العنف المسلح الذى اقترفته جماعات متعصبة، وشيوع مثل هذه الصورة يسئ إلى سمعة الإسلام كنموذج حضاري، وربما يبرر محاصرته ومحاربته، والأخطر من ذلك أنه قد أثر على فئات من أبناء أمتنا فجعلهم كذلك يربطون بين الاتجاه الديني وبين التخلف والتعصب والعنف والإرهاب، ففي البداية كان هذا الوصف يرمى به من يحملون السلاح، فإذا بعملية تعميم ظالمة تقول: أن ليس هناك معتدل ومتطرف، وإن المسألة هي توزيع أدوار، حاكمين بذلك على جميع من ينضوون تحت الراية العقيدية الإسلامية مريدين بالعقيدة أن تنحصر داخل المسجد وداخل البيت – لمن يريد – بعيدة عن توجيه مناشط الحياة الدنيا على اختلاف مجالاتها وتنوع أساليبها.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين