ذكرٌ جميلٌ لأيامٍ في القدس والخليل (10)

تسحرنا في المطعم وقابلني زيد وأهدى إلي كتاب (أطلس معالم المسجد الأقصى المبارك) إعداد د. عبد الله ورأفت مرعي، وصلينا الفجر في المسجد، ثم نمت حتى الساعة التاسعة.

درس عن طلب العلم:

اليوم لي درس في الساعة الثالثة والربع مساء في صالة الطعام، فنزلت حوالي الساعة الثالثة، واكتظ المكان بالحضور، وألقيت عليهم درسا من كتاب شيخنا عبد الفتاح أبي غدة رحمه الله تعالى (صفحات من صبر العلماء)، ذكرت لهم أولا أن هذا الدين أساسه على مصادر صحيحة ثابتة، فلا بد من العلم بها، ولا يتحقق كسبه إلا بالسعي الدؤوب والكفاح الدائم، وكذلك الفضائل كلها، لا تكسب إلا بالمثابرة على العمل والجد في الطلب.

وعرفتهم بموضوع الكتاب ومؤلفه حاكيًا لهم أمثلة من تضحيات السلف في سبيل العلم، وبدأت الكتاب بقصة آدم عليه السلام - على ما أخرجه الشيخان - أن الله تعالى "قال له بعد ما خلقه: اذهب فسلِّم على أولئك النفر من الملائكة جلوس، فاستمع ما يحيونك، فإنها تحيتك وتحية ذريتك، فقال: السلام عليكم، فقالوا: السلام عليك ورحمة الله، فزادوه ورحمة الله"، وقصصت عليهم خلق آدم وحواء من القرآن الكريم، ورحلة موسى إلى الخضر مع أن الله تعالى اختار موسى لرسالته واصطنعه لنفسه وقربه نجيا، ولم يمنعه بلوغه من السيادة المحل الأعلى أن يركب البر والبحر في طلب العلم، وقال بعض أهل العلم: "إن فيما عاناه موسى من الدأب والسفر، وصبر عليه من التواضع والخضوع للخضر، بعد معاناة قصده مع محل موسى من الله عز وجل، وموضعه من كرامته وشرف نبوته، دلالة على ارتفاع قدر العلم وعلو منزلة أهله، وحسن التواضع لمن يلتمس منه ويؤخذ عنه".

وحدثتهم بمعاناة المحمدين الأربعة أيام طلبهم في مصر، قال أبو العباس البكري من ولد أبي بكر الصديق: جمعت الرحلة بين محمد بن جرير، ومحمد بن إسحاق بن خزيمة، ومحمد بن نصر المروزي، ومحمد بن هارون الرّوياني بمصر، فارملوا ولم يبق عندهم ما يقوتهم، وأضرَّ بهم الجوع، فاجتمعوا ليلة في منزل كانوا يأوون إليه، فاتفق رأيهم على أن يَسْتَهموا ويضربوا القُرعة، فمن خرجت عليه القُرعة سأل لأصحابه الطعام، فخرجت القرعة على محمد بن إسحاق بن خزيمة، فقال لأصحابه: أمهلوني حتى أتوضا وأصلي صلاة الخِيَرة. قال: فاندفع في الصلاة فإذا هم بالشموع وخصى من قِبل وَالِي مصر يدقُّ الباب، ففتحوا الباب فنزل عن دابته فقال: أيكم محمد بن نصر؟ فقيل: هو هذا. فأخرج صرة فيها خمسون دينارا فدفعها إليه، ثم قال: أيكم محمد بن جرير؟ فقالوا: هو ذا. فأخرج صرة فيها خمسون دينارا فدفعها إليه، ثم قال: أيكم محمد بن هارون ؟ فقالوا: هو ذا. فأخرج صرة فيها خمسون دينارا فدفعها إليه، ثم قال: أيكم محمد بن إسحاق بن خزيمة ؟ فقال: هو ذا يصلي، فلما فرغ دفع إليه الصرة وفيها خمسون دينارا. ثم قال: إن الأمير كان قائلا بالأمس فرأى في المنام خيالا قال: إنّ المحامد طووا كَشْحهم جياعًا، فأنفذ إليكم هذه الصِّرار، وأقسم عليكم إذا نفدت فابعثوا إلىَّ أمدكم.

وسردت لهم قصصا أخرى من الكتاب تبعث القوة والهمة في النفوس، والعزيمة على الطلب، وبذل النفس والنفيس في سبيله، وأجبت عن الأسئلة، ومنها سؤال عن خلق المرأة، فأوضحت لهم أن الرجل والمرأة كلاهما خلق من نفس واحدة، وكلاهما مستقل في الخلق وفي تلقي الأمر والنهي، والإطاعة والعصيان، وفي التوبة إلى الله تعالى والاستغفار، واستشهدت بآيات الكتاب الحكيم، ومنها سؤال عن معنى قوله تعالى "واصطنعتك لنفسي"، وآخر عما إذا كان الله قد أرسل أنبياء إلى أهل الهند والصين وما دونهما من البلاد التي لم يسمها القرآن الكريم.

درس عن الموت:

ثم خرجنا لصلاة العصر، وصلينا في داخل المسجد القبلي، ومشينا إلى المصلى المرواني، والذي يقع أسفل الزاوية الجنوبية الشرقية من المسجد الأقصى، وعرف هذا الجزء قديما بالتسوية الشرقية إذ بناه الأمويون أصلا كتسوية معمارية لهضبة بيت المقدس الأصلية المنحدرة جهة الجنوب حتى يتسنى البناء فوق قسمها الجنوبي الأقرب إلى القبلة على أرض مستوية وأساسات متينة ترتفع لمستوى القسم الشمالي، ويتكون المصلى المرواني من ستة عشر رواقا، وتبلغ مساحته أكثر من أربعة دونمات، وهو أكبر مساحة مغطاة للصلاة في الأقصى.

ولما دخلنا المصلى المرواني وجدناه مشغولا بالمعتكفين، وعددهم كبير، ومن بينهم بعض تلاميذي من المملكة المتحدة، فالتجأنا إلى الجانب الآخر من المصلى المرواني، وهو مصلى واسع، وبدأت الدرس بالإجابة عن الأسئلة: عن محبة الله لموسى عليه السلام، وعن معنى قوله تعالى (الرجال قوامون على النساء).

والدرس الآن من كتاب ذكر الموت من إحياء علوم الدين، فقدمت لهم ترجمة الإمام الغزالي، وتعريفا للإحياء، عارضًا لهم ما فيه من ضعف من ناحية تفسير القرآن الكريم، وما فيه من أحاديث ضعيفة بل ومنكرة وموضوعة، فليكن الطالب على توق وحذر، ولا يتلق إلا ما كان مدعوما بدليل صحيح وبينة جلية.

ثم شرحت لهم معنى قوله تعالى: (قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم)، والحديث النبوي الشريف: "أكثروا من ذكر هاذم اللذات الموت"، وقول الحسن البصري: "فضح الموت الدنيا"، وعرفت بالحسن البصري وفقهه، وأشياء تتعلق بذكر الموت، فالموت سبيل كل حي، وأمره أبين من كل بين، وإن الفناء من البقاء قريب، فقاتل الله الأماني والغرور، بينما ترى القوم في ديارهم وأوطانهم متمتعين بمعايشهم وغارقين في ملذاتهم وشهواتهم إذ قيل بادوا وانطفأوا، وكأنا بأقربينا ورهطنا يحملون جنائزنا إلى حفر يحثى علينا كثيبها ويسوى علينا ترابها، أيا هاذم اللذات ما منك مهرب، وما منك منجى، تحاذر نفوسنا منك ما سيصيبها ويباغتها، وقد خبرتنا بقايا من دارسات طلول عن أهلها الأخبار، قد سمعنا الوعظ لو كنا به معتبرين، وقرأنا جل آيات الكتب لو كنا بها منتفعين، فكل نفس ستوفى سعيها، ولها ميقات يوم لا تؤخر عنه ولا تستقدم.

وأجبت عن أسئلة، منها: إذا كان القرآن والسنة هما المصدران الرئيسان، ووجب علينا اتباعهما، أفلا يفرض ذلك صعوبات علينا تثبط سيرنا، فإن سياقنا يختلف عن سياق الماضين، أو ليس من الحكمة أن يراعى اختلاف الظروف والأحوال؟ فقلت: بلى، وإن أحكام القرآن والسنة تتضمن بيان السياق واختلاف الأحوال، وإن السيرة النبوية هي سياق السنة، وينبغي لنا أن ندرس السيرة، فنستلهم منها معنى السياق، فثمة ثلاثة أمور: التعليم القرآني، ثم تطبيق النبي صلى الله عليه وسلم له، وهو التطبيق الأول، وهو مذكور في السنة والسيرة، ثم التطبيق الجديد، وهو تطبيق كل مسلم للتعليم القرآني في حياته وفق ظروفه الخاصة وأوضاعه الطارئة مستوحيا من الهدي النبوي.

وانتهى الدرس في الساعة السادسة والنصف، وانقلبنا إلى الفندق، واسترحنا قليلا، ثم نزلنا للإفطار.

درس عن نزول المسيح عليه السلام:

بعد صلاة العشاء والتراويح لي درس عام، وعرجنا على الساحة المظللة بجانب قبة الصخرة، وإذا بالإمام الشيخ يوسف أبي سنينة مقبلا علينا، فسألناه أن يلقي الدرس بدلا مني، فوافق على ذلك، وكان درسه عن الدجال وعن نزول عيسى عليه السلام وعن ظهور المهدي، وذكر أن أحاديث المهدي متواترة، وأن عيسى عليه السلام يصلي في المسجد الأقصى خلف الإمام المهدي، وأن عيسى عليه السلام ينزل في المنارة الشرقية في دمشق، ثم يسير منها إلى بيت المقدس، ويؤم المسجد الأقصى منحدرا من جبل الزيتون، ويدخل من باب الرحمة ويصلي ركعتين، وينطلق إلى باب لد، ويقتل المسيح الدجال، وذكر أن المسيح الدجال موجود في بعض البحار مستشهدا بحديث تميم الداري.

وأراني أخالفه فيما ذكر من تواتر أخبار المهدي، ومن بعض تفاصيل أخبار عيسى والمهدي عليهما السلام، ولا أنشط لبيان ذلك الخلاف.

رجوعنا إلى الفندق:

بعد انتهاء الدرس نهضنا إلى باب حطة وهو مخرجنا إلى الفندق، فصادفناه مغلقا، ودفعنا إلى باب السلسلة وهو مفرط نأيا عن رحالنا، وخرجنا منه متسللين من حارات اليهود، وهم مزدحمون في الشوارع مع أنه قد مضى من الليل أكثره، ولم نسكن إلى مضاجعنا إلا وقد أضنانا المشي وأنهكنا الجهد.

الحلقة السابقة هــــنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين