ذكر جميل لأيام في القدس والخليل (1)

?الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد إمام المرسلين وخاتم النبيين، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم إلى يوم الدين.

?وبعد: فأراني متبرما بالمقام ومتضجرا بطول لبث ببلد وثواء، ومتطلعا إلى التجول في أرض الله في طرب وارتياح، أزيل عن نفسي السآمة والملل، وأرد إليها بعض السرور والاستجمام، متمثلا بقول أبي تمام:

وطول مقام المرء في الحي مخلق

لديباجتيه فاغترب تتجدد

فإني رأيت الشمس زيدت محبة=إلى الناس أن ليست عليهم بسرمد

?ولدتُ ونشأتُ في الهند، ثم قُدِّر لي قطون واستقرار في بقعة من بقاع الغرب، وأنا في حنين شديد وصبوة بالغة إلى أرومة الإسلام ومحتده، إن قلبي بالحجاز ونجد وأجلادي هندية إفرنجية، فهل بعد هذا التعذيب من تعذيب، ولقد أجاب الله دعوتي إذ يسَّر لي في شهر رمضان المبارك سنة ست وثلاثين وأربعمائة وألف أن قضيت مع زوجي وبناتي مريم وفاطمة وعائشة أسبوعين حافلين بالخيرات والبركات في أرض فلسطين الطاهرة، أرض الإسراء والمعراج، أرض الأنبياء والمرسلين، وأرض الصديقين والشهداء والصالحين، فدتها نفسي وما ملكت يميني.

?وكانت رحلتنا هذه والتي جمعت عددا كبيرا من الزائرين والزائرات ضمن برنامج سنوي ينسِّقه أخونا وصاحبنا زيد الإسلام تحت رعاية مطبعة البروج التي يترأسها، وزيد شاب ذكي مثقف معني بالحديث والسماعات والإجازات، ويملك مؤهلات نادرة من التنظيم والإدارة، وكنا جميعا مغمورين ببهجة وسعادة ونحن عازمون على هذا المسير المبارك يراودنا شعور نفسي جميل وإحساس في الداخل غامض يستعصي على الوصف استعصاءا:

تغرب عن الأوطان في طلب العلا

وسافر ففي الأسفار خمس فوائد

تفـرج هم واكتـساب معـيشة

وعلـمٌ وآداب وصحبة ماجد

وإن قيـل في الأسـفار ذل ومحنة

وقطع الفيافي وارتكاب الشدائد

فمـوت الفتى خير لـه من مقامه

بدار هـوان بين واش وحاسد

?خرجنا صباح الساعة الثامنة والربع من أوكسفورد إلى مطار كيتوك في ضاحية من ضواحي لندن، ولقد تكرم علينا صاحبنا الدكتور المقرئ المجود شامخ سعيد أن يسوقنا في سيارته إلى المطار، ورافقتنا في السيارة الأخت العزيزة آرزو أحمد من مدينة مانتشستر المقيمة في أوكسفورد، وخلفتُ في منزلي في أوكسفورد بنتي الكبرى حسنى وأولادها عبد الله وعالية وهبة وزوجها فيض الله، حفظهم الله تعالى ورعاهم، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت إليه أنيب.

?وصلنا إلى المطار في الساعة التاسعة والنصف، وقد سبقنا إليه بعض أفراد مجموعتنا، وعدد الذين يصحبوننا في هذه الرحلة الميمونة مائتان وستون نفسًا رجالا ونساءً، جلهم من المملكة المتحدة، وبعضهم من الولايات المتحدة الأمريكية وأوربا وغيرها من البلدان، وبعد يسير من وصولنا إلى المطار طلع لنا زيد وآخرون، وقمنا بالإجراءات اللازمة، وأخذنا في الانتظار لموعد إقلاع الطائرة، وجرى الحديث بيننا حول الرحلة ووَلَهنا بالأراضي المقدسة، وتلهُّفنا إلى قضاء أيامنا وليالينا بها في العبادة والطاعات والذكر، وحذّرنا زيد مما يواجهه المسافر المسلم من توقف طويل شاق في استفسارات وأسئلة وتفتيشات مؤلمة ومهينة على مطار تل أبيب، وقد يستغرق ذلك ست ساعات أو أكثر.

?كان موعد إقلاع الطائرة الساعة الواحدة إلا الثلث، ولكن الرحلة تأخرت بأكثر من ساعة، فلم تقلع الطائرة إلا بعد الساعة الثانية والربع، وقرأنا دعاء الركوب "سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون"، وبعد إقلاع الطائرة بنصف ساعة تقريبًا قصدتُ مؤخرتها وصليت الظهر قائمًا، وبدأت الطائرة تتحرك وتضطرب بشدة، فأمر الطيار الركاب أن يأخذوا مقاعدهم ويشدوا أحزمتهم، واقتربت إحدى المضيفات مني وسألتني أن أرجع إلى مقعدي، فخشيت أن لا أظفر بمثل هذه الفرصة لأداء الصلاة، ولم أرض أن أرجع إلى مقعدي قبل إتمامها، فصليت العصر جالسًا، ثم رجعت إلى مقعدي، وليس في هذه الطائرة الصغيرة مكان يتسع لأداء الصلاة في جماعة، ومؤخرتها ضيقة جدا، ورأيت أنه يشق على رفاقي أن يصلوا جميعًا في ذلك المكان الضيق، فأشرت عليهم أن يصلوا في مقاعدهم إيماءًا متجهين إلى القبلة.

?وخلال الرحلة قام زيد بتعريف النفر بعضهم ببعض، ركبنا الطائرة صِحابا ورِفاقا منقلبين إخوانا وخُلاَّنا متقاسمين وجدانا وشوقا، نتذكر العهد القديم، ونجدد دارس الوصل، ونتطارح حديث القدس، وصار الشوق يقرب لنا دارا وهي نازحة، ومن عالج الشوق لم يستبعد الدار، وما مسكن من أحببته ببعيد.

?وأفطرنا في الطائرة في الساعة الثامنة والنصف من توقيت البلد الذي هو محط رحالنا، وأجَّلنا صلاة المغرب إلى وصولنا إلى المطار، وفي الطائرة شعرتْ بنتي عائشة بالثقل فذرعها قيء شديد، وأهم ذلك أختها فاطمة وأمهما، ولكن المضيفات في الطائرة ساعدننا وقمن بتنظيف مقعد عائشة وملابسها تنظيفًا كاملا.

?هبطت الطائرة في مطار تل أبيب (اسمها بالعربية "تل الربيع"، وكلمة "أبيب" بالعبرية تعني الربيع) في الساعة التاسعة مساءًا، وأخذت الإجراءات نحو ساعتين ونصف، أي أقل مما كنا نتوقع، وصلينا المغرب والعشاء جمعًا، وأدركنا نحن المسلمين وكأن السادة الجدد لهذه البلاد غير مرحبين بنا، بل مستهينون بنا مزدرون، ومن رام التكريم من اللئام فقد حدثت نفسه بالمحال، ولكن الأرض التي يمَّمناها عرفتنا غير منكرة فاحتفت بنا احتفاء مُجلة لنا أيما إجلال، وآوت قلوبنا المعناة بهواها ومهجنا المبتلاة بجواها، فهي أرض تلك النفوس الكريمة التي غرست محبتها في قلوبنا، فقطعنا مسافات الزمان في لحظات وثوان ملقين بأنفسنا في أحضان سادتها الغزاة الفاتحين من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كالئي دين الله حائطيه، بهم هائمين ولهم هاوين، وفي دون ما تضمه جوانحنا من الوداد والغرام تشق جيوب بل تشق قلوب.

?ثم أقلتنا ثلاث حافلات إلى القدس الشريف، مارين بطرق وشوارع ودروب طالما مشى عليها الأنبياء والرسل عليهم صلوات الله وسلامه، والصحابة والتابعون والعلماء والصالحون رضي الله عنهم أجمعين، فشممنا طيب شذاهم وتنسمنا فوح عبيرهم، ولقد زادنا مسرى الصبا الهائج من الأرض المقدسة وجدا على وجد، وشعرنا كأن كل صقع من أصقاع هذه الديار المقدسة فَقَدَ يوسف له، وكأن الحي في كل بيت منه يعقوب، ووصلنا إلى القدس حوالي الساعة الواحدة، وما استوصف الناس من شيء يروقهم إلا رأينا معقد آمالنا فوق ما وصفوا، متضوعا بطنُه مسكا وناشرا عطرا.

?ووزعت مجموعتنا إلى ثلاثة فنادق قرب باب الساهرة أحد أبواب سؤر مدينة القدس القديمة، وأقمت أنا مع أهلي في فندق الأراضي المقدسة حيث يقيم زيد والعدد الأكبر من المجموعة، ويقع الفندق في شارع هارون الرشيد بجوار ميدان لتدريب ركوب الخيل، وغرفتي في الدور الثاني منه رقم 223، وهي غرفة تطل على سؤر مدينة القدس وقبة الصخرة، متفضلة علينا بمنظر رائع ومشهد جميل، نزلنا فيها آلفي الغربة مرتاحين بقول الشافعي:

ما في المقامِ لذي عقلٍ وذي أدبِ

مِنْ رَاحَة ٍ فَدعِ الأَوْطَانَ واغْتَرِبِ 

سافر تجد عوضاً عمَّن تفارقهُ

وَانْصِبْ فَإنَّ لَذِيذَ الْعَيْشِ فِي النَّصَبِ 

إني رأيتُ وقوفَ الماء يفسدهُ

إِنْ سَاحَ طَابَ وَإنْ لَمْ يَجْرِ لَمْ يَطِبِ 

والأسدُ لولا فراقُ الأرض ما افترست

والسَّهمُ لولا فراقُ القوسِ لم يصب 

والشمس لو وقفت في الفلكِ دائمةً

لَمَلَّهَا النَّاسُ مِنْ عُجْمٍ وَمِنَ عَرَبِ 

والتَّبْرَ كالتُّرْبَ مُلْقَى ً في أَمَاكِنِهِ

والعودُ في أرضه نوعً من الحطب 

فإن تغرَّب هذا عزَّ مطلبهُ

وإنْ تَغَرَّبَ ذَاكَ عَزَّ كالذَّهَبِ

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين