التربية الإسلامية وتحديات القرن الحادي والعشرين -1-

 

يعد الدكتور سعيد إسماعيل علي، أستاذ التربية بجامعة عين شمس، "شيخ التربويين الإسلاميين" باقتدار، ويشهد بها قرابة المائة كتاب، غالبيتها تتناول القضايا التربوية من المنظور الإسلامي، ولم يكتفِ بذلك، بل رصد الأمراض التي أصابت منظومة القيم والأخلاق، وجعلت مجتمعاتنا العربية تعاني من الانهيار المستمر، وسيتحول العَرَضُ إلى مرض عضال إذا لم نحسن تشخيصه وتقديم العلاج له، من هنا تأتي أهمية هذا الحوار الذي يعرِض للكثير من الأمراض التي أصابت منظومة القيم والأخلاق والتربية، ومن مقالاته الماتعة :" التربية الإسلامية وتحديات القرن الحادي والعشرين " الذي نشر في العدد 85 من مجلة المسلم المعاصر: ربيع الآخر - جمادى الأولى - جمادى الآخرة 1418 ، وقد قام الأستاذ طارق قباوة بإعادة تنضيد هذا المقال، وقام الأستاذ الشيخ مجد مكي بمقابلته وتصحيحه، ونعيد نشر هذا المقال الطويل له في موقعنا في عدة حلقات؛ ليستفاد منه

مقدمة:

عدة آيات كريمات من كتاب الله المجيد في القرآن الكريم تشير لنا إلى أن الله سبحانه وتعالى عندما خلق الإنسان في هذه الحياة الدنيا لم يضعه على طريق مفروش بالورود والرياحين، إنما هو على طريق (الابتلاء) سائر، وقد زوده المولى عز وجل بإمكانات وقدرات (المغالبة)، وأرشده إلى غاية السعي وهداه إلى أسباب وآداب (الكدح):

{إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً}(الأحزاب: 72).

فها هنا الموقف الأول للتحدي والابتلاء، لقد ألقى الله عز وجل تبعات جساماً على عاتق هذا المخلوق (الإنسان) في الوقت الذي ناءت بحملها مخلوقات أخرى تبدو ذات قوة وبأس شديد كالسموات والأرض والجبال، إنها التكاليف والحقوق المرعبة التي أودعها الله تعالى المكلف وائتمنهم عليها وواجب عليهم تلقيها بحسن الطاعة والانقياد، أمرهم بمراعاتها وأدائها والمحافظة عليها من غير إخلال بشيء من حقوقها.

والصراع أبرز صور التحدي، فهناك من يسعون في الأرض فساداً، لكن الله سبحانه وتعالى يُقيض للأمة من أبنائها من يحملون على عاتقهم مسئولية التصدي لهؤلاء فيرفعون لواء النضال والكفاح، ولولا هذا لتداعت حياة الأمة:{ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض } (البقرة: 215).

وتتعدد آيات (الابتلاء) بمعنى الامتحان والاختبار ويكون بالخير والشر والنعمة وأيضاً النقمة:

{وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون}(الأعراف: 168).

{ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون{(الأنبياء:35)

{ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات}(البقرة: 155)

{ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين }(محمد:31) {ولوشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض}(محمد:4) }ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما آتاكم}(المائدة: 48 والأنعام:165، هود:7، والنحل:92، والملك:2) .... وهكذا.

بل إنَّ الله سبحانه وتعالى ينصُّ في كتابه العزيز على أن الحياة الإنسانية بكليتها إنما هي سلسلة متصلة الحلقات من الألم والمشقة: {لقد خلقنا الإنسان في كبد}(البلد: 4) ويقول عز من قائل:{يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه}(الانشقاق: 6)، أي لا تنفك تجِدُّ وتعمل إلى أن تلقى ربك فيجزنك بما فعلت.

(التحدي) و(الابتلاء) إذن من علامات الطريق الإنساني، لا يبرز الوعي به فقط ونحن نهمُّ بطيِّ صفحة القرن العشرين لنفتح أولى صفحات القرن الحادي والعشرين.

الصراع الأيديولوجي:

تنادت أصوات عدة قبل التسعينيات مشيرة إلى أن عصر الأيديولوجيات الكبرى قد انتهى، وكانت تلك الأصوات تواجه بهجوم مضاد وخاصة من المعسكر الاشتراكي الذى يؤكد أصحابه أن الصراع الأيديولوجي مازال وسوف يظل قائماً، حتى إذا شهدنا انهيار منظومة الدول الاشتراكية وعلى رأسها الاتحاد السوفيتي إذا بصوت المعارضة يخفت، بل لقد شهدنا – وخاصة في الدول النامية - تحولاً ملحوظاً لمثقفين، كثيراً ما حملوا لواء الاشتراكية وما كان يفرضه هذا من تحالفات (مع) و(ضد)، وأفكاراً وعملية لفظية ولغة فكرية يتعاملون بها، إلى مواقف فكرية مغايرة معللة بأن الدنيا تتغير والظروف تتبدل ولابد للفكر أن ينفعل بهذا وذلك، وأن الجمود على ما يزعم أنه ثوابت إنما هو تخلف وعجز عن مواكبة العصر، وبالتالي فقد سادت المقولة التي تشير إلى انتهاء الصراع الأيديولوجي ما دام الخصم الكبير والقطب الثاني قد رفع الراية البيضاء معلناً الهزيمة والاستسلام .

وفى رأينا أن هزيمة أيديولوجية بعينها مهما كان انتشارها وأيًّا كانت سطوتها لا تعنى بالضرورة انتهاء عصر الأيديولوجيات، ذلك أن هزيمة القطب الثاني قد واكبها إعلان القطب الأول أن ذلك يعنى انتصار فلسفته هو ورؤيته العامة وهي (الرأسمالية) التي هي بغير شك (أيديولوجيا) لها منطلقاتها الفلسفية ومسلَّماتها وآلياتها وتفسيراتها لعديد من القضايا والمشكلات... هذا من جانب ..... ومن جانب آخر فلقد تجمعت مؤشرات متعددة لتعلن أن المواجهة التي قامت بين (الرأسمالية) و(الاشتراكية) قد تحولت الآن ... أو هي بسبيلها إلى أن تتحول إلى شكل آخر من أشكال الصراع، بحيث يكون صراعاً بين (النموذج الحضاري الغربي) و(النموذج الإسلامي).

لقد كان طرفا الصراع السابق معسكرين سياسيين كبيرين، لكن المواجهة الجديدة تختلف باعتبار أنه على الرغم من أننا قد درجنا على تسمية عدة دول بأنها (إسلامية) وتجمعها بالفعل منظمة، لكن هذه الصفة الإسلامية في الحقيقة إنما تشير إلى (ديانة) غالبة على سكانها، ولا تعني بالضرورة أن نظمها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية إسلامية بنفس المقياس الذي كان يتيح لنا أن نسمي دولاً سابقة بأنها (اشتراكية)، وفضلاً عن ذلك فإن هذه الدول (إسلامية) لا ينظمها تحالف سياسي يجعلها تقف في مواجهة دول الغرب.

ومن هنا فإن المواجهة الجديدة تتخذ شكلاً حضارياً بالدرجة الأولى، ولا نعني هنا بالحضارة مستوى عالياً غالباً في مجالات الحياة المختلفة، وإنما نقصد بها الإشارة إلى وجود منظومة متكاملة لرؤية فكرية لأسس التنظيم الاجتماعي والمنطلقات النظرية وتصور للمستقبل، كيف يكون؟ وإلى أي غاية يتجه؟ ومعالم شخصية الإنسان كما يجب أن تكون والآليات المصاحبة لكل ذلك.

ولأن الغرب الحضاري لا يواجه منظومة سياسية تجمع عدة دول ؛ فإنه اتخذ سبلاً جديدة لمواجهة مختلفة تماماً عن تلك التي واجه بها منظومة الدول الاشتراكية، فلا حاجة له هنا إلى (حلف عسكري)، ولا إلى بوارج وغواصات وطائرات وصواريخ، ولا إلى عسكر، وإنما يستهدف (عقولاً) و(فكراً) و(اتجاهات) و(ميولاً) و(معارف) مما يجعلنا نؤكد – بغير (تعصب مهني) و(تحيز معرفي) أن المواجهة سلاحها الأساسي هو (التربية) بمعناها الواسع الذي يجعل منها تلك العملية المتكاملة الشاملة التي نسعى من خلالها إلى تنمية شخصية الإنسان.

وبحكم التخلف الملموس للجمهرة الكبرى من الدول الإسلامية، فهي تعتمد إلى حد كبير على المنتج الصناعي الغربي بالدرجة الأولى، وهنا لا يرى كثيرون خطراً في أن يستوردوا هذا المنتج وذاك ما دام يلبي حاجات اجتماعية واقتصادية، ويعكس آخر ما وصل إليه العلم الحديث والتكنولوجيا المعاصرة، وقلما ينتبه أحد إلى أن المنتج المادي لابد أن تصحبه منظومة من القيم والعادات والاتجاهات التي تعكس ما هو قائم في بلد المنشأ، وهناك ما لا حصر له من الأمثلة التي يمكن أن نسوقها التي أصبحت بيوتنا تعتمد عليها، وما أصبحت تتطلبه من سلوكيات تختلف تماماً عما كانت تتطلبه الأدوات المنزلية السابقة ذات المستوى البدائي.

وإذا كان هذا مما لا مهرب منه، فإن هناك منتجات أخرى عديدة لها مصاحباتها الثقافية من لغة ومفاهيم، إلى الدرجة التي جعلت البعض يشير إلى ما أصبح سائداً في معظم البلدان النامية مما يمكن تسميته بثقافة (الهامبرجر) و(الكوكاكولا) و(الجينز)، وما إلى هذا وذاك من منتجات.

إن هذا الطوفان الذي أصبح يحاصرنا من المنتجات الغربية، إذا أضفنا إليه أساليب أخرى في التعامل السياسي والعلاقات الاقتصادية والتدفق الإعلامي، له أثره الذي لا يجحد في إحداث ما يمكن تسميته (بالاستلاب الثقافي) مما يجعل فئات غير قليلة من أبناء الأمة تفكر كما يفكر الغربيون، وتسلك كما يسلكون، ولو كان هذا مؤدياً إلى أن ينتج هؤلاء من المعرفة والتكنولوجيا مثلما ينتج الغربيون لربما سعدنا بذلك، وإنما هي صور من تقليد المغلوب للغالب تقليد اتِّباع وانصياع وليس تقليد مشاركة ونِديَّة، محاكاة تشيع روح الانهزام القومي وتبذر بذور الاستسلام الثقافي، وترسيخ اتجاهات المسايرة وتؤسس لموقع الذيلية الحضارية والتبعية المؤدية إلى الانكسار .

وعلى الرغم مما أكدنا عليه من أن المواجهة بهذه الصورة هي مواجهة حضارية بالأساس، إلا أن الأمر لا يعني الإقلاع تماماً عن المواجهة المادية والأساليب الساخنة؛ فما حدث في (البوسنة والهرسك) عبر ما يزيد على سنوات ثلاث من أبشع ما شهده التاريخ من صور بطش وقهر وسفك دماء وهتك أعراض وتدمير وتخريب وقتل جماعي ودفن لجماعات من الأحياء وطرد وتشريد، كل هذا إنما هو صورة أخرى من صور المواجهة الغربية تتبعها الآن أحداث في ألبانيا، وذلك حتى (تتطهر) أوروبا من هذين (الجيبين الإسلاميين).

وأمامنا كذلك المثال التركي، فعلى الرغم من الجهود المتواصلة لتركيا كي تلحق بالقطار الأوروبي حليفة إلا أن العراقيل مازالت توضع أمامها والتباطؤ شديد في اتخاذ ما يلزم من إجراءات، وعندما نفتش عما تختلف فيه تركيا عن سائر الأقطار الأوروبية فسوف نجده في سكان تركيا المسلمين، مع أن تركيا لا تدعي أنها (إسلامية) وتؤكد أنها علمانية.

الصراع العقيدي إذن قائم وسوف يظل قائماً مثلما كان قائماً عبر عصور التاريخ المختلفة... وهكذا تجد التربية الإسلامية نفسها أمام هذا (الابتلاء) القديم الجديد.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين