علماء الإسلام في الأندلس -1 من 5 -

أيها السادة: أحدثكم عن أمة من أهل العلم عاشوا في السنين الخالية، ولا أقصد بحديثي عنهم الدعوة إلى أن نأخذ بكل مظهر من مظاهرهم، أو نقتدي على كل أثر من آثارهم، فإن لكل جيل شأناً، ولكل دولة لبوساً، وإنما هي نظرة نلقيها على سيرة أولئك العلماء من الناحية التي يتمثل فيها أدب الإسلام، وتتراءى فيها الهمة النبيلة، وهي ناحية لا تختلف باختلاف المواطن، ولا تتبدل ما تبدلت الأجيال.

وإذا كانت بلاد الأندلس قد أحيط بها، وتقلصت ظلال الإسلام من أقطارها، وكان على علمائها الذين شهدوها يوم كانت تتقلص نصيب من التبعة غير قليل، فنحن إنما نحدثكم عن العلماء الذين ظهروا أيام شباب الدولة الإسلامية وكانوا العضد الأقوى في بسط سلطانها وإقامة معالمها، أو نحدثكم عن أفراد من العلماء نشأوا أيام هبوط تلك الدولة، وقضوا من واجب العلم والإرشاد ما استطاعوا، ولكنهم وجدوا في الآذان وقرا، وعلى الأبصار غشاوة:[وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا القَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا] {الإسراء:16}.

سبب نهضة العلوم الإسلامية بالأندلس:

تزهو العلوم بين الأمة وتضرب أشعتها في طول البلاد وعرضها، متى هيأ اللهُ تعالى لها من أمرها سببين اثنين هما:

صحة طرق التعليم، ثم ما تكون عليه الدولة من كياسة وشعور بقيمة العلم ورجاله المصلحين.

أما صحة طرق التعليم: فهي التي تنهض بطلال العلم الأذكياء إلى أن يرسخوا في فهم أصول الشريعة وتعرُّف مقاصدها في وقت غير بعيد، فيتيسَّر لطالب هذه العلوم أن يبلغ فيها أشدَّه، وهو لا يزال في عنفوان شبابه، فيتصدَّى للتدريس أو التأليف أو الدعوة، وعزمه في قوة، وهمته في نشاط، وفؤاده في ذكاء.

وأما كياسة الدولة: ويقظتها لما في علوم الإسلام من سنن الرقي وسعادة الحياة فذلك ما يجعلها تعمل على نَفاقها، وذلك ما يدعو إلى التنافس في طلبها، فلا يلبث الناس أن يروا لأهل العلم مواقف شريفة وآثاراً فاخرة، وما هذه المواقف والآثار إلا عصمة للعقول من أن تضل، ووقاية للدولة من أن تستخف بالشرائع فتمقتها الأمة وتشقى.

قد يخرج من بين التعاليم الملتوية، أو يظهر في عهد الدولة الجافية أفراد يسمو بهم صفاء الفطرة أن يكون علمهم غزيراً متناسقاً، وتفكيرهم موزوناً مثمراً، ولكني أتحدث عن الثقافة الفائقة تسود بين طلاب العلم، فهذه لا تظفر بها المعاهد والمدراس الإسلامية إلا أن تستقيم طرق التعليم، ويكون أولو الأمر ممن يرجون لله وقاراً.

إذا اجتمع هذا الأمران: سداد نظام التعليم، وسلامة ضمير الدولة، صعدت هذه المعاهد والمدارس، وأطلعت من أعلام الهداية وحماة الفضيلة خلقاً كثيراً.

وقد كان منهج التعليم في بلاد الأندلس جيداً، وكان رجال دولها في أغلب أحوالهم ينطوون على ضمائر سليمة وسرائر مطمئنة بالإيمان.

نعني بجودة منهج التعليم أنهم كانوا يسيرون في دراسة العلم على طريقة البحث في نفس العلم والغوص على لبابه، ولم تأكل المختصرات المغلقة، والمناقشات اللفظية من مجهوداتهم وأوقاتهم ما هم في حاجة إلى إنفاقه في حقائق العلم، وإن حقائق العلم لشيء كثير.

ولا يغيب عنا أنهم ابتلوا في أواخر حياتهم كما ابتلي غيرهم بشيء من هذه المختصرات، وأخذت المناقشات في ألفاظ المؤلفين تشغل طرفاً من أوقاتهم، ولكنها لم تشتد كما اشتدت في معاهدنا منذ زمن، وأوشكت أن تصير دون المباحث الأصلية في العلم حجاباً مستوراً.

وأما احتفاء أمراء الأندلس بعلوم الإسلام فإن تاريخهم ينطق بأنهم كانوا يعملون لحياتها ونمائها، ويوجهون عنايتهم إلى الاستكثار من رجالها، ولهذه العناية مظاهر شتى:

من هذه المظاهر: رعايتهم لمقامات العلماء، ونظرهم إليها بعطف واحترام، قال أبو عبد الله المقري في وصف الأندلس: (وإن ملوكها كانوا يتواضعون لعلمائها ويرفعون أقدارهم). وسنسوق إلى حضراتكم في بعض الفصول الآتية وقائع تشهد بأن أمراء الأندلس كانوا يجلون علماء الشريعة ويحتملون منهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولو كان وعظهم غليظاً خشناً، ذلك لأنهم يحسون منهم الإخلاص حين ينهون وحين يأمرون، وشأن المخلص في قول الحق أن ترمقه القلوب بمهابة وإن كانت مطبوعة على قسوة واستبداد.

ومن هذه المظاهر : حملُهم أهل العلم على التأليف في علوم الدين، وتلقيهم للمؤلفات القيِّمة بما شأنه أن يبعث الهمم على الإتيان بأمثالها، وأذكر في هذا الباب أن بعض علماء المالكية بالعراق شرع في تأليف سماه "الاستيعاب" وقصد فيه إلى جمع أقوال الإمام مالك خاصة لا يشركها بقول أحد من أصحابه، وكتب منه خمسة أجزاء، ثم أدركه الموت وهو لم يتمه بعد، ووقعت هذه الأجزاء إلى الحكم بن عبد الرحمن الناصر فأعجب بها واقترح على أبي بكر القرشي وأبي عمرو الأشبيلي أن يكملا هذا الكتاب وفتح لهما دار كتبه للبحث والتنقيب، فأكملاه في مائة جزء، ولما قدَّماه إليه ابتهج به سروراً، وقلدهما منصب الشورى في منصب القضاء، على أن أول الأستاذين المؤلفين وهو أبو بكر القرشي لم يزد عمره يوم ولي هذا المنصب على ثلاثين سنة.

ومن هذه المظاهر: أن في الأمراء أنفسهم من كانوا يقبلون على درس علوم الشريعة درساً وافياً، كعبد الرحمن الأوسط والحكم ابن عبد الرحمن الناصر ومجاهد العامري أحد ملوك الطوائف شرقي الأندلس، ومنهم من كانوا يعقدون مجالس يتحاور فيها أهل العلم بحضرتهم، وقد كان للمنصور بن أبي عامر مجلس في كل أسبوع، يجتمع فيه أهل العلم للمناظرة بحضرته، ولا يدعه إلا حين يخرج مجاهداً في سبيل الله.

ومما نهض بالعلوم في الأندلس إقبال أهل العلم على الرحلة إلى الشرق، ويقيمون فيه الشهور والسنين، ثم يعودون إلى أوطانهم بما يتجدَّد من علم نافع أو رأي راجح أو استنباط بديع، وقلَّما يمر الناظر على حياة عالم كبير من قدمائهم ولا يجد له رحلة.

يرحل علماء الأندلس إلى الشرق، وريثما يملأ الرجل حقيبته من العلم، ويبلغ في الاطلاع على البلاد ما استطاع، ينقلب إلى وطنه ليبث ما استفاد من علم، أو يحدث بما شاهد من أحوال وآثار.

وكان هؤلاء الراحلون يؤثرون العود إلى أوطانهم على الإقامة بالشرق إلا قليلاً أذكر منهم ابن مالك، وأبا حيان، وأبا بكر الطرطوشي، وأبا القاسم الشاطبي الإمام في علم القراءات، فإن ابن مالك استوطن دمشق، والثلاثة بعده استوطنوا القاهرة إلى أن استلمتهم يد المنون.

وممن وردوا الشرق فابتسم في وجوههم ثم أبوا إلا أن يعودوا إلى وطنهم القاسم بن محمد بن سيار، فقد لقي هذا الأستاذ في مصر حظوة بالغة ومقاماً كريماً، وعزم مع هذا على الإياب إلى بلده بالأندلس، ولما قال له العلامة محمد بن عبد الحكم: أقم عندنا فإنك تعتقد رياسة ويحتاج الناس إليك، أجابه بقوله: (لابد من الوطن).

قال القاسم بن سيار :(لابدَّ من الوطن) لأن مقاليد الأمور في وطنه بيد دولة وطنية لا تنظر إلى من يعود إليها من الشرق بعين الريبة، فتعجّل إلى نفيه من الأرض أو تضرب عليه حصاراً من عيون الرقباء وآذان المنحسين.

يتبع

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين