ذكرٌ جميل لأيامٍ في القدس والخليل (11)

?سيشهد المسجد اليوم ازدحاما كبيرا لتوافد الناس إليه من جميع أنحاء فلسطين لأداء صلاة الجمعة واحتشادهم فيه الاحتشاد البالغ، وربما يبلغ عدد المصلين نصف مليون أو أكثر، ونصحنا الإمام يوسف أبو سنينة أن نبارح الفندق في الساعة العاشرة أو قبلها، ولكني رأيتني أعاني نصبا وإرهاقا إن بكَّرت هذا التبكير.

 

خطب قبل الأذان:

وهنا خطب يلقيها الأئمة قبل الأذان، فبدأت تتخذ إلى أسماعنا سبيلا قبل أن نفارق رحالنا، ودخلنا المسجد من باب الملك فيصل حوالي الساعة الثانية عشرة ولم نجد لنا فسحة إلا في ساحة الغزالي، وسمعنا خطيبا يخطب ويحذر الناس من الوقوع في المحارم والمعاصي مستشهدا بقصة أصحاب طالوت الذين عصوه فيما أمرهم (فلما فصل طالوت بالجنود قال إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده فشربوا منه إلا قليلا منهم فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده قال الذين يظنون أنهم ملاقو الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين)، وقصة يوسف عليه السلام في عفته وطهارته وصبره إذ راودته امرأة العزيز والنساء وهو شاب جميل، فاتقى الله وملك نفسه، ثم فسر قوله تعالى (ليعلم الله من يخافه بالغيب)، وروى حديث أبي مسعود الذي أخرجه مسلم وغيره، قال أي أبو مسعود البدري: كنت أضرب غلاما لي بالسوط فسمعت صوتا من خلفي: اعلم أبا مسعود !فلم أفهم الصوت من الغضب، قال: فلما دنا مني إذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا هو يقول: اعلم أبا مسعود !اعلم أبا مسعود! قال: فألقيت السوط من يدي، فقال: اعلم أبا مسعود أن الله أقدر عليك منك على هذا الغلام، قال: فقلت: لا أضرب مملوكا بعده أبدا، وهو رب قدير ذو انتقام، (إن الذين يخشون ربهم بالغيب لهم مغفرة وأجر كبير)، اللهم اجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، اللهم اجعلنا من المقبولين في شهر رمضان، واجعل باطننا خيرا من ظاهرنا، اللهم أصلح حال أمة الإسلام، اللهم أصلح شباب المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، وتقبل منا، وأعد علينا شهر رمضان ونحن على أحسن حال وأفضل مآل.

ثم قام خطيب آخر، وذكر من فضائل المسجد الأقصى، وقال: إنه أولى القبلتين، وثاني المسجدين، وثالث الحرمين.

قلت: قوله ثالث الحرمين غير صحيح، بل المسجد الأقصى ثالث المساجد التي تشد الرحال إليها، ولا حرم في الإسلام إلا الحرمان الشريفان.

ثم ذكر الخطيب ما أكرم الله تعالى به نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم من الفضائل والمكارم، وقال:

ياخير من سكنت بالقاع أعظمه

فطاب من طيبهنَّ القاع والأكم

نفسي الفداء لقبرٍ أنت ساكنه

فيه العفاف وفيه الجود والكرم

وكنا جالسين في ساحة الغزالي في الشمس، فجاء فريق وبدأوا يرشون الماء لحماية الناس من الحرارة الزائدة.

واستمر الخطيب قائلا: حديثي معكم اليوم عن التابعي الجليل الفقيه الزاهد أحد الفقهاء السبعة سعيد بن المسيب، وذكر من فضائله مما هو مبسوط في سير أعلام النبلاء للذهبي وغيره من المصادر، فتجنبت إعادتها هنا، وذكر قصة تزويج سعيد بن المسيب بنته من الرجل الصالح، كانت بنت سعيد قد خطبها عبد الملك لابنه الوليد، فأبى عليه، فلم يزل يحتال عبد الملك عليه حتى ضربه مائة سوط في يوم بارد، وصب عليه جرة ماء، وألبسه جبة صوف، وعن كثير بن أبي وداعة، قال: كنت أجالس سعيد بن المسيب، ففقدني أياما، فلما جئته قال: أين كنت؟ قلت: توفي أهلي فاشتغلت بها، قال: ألا أخبرتنا فشهدناها، ثم قال: هل استحدثت امرأة؟ فقلت: يرحمك الله، ومن يزوجني وما أملك إلا درهمين أو ثلاثة؟ قال: تزوج بنتي؟ فقلت: وتفعل؟ قال: نعم، ثم حمد الله، وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم، وزوجني على درهمين، أو قال ثلاثة، فقمت وما أدري ما أصنع من الفرح، فصرت إلى منزلي وجعلت أتفكر فيمن أستدين، فصليت المغرب، ورجعت إلى منزلي، وكنت وحدي صائما، فقدمت عشائي أفطر، وكان خبزا وزيتا، فإذا بابي يقرع، فقلت: من هذا؟ فقال: سعيد، فأفكرت في كل من اسمه سعيد إلا ابن المسيب، فإنه لم ير أربعين سنة إلا بين بيته والمسجد، فخرجت، فإذا سعيد، فظننت أنه قد بدا له، فقلت: يا أبا محمد ألا أرسلت إلي فآتيك؟ قال: لا أنت أحق أن تؤتى، إنك كنت رجلا عزبا، فتزوجت فكرهت أن تبيت الليلة وحدك، وهذه امرأتك فإذا هي قائمة من خلفه في طوله، ثم أخذها بيدها، فدفعها في الباب، ورد الباب، فسقطت المرأة من الحياء، فاستوثقت من الباب، ثم وضعت القصعة في ظل السراج لكي لا تراه، ثم صعدت إلى السطح، فرميت الجيران، فجاؤوني فقالوا: ما شأنك؟ فأخبرتهم ونزلوا إليها، وبلغ أمي، فجاءت وقالت: وجهي من وجهك حرام إن مسستها قبل أن أصلحها إلى ثلاثة أيام، فأقمت ثلاثا، ثم دخلت بها، فإذا هي من أجمل الناس، وأحفظ الناس لكتاب الله، وأعلمهم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعرفهم بحق زوج، فكنت شهرا لا آتي سعيد بن المسيب، ثم أتيته وهو في حلقته، فسلمت، فرد علي السلام ولم يكلمني حتى تقوض المجلس، فلما لم يبق غيري، قال: ما حال ذلك الإنسان؟ قلت: خير يا أبا محمد، على ما يحب الصديق ويكره العدو، قال: إن رابك شيء فالعصا، فانصرفت إلى منزلي، فوجه إلي بعشرين ألف درهم.

وختم بالدعاء والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قرأ قارئ من كتاب الله عز وجل: "إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون، لا يسمعون حسيسها وهم في ما اشتهت أنفسهم خالدون لا يحزنهم الفزع الأكبر وتتلقاهم الملائكة، هذا يومكم الذى كنتم توعدون ... الآيات.

خطبة الجمعة:

نودي بالأذان الأول في الساعة الواحدة إلا الربع، وجلس الخطيب، وهو الشيخ عكرمة عبد الله صبري مفتي القدس والديار الفلسطينية من مواليد سنة 1939م، على المنبر مسلِّما على الحضور، ونودي بالأذان الثاني، فقام وخطب: الحمد لله الذي بلغنا شهر رمضان، وأنعم علينا بالصيام والقيام، وأخرج الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قال الله عز وجل: كل عمل ابن آدم له إلا الصيام؛ فإنه لي وأنا أجزي به، والصيام جنّة، وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث، ولا يصخب، فإن سابّه أحد أو قاتله فليقل: إني امرؤ صائم، والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، للصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح، وإذا لقي ربه فرح بصومه.

وهذه الجمعة الرابعة في شهر رمضان المبارك في المسجد الأقصى الذي بارك الله فيه وبارك حوله، ورحب بالقادمين من أنحاء فلسطين، وقال: إنكم تنتمون إلى المسجد الأقصى من خلال عقيدتكم، وذكر قصة الإسراء والمعراج، وارتباطكم بالمسجد بعد العقيدة هو ارتباط العبادة، الصلاة فيه يضاعف أجرها، فكيف إذا اجتمعت مع الصيام، وهو أحد المساجد التي تشد الرحال إليه، هذا هو البيت المقدس الذي يحدو إليه المؤمنون رغم الظلم والحواجز، إنكم بهذا الزحف الكبير المبارك ترسلون هذه الرسالة إلى الأمة الإسلامية أنكم ترتبطون به ارتباطا لا يفك، وذكر من أهمية الارتباط بالمسجد وظلم الاحتلال أبناء أرض الإسراء والمعراج.

وذكر من أهمية العشر الأواخر، خصها النبي صلى الله عليه وسلم بمزيد من العبادة والعناية، وكان يتخذ معتكفه في المسجد، وكان يعتكف العشر الأواخر، واعتكف في العام الذي توفي فيه عشرين يوما، عن عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جاء العشر الأواخر أيقظ أهله وأحيا ليله وشد مئزره، وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم ليقوم ليصلي حتى ترم قدماه أو ساقاه فيقال له فيقول أفلا أكون عبدا شكورا، وعن أبى هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن لله ملائكة يطوفون فى الطرق، يلتمسون أهل الذكر، فإذا وجدوا قوماً يذكرون الله تنادوا: هلموا إلى حاجتكم، قال: فيحفونهم بأجنحتهم إلى السماء الدنيا، قال: فيسألهم ربهم وهو أعلم بهم: كيف وجدتم عبادى؟ تقول الملائكة: يسبحونك ويكبرونك ويحمدونك ويمجدونك، فيقول الله: و هل رأوني؟ فيقولون: لا يا رب، فيقول الله: فكيف لو رأوني؟ تقول الملائكة: لو رأوك كانوا أشد لك عبادة وأشد لك تمجيداً وتحميداً وأكثر تسبيحاً، فيقول الله: وماذا يسألوننى؟ يقولون: يسألوك الجنة، فيقول الله: وهل رأوها؟ فيقولون: لا يا رب، فيقول الله: فكيف لو أنهم رأوها؟ فتقول الملائكة: لكانوا أشد عليها حرصاَ وأشد لها طلباً وأعظم فيها رغبة، فيقول الله: فمم يتعوذون؟ فيقولون: من النار، فيقول الله: وهل رأوها؟ فيقولون: لا يا رب، فيقول الله: و كيف لو رأوها؟ فتقول الملائكة: لو رأوها كانو أشد منها فراراً و أشد لها مخافة، فيقول الله عز وجل لهم: أشهدكم يا ملائكتى أنى قد غفرت لهم، فيقول ملك من الملائكة: فيهم فلان ليس منهم وإنما جاء لحاجة، فيقول الله عز وجل: هم الجلساء لا يشقى بهم جليسهم. اللهم إنك عفو كريم تحب العفو فاعف عنا، ودعا بدعوات.

ثم ذكر بليلة القدر وقرأ سورة القدر، وإنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يجتهد في العشر الأواخر من رمضان ما لا يجتهد في غيرها، وكان يعتكف فيها ويتحرى ليلة القدر خلالها، ومن قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه، ودعا بدعوات وجلس.

ثم قام في الساعة الواحدة والسدس للخطبة الثانية، وروى حديث ابن عمر رضي الله عنهما، قال: فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر صاعا من تمر، أو صاعا من شعير على العبد والحر، والذكر والأنثى، والصغير والكبير من المسلمين، وأمر بها أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة، وحديث ابن عباس، قال: فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث، وطعمة للمساكين، من أداها قبل الصلاة، فهي زكاة مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة، فهي صدقة من الصدقات، وقال: بادروا إلى إخراجها، جعل في أموالكم حقا للسائل والمحروم، وذكر آيات وأحاديث في الحث على الصدقة، خذ من أموالهم صدقة تطهرهم بها، وذكرهم بإخراج الزكاة.

وذكر بالمسجد الأقصى، وأن الأقصى مستهدف، وقرأ (ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم)، ثم دعا بدعوات.

صلينا الجمعة، ورجعنا إلى الفندق مارين بمظاهرات واحتجاجات نظمتها حركتا الفتح والحماس، ووصلنا إلى الفندق حوالي الساعة الثانية.

الحانقاه الصلاحية:

خرجنا من الفندق الساعة الثالثة والنصف، ووصلنا إلى قبة الصخرة حيث ننتظر أفرادا آخرين من مجموعتنا، ومن هنا نتجه إلى الخانقاه الصلاحية إذ سنصلي العصر بها، خرجنا من باب السلسلة ووصلنا إلى الخانقاه الساعة الرابعة والثلث وانتظرنا نصف ساعة ليفتح بابها لنا، فلما أيسنا يممنا مسجد عمر وصلينا فيه.

موضع الخضر:

ثم عدنا إلى الأقصى والجين فيه من باب السلسلة الساعة الخامسة والربع، واجتمعنا قريبا من قبة الصخرة حول مظلة يقولون: إن المعراج كان منها، ووُجِّهنا إلى ناحية تنسب إلى الخضر، فألقيت هنا كلمة حول الخضر عليه السلام وما أحدث الناس من خرافات في مدة حياته، وذكرت بهذه المناسبة قصة رتن الهندي على ما كتب الإمام الذهبي عنه: زعموا أنه صحابيٌ، ذكر النجيب عبد الوهاب الفارسي الصوفي: أنه توفي في حدود سنة اثنتين وثلاثين وستمائة، وذكر النجيب: أنه سمع من الشيخ محمود ولد بابارتن، وأنه بقي إلى سنة تسع وسبعمائة، وأنه قدم عليهم شيراز، فذكر: أنه ابن مائة وستة وسبعين عاماً، وأنه تأهل ورزق أولاداً. قال الذهبي: من صدق بهذه الأعجوبة وآمن ببقاء رتن، فما لنا فيه طبٌ، فليعلم أنني أول من كذب بذلك، وأنني عاجزٌ منقطعٌ معه في المناظرة. وما أبعد أن يكون جنيٌ تبدى بأرض الهند، وادعى ما ادعى، فصدقوه، لأن هذا شيخٌ مفترٍ كذابٌ كذب كذبةً ضخمةً لكي تنصلح خابية الضياع وأتى بفضيحةٍ كبيرةٍ، فوالذي يُحْلَفُ به إن رتن لكذابٌ قاتله الله أنى يؤفك. وقد أفردت جزءاً فيه أخبار هذا الضال وسميته: "كسر وثن رتن" تجرأ على الله، وزعم بقلة حياء أنه من الصحابة، وأنه ابن ست مئة سنة وخمسين سنة، فراج أمره على من لا يدري. وقد أفردته في جزء، وهتكت باطله.

رجعت إلى الفندق حوالي الساعة السادسة، وفي الطريق لقيت أفرادا من مجموعتنا ضلوا الطريق فأرشدتهم، وشعرت خلال مرورنا في الطرق والشوارع أن الدولة الطارئة ليس لها وجود إلا بقوة، وليس لها تأثير في قلوب الناس، وفي الطريق سألوني أسئلة فقهية أجبتهم عنها.

وأفطرنا في مطعم الفندق، ثم خرجنا الساعة التاسعة والربع لصلاة العشاء في المسجد، وكان الازدحام كبيرا، فلم أجد مكانا إلا على عتبة المسجد حيث موضع الأحذية، وريح الأحذية تدخل في الأنف أثناء السجود، والخارجون من المسجد والداخلون فيه يزاحموننا بشدة، فصبرنا ورجونا الأجر من الله تعالى، وصليت العشاء وثمان ركعات من التراويح، وعامة الناس يصلون التراويح ثمان ركعات، وبعد ذلك لا يبقى في المسجد إلا عدد قليل، فلما انفسح المكان تقدمت وأتممت سائر الركعات في داخل المصلى.

انظر الحلقة العاشرة هـــنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين