حدث في الثامن والعشرين من المحرم

في الثامن والعشرين من المحرم لعام 732 توفي في حماة، عن 60 عاماً، الملك المؤيد أبو الفداء، عماد الدين إسماعيل ابن الملك الأفضل نور الدين علي ابن الملك المظفر تقي الدين محمود ابن الملك المنصور ناصر الدين محمد ابن الملك المظفر تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب، الملك العالم والمؤرخ الجغرافي، صاحب كتاب المختصر في أخبار البشر وكتاب تقويم البلدان.

ولد الملك المؤيد في دمشق سنة 672 بدار ابن الزنجبيلي، وكان جده الأكبر الملك المنصور محمد قد خرج بأهله من حماة إلى دمشق هرباً من غزو التتار، وتوفي جده في سنة 683، وتولى الحكم بعده حفيده الملك المظفر محمود، ابن عم الملك المؤيد، حتى وفاته في سنة 698، أما والده الملك الأفضل فكان أميراً لم يتول الملك ولكنه كالوزير مع ابن أخيه، وتوفي والده في دمشق سنة 692 ودفن في حماة.

وكانت تلك حقبة مباركة شهدت فيها بلاد الشام استمراراً لحملة إنهاء الوجود الأجنبي التي بدأها نور الدين زنكي وصلاح الدين الأيوبي بدحر الغزاة المعتدين من المغول والصليبيين، وحفلت بالحملات الجهادية يشنها سلاطين المماليك على المغول القادمين من الشرق، وعلى الصليبيين في السواحل الشامية، وعلى الروم البيزنطيين في شمال سورية الذين تحالفوا مع الصليبين ثم مع المغول، فكان لا بد من تأديبهم وكسر شوكتهم، وشارك الملك المؤيد منذ يفاعته في أغلب الحملات التي شنها سلاطين المماليك.

و كان السلطان المملوكي الملك المنصور سيف الدين قلاوون، المولود سنة 620 والذي تولى السلطنة سنة 678، قد اهتم اهتماماً كبيراً بالجهاد وإعداد الجيوش، وكان يباشر أحوال مماليكه بنفسه، حتى أنه كان في غير يوم الخدمة يوضع له كرسي ويخرج أهل كل طبقة إلى الرحبة فيلعبون بالرمح، ولهم معلمون، ثم إذا فرغوا من ذلك يتصارعون إلى الظهر، فإذا صلوا الظهر نزلوا مع الخادم لرمي النشاب، وهذا كان دأبهم دائما، وُرزق فيهم النصر بحسن نيته وحسن تدبيره ورأيه.

وفي أول سنة 684 خرج السلطان قلاوون من القاهرة إلى الشام لحرب الصليبيين، ولما وصل إلى دمشق جاء إلى خدمته الملك المظفر صاحب حماة، وعمه الملك الأفضل وهو والد الملك المؤيد، فأكرمهما السلطان إكراما كثيرا، وأرسل إلى الملك المظفر في اليوم الثالث من وصوله التقليد بسلطنة حماة، والمعرة، وبارين، مع التشريف وشعار السلطنة، فركب الملك المظفر بشعار السلطنة، وحضرت أمراء السلطان وتقدموا عساكره، فساروا معه من داره داخل باب الفراديس إلى قلعة دمشق، ودخل الملك المظفر عند السلطان، فأكرمه، وأجلسه إلى جانبه على الطراحة، وطيَّب خاطره، وقال له: أنت من بيت مبارك، ما حضرتم في مكان إلا وكان النصر معكم. ثم عاد الملك المظفر وعمه الأفضل إلى حماة، لإعداد العسكر الحموىّ للجهاد مع السلطان الملك المنصور قلاوون.

وبعد شهر سار السلطان قلاوون بالعساكر المصرية والشامية، وحاصر حصن المرقب قرب بانياس في سورية، وكان حصن الإستباريين- فرسان القديس يوحنا - من الصليبيين، وهو في غاية العلو والحصانة، لم يطمع أحد من الملوك الماضين في فتحه، وأرفق صورة له، فزحف بعسكره عليه، وأخذ حجارو جيشه يزعزون السور وينقبونه، ونصب عليه عدة مجانيق كباراً وصغاراً، وحضر السلطان المؤيد هذا الفتح وقال في تاريخه: يقول العبد الفقير مؤلف هذا المختصر: إنني حضرت حصار الحصن المذكور، وعمري إذ ذاك نحو اثنتي عشرة سنة، وهو أول قتال رأيته، وكنت مع والدي، ولما تمكنت النقوب من أسوار القلعة، طلب أهله الأمان، فأجابهم السلطان، رغبة في إبقاء عمارته، فإنه لو أخذه بالسيف وهدمه، كان حصل التعب في إعادة عمارته، فأعطى أهله الأمان، على أن يتوجهوا بما يقدرون على حمله، غير السلاح، وصعدت السناجق السلطانية على حصن المرقب، وتسلمه في الساعة الثامنة من نهار الجمعة، تاسع عشر ربيع الأول سنة 684. وأنهت هذه الحملة وجود الإسبتاريين في هذا الحصن بعد حوالي مئة سنة.

وتوفي السلطان قلاوون في سنة 689 فخلفه ابنه الملك الأشرف خليل، وكان عالي الهمة شجاعا مهيبا، استفتح ملكه بالجهاد، فقصد بلاد الشام وقاتل الإفرنج، واسترد منهم في سنة 690 عكا وحيفا وصورا وصيدا وبيروت وبيسان وجميع الساحل، وتوغل في داخل أراضيهم، وقد شارك الملك المؤيد في إحدى هذه الحملات التي قام بها السلطان المملوكي الملك الأشرف سنة 691، حين نازل قلعة الروم، وآثارها في تركيا تسمى اليوم Rumkale شمالي نصيبين Nizib، وكانت مقام بطرك الأرمن ويدعى الكاثوليكوس، وهي حصن على شط الفرات في غاية الحصانة، ونصب السلطان الملك الأشرف عليها عشرين منجنيقاً حتى فتحها بعد 33 يوماً عنوة، قال الملك المؤيد في تاريخه:

وهذا الحصار من جملة الحصارات التي شاهدتها، وكانت منزلة الحمويين، على رأس الجبل المطل على القلعة من شرقها، كنا نشاهد أحوال أهلها في مشيهم وسعيهم في القتال وغير ذلك، واشتدت مضايقتها، ودام حصارها، وفتحت بالسيف في يوم السبت حادي عشر رجب من سنة 691، وقتل أهلها ونهب ذراريهم، واعتصم الكاثوليكوس خليفة الأرمن المقيم بها في القلة، وكذلك اجتمع بها من هرب من القلعة، وكان منجنيق الحمويين على رأس جبل المطل على القلة، فتقدم مرسوم السلطان إلى صاحب حماة، أن يرمي عليهم بالمنجنيق، فلما وترناه لنرمي عليهم، طلبوا الأمان من السلطان، فلم يؤمنهم إلا على أرواحهم خاصة، وأن يكونوا أسرى، فأجابوا إلى ذلك، وأخذ الكاثوليكوس وجميع من كان بقلة القلعة، أسرى عن آخرهم، ورتب السلطان علم الدين سنجر الشجاعي لتحصين القلعة، وإصلاح ما خرب منها، وجرد معه لذلك جماعة من العسكر، وأقام الشجاعي وعمرها وحصنها إلى الغاية القصوى، ورجع السلطان إلى حلب، ثم إلى حماة، وقام الملك المظفر بوظائف خدمته، ثم توجه السلطان إلى دمشق، وأعطى الملك المظفر الإذن، فأقام ببلده، وسار السلطان إلى الديار المصرية. وأُرفق صورتين لما تبقى من هذه القلعة اليوم.

ولم تطل مدة السلطان قلاوون؛ هذا السلطان المجاهد الشجاع، فقد قتله غيلة بعض المماليك في مصر سنة 693، وولى أمراء المماليك أخاه محمد بن قلاوون ولقبوه بالملك الناصر وهو في التاسعة من عمره، ثم خُلع منها لحداثته سنة 694 وأرسل إلى الكرك، ثم أعيد للسلطنة بمصر سنة 698، فاستمر كالمحجور عليه لا حول له ولا قوة.

وفي تلك السنة سنة 698 توفى الملك المظفر في حماة عن 42 عاماً، وهو كما ذكرنا ابن عم الملك المؤيد، وذلك بعد أن حكم حماة مدة 15 عاماً، واختلف الأمراء الموجودون فيمن يكون صاحب حماة من بعده، ولكن جاء الأمر من القاهرة بتعيين قرا سنقر أحد الأمراء المنفيين إلى سورية، فجاء إلى حماة، ونزل بدار ملك المظفر، ولكنه لم يعامل أمراء حماة معاملة طيبة، إذ يقول الملك المؤيد في تاريخه: وقمنا بوظائف خدمته، وأخذ من ترِكة صاحب حماة ومنا أشياء كثيرة، حتى أجحف بنا، ووصلت المناشير من مصر إلى أمراء حماة وجندها باستقرارهم على ما بأيديهم من الإقطاعات، فاستمرينا على ما بأيدينا.

وفي سنة 699 جاء حاكم جديد لحماة هو الأمير المملوكي زين الدين كتبغا المنصوري، ومنح لقب نائب السلطنة، ولم تطل أيامه فقد توفي سنة 702، واستمرت مشاركة الملك المؤيد في الجهاد ففي سنة 701 شارك في حملة أخرى على سيس عاصمة الدولة الأرمنية في كيليكيا، وتقع اليوم جنوب كوزان شمالي شرقي أضنه، وذلك ضمن قوات أعدها زين الدين كتبغا نائب السلطنة بحماة، قامت بحصار سيس وإرهاب من حولها، بحرق الزرع ونهب الموجودات ثم عادت إلى بلاد الشام.

وفي سنة 702 كان الملك المؤيد من قواد الجيوش الإسلامية التي واجهت المغول، فقد كان قائد عسكر حماة في معركة عَرَض قرب حمص التي هزم فيها المغول، وكان هذا النصر تمهيداً للنصر الكبير عليهم بعد أقل من شهر في معركة مرج الصُفر في جنوب سورية، فقد جمع المغول جموعاً عظيمة بقيادة قطلوشاه نائب قازان، وكان حاكم حماة زين الدين كتبغا قد طلب من الملك المؤيد البقاء لكشف المغول الذين وصلوا إلى حماة ولم يهاجموها، وذكر الملك المؤيد في تاريخه: فلما شاهدت جموعهم ونزولهم بظاهر حماة، وكنت واقفاً على العليليات - إحدى ضواحي حماة - سرت من وقتي ولحقت زين الدين كتبغا بالقطيفة، وأعلمته بالحال، وسارت العساكر الإسلامية إلى دمشق. ثم يصف الملك المؤيد النصر العظيم الذي حققته جيوش مصر والشام على المغول، وهزيمتهم الساحقة.

وفي آخر سنة 702 توفي زين الدين كتبغا، فأرسل الملك المؤيد رسولاً إلى القاهرة ليسعى في تعيينه ملكاً على حماة: على قاعدة أصحابها من أهلي، فوجد قاصدي الأمر قد فات، وقُرِّرت حماة لسيف الدين قبجق المقيم بالشوبك، وكتب تقليده بها. ولكن السلطان في القاهرة طيّب خاطر الملك المؤيد بما أرسله إليه من هدايا ووعود، يذكرها بقوله: وحصل إليَّ من الصدقات السلطانية الوعود الجميلة الصادقة بحماة، وتطييب الخاطر، والاعتذار بأن كتابي وصل بعد خروج حماة لقجبق.

وفي سنة 707 حدث تطور مهم في القاهرة، فقد ملّ الملك الناصر، وقد بلغ من العمر 26 عاماً، أن يبقى تحت سيطرة كبار الأمراء، فأعمل المكيدة و أظهر العزم على الحج، ونزل بقلعة الكرك وأعلن أنه قد ترك السلطنة، فاجتمع أمراء المماليك ونادوا بالأمير بيبرس الجاشنكير سلطانا على مصر والشام سنة 708 ولقبوه بالملك المظفر، ولكن الملك الناصر وثب عام 709، فدخل دمشق، وزحف إلى مصر فقاتل المظفر بيبرس، وعاد إلى عرشه وقتل بيبرس، وشرد أنصاره، وامتلك قياد الدولة فخطب له بمصر وطرابلس الغرب والشام والحجاز والعراق وديار بكر والروم وغيرها، وبقي في الحكم حتى توفي سنة 741 عن 57 عاماً.

وانضم الملك المؤيد بجنوده إلى الملك الناصر في دمشق، وكان من كبار مؤيديه، وسار معه إلى القاهرة، ومكافأة على هذا التأييد: حصَل من مولانا السلطان المواعيدُ الصادقة بالتصدق عليَّ بحماة، على عادة أهلي وأقاربي. وبعدها بشهور عينه الملك الناصر نائب السلطنة بحماة في سنة 710 مكان الأمير أسندمر الكرجي، فخرج إليها من دمشق التي كان مقيماً فيها.

وفي أول سنة 712 حاول أقوش الأفرم أحد أمراء المماليك أن يتمرد ويستقل بالشام، وانضم إليه بعض الأمراء على رأسهم قراسنقر، ولكن أغلب القواد أنكروا عليه ذلك وحاولوا القبض عليه، وشارك في تعقبه الملك المؤيد على رأس قوة من عسكر حماة، وصلت حتى عانة على ضفاف الفرات ثم عادت دون أن تدرك المتمردين الذين انضموا إلى المغول.

وفي سنة 712 رفع الملك الناصر في القاهرة من مكانة الملك المؤيد، فأصدر أمراً بتعيينه ملكاً على حماة وما حولها، استمراراً لملك أجداده، وأركبه في القاهرة بشعار المملكة وألوية السلطان، ومشى كبار الأمراء في موكبه. وأورد الملك المؤيد في تاريخه جزءاً من مرسوم التقليد، ونورد هنا بعضاً مما أورده الملك المؤيد من هذا المرسوم:

أما بعد: فإن أولى من عقد له لواء الولاء، وتشرفت باسمه أسرة الملوك وذوي المنابر، وتصرفت أحكامه في ما يشاء من نواهٍ وأوامر، وتجلى في سماء السلطنة شمسه، فقام في دستها مقام من سلف، وأخلف في أيامنا الزاهرة درج من أسلافه، إذ هو ببقائنا إن شاء الله خير خلف، من ورث السلطنة لا عن كلالة، واستحقها بالأصالة والإثالة والجلالة، وأشرقت الأيام بغرة وجهه المنير، وتشرفت به صدور المحافل، وتشوق إليه بطن السرير، ومن أصبح لسماء المملكة الحموية، وهو زين أملاكها، ومطلع أفلاكها، وهو المقام العالي العمادي ابن الملك الأفضل، نور الدين علي، ابن السلطان الملك المظفر، تقي الدين ولد السلطان الملك المنصور، ولد السلطان الملك المظفر تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب.

وهو الذي ما برحت عيون مملكته إليه متشوفة، ولسان الحال يتلو ضمن الغيب، قل اللهم مالك الملك، تؤتي الملك من تشاء، إلى أن أظهر الله ما في غيبه المكنون، وأنجز له في أيامنا الوعود وصدق الظنون، وشيد الله منه الملك بأرفع عماد، ووصل ملكه بملك أسلافه وسيبقى في عقبه إن شاء الله إلى يوم التناد، فلذلك رسم بالأمر الشريف العالي المولوي السلطاني الملكي الناصري الباهري، لا زالت الممالك مغمورة من عطائه، والملوك تسري من ظل كنفه تحت مسبول غطائه، أن يستقر في يد المقام العالي العمادي المشار إليه، جميع المملكة الحموية، وبلادها، وأعمالها، وما هو منسوب إليها، ومباشرها التي يعرضها قلمه وقسمه، ومنابرها التي يذكر فيها اسم الله تعالى واسمه، وكثيرها وقليلها، وحقيرها وجليلها، على عادة الشهيد الملك المظفر تقي الدين محمود، إلى حين وفاته.

ومنح هذا المرسوم الملك المؤيد استقلالا كاملاً بملك حماة يفعل فيها ما شاء دون الرجوع إلى القاهرة، ولا يرد عليه مرسوم من مصر بأمر ولا نهي لأحد من نائب أو وزير، مع بقاء التزامه بالمشاركة بجنوده من حماة في الحملات العسكرية التي تجردها الدولة من الشام ومصر، وزيادة في إكرامه أمرَ السلطانُ الأمراءَ المقيمين بحماة أن ينتقلوا إلى حلب، وكانوا نحو أربعة عشر أميراً، ولم يبق غير من اختاره الملك المؤيد، واعتبر هو ذلك من أعظم ما تفضل به السلطان عليه.

بل أمر السلطان الملك الناصر نوابه إذا كتبوا للملك المؤيد أن يكتبوا إليه في صدر رسائلهم بأن المرسل يقبل الأرض بين يديه، وهو تشريف كان مختصاً بالسلطان، وكانت الرسائل إليه على النحو التالي: يقبل الأرض بالمقام العالي الشريف المولوي السلطاني الملكي المؤيدي العمادي، وكان السلطان ذاته يكتب إليه: أخوه محمد بن قلاوون، أعز الله أنصار المقام الشريف العالي السلطان الملكي المؤيدي العمادي.

وجعل الملك المؤيد رحلة سنوية له إلى مصر ومعه أنفس الهدايا للسلطان من الرقيق والجواهر والخيول المسوّمة - وكان في إسطبلات السلطان في مصر 4.800 فرس - والتحف والطرف، وتوطدت العلاقة بين السلطان الملك الناصر وبين الملك المؤيد فأصبحت علاقة صداقة ومحبة، إذ كان السلطان الملك الناصر يطلب إلى مصر الملك المؤيد، ويبالغ في إكرامه ويخرجان معاً للصيد، ويعود الملك المؤيد من مصر محملاً بأضعاف ما أتى به من الهدايا، وكان السلطان الملك الناصر غاية في الكرم، قيل: وهب في يوم واحد ما يزيد على مئة ألف دينار ذهبا، ولما أراد السلطان الحج سنة 719 أرسل في طلب الملك المؤيد ليكون في صحبته، وأعفى السلطان بلاد الشام من ضرائب مزروعات سنة 723 بسبب الجفاف وانقطاع الأمطار، وأرسل رسالة للملك المؤيد أن لا يرسل له هداياه السنوية مقدراً الضائقة الاقتصادية التي تمر بها البلاد، ولكن المؤيد مع ذلك أرسل له عدة يسيرة من الخيل.

وكان الملك المؤيد مع انشغاله بأمور الدولة والجهاد والعلم والتأليف غير غافل عن احتياجات البلاد ومصالح العباد، ونراه يذكر في تاريخه أنه خرج في سنة 726 بعسكر حماة إلى القناة الواصلة من سلمية إلى حماة، وقسمها على الأمراء والعسكر لينظفوها، فإنها كانت قد آلت إلى التلف، بسبب ما اجتمع فيها من الطين، فحرروها في نحو أسبوع، ثم عاد إلى حماة.

ومن الآثار العمرانية للملك المؤيد جامع الدهيشة ويعرف اليوم في حماة بجامع أبي الفداء، وفي طرف منه قبره، وهو جزء من مجمع عمراني بناه سنة 727 على ضفاف نهر العاصي يتضمن حماماً وقبة وناعورة وشرفة للفرجة، وسميت الدهيشة لأنها مدهشة بموقعها الجميل على نهر العاصي، وبنائها المتقن، وهندستها المحكمة، وزخرفتها البديعة

ولا يزال جزء كبير منه موجوداً لليوم، ويسمى جامع أبي الفداء، في حي باب الجسر بمدينة حماة ويشرف على نهر العاصي ونواعيره، وعلى البساتين النضرة في تلك الأحياء، وحرم الجامع مزين بالرخام والفسيفساء والآيات القرآنية، وفي شمالي الجامع قبة فيها ضريح أبي الفداء من الرخام وقد حفرت عليه آيات القرآن الكريم وعند رأسه حجر محفور عليه: هذا ضريح العبد الفقير إلى رحمة ربه الكريم إسماعيل بن علي بن محمود بن محمد بن عمر بن شاهنشاه بن أيوب. عمرَّها في شهور سنة 727 هجرية. وفي المسجد نافذتان في واجهته الشرقية ومثلهما في الغربية، يفصل بينهما عمود من الرخام تنطلق من قاعدته أربع أفاع تلتف على بعضها وهي صاعدة إلى أعلاه ولذا يطلق عليه العامة أيضاً جامع الحيّات.

وأوقف الملك المؤيد على هذا الصرح الديني جزءاً كبيراً من كتبه، وكانت عنده كتب نفيسة ملوكية قد حوتها خزانته، قيل إنها ما اجتمعت لغيره من سائر الفنون فإنه اجتهد في جمعها من سائر البلاد شرقا وغربا، وأمدهّ على اقتنائها انتقاؤه وفطانته.

وقد جاء هذا العمران الجميل على ضفاف العاصي بأحجاره السوداء والبيضاء إنجازاً هندسياً صار مضرب المثل في ذلك الوقت، حتى أن السلطان الملك الصالح عماد الدين إسماعيل بن محمد بن قلاون، بنى مثيلاً له في القاهرة في سنة 645، بعد أن بلغه أن الملك المؤيد قد بنى بحماة دهيشة لم يبن مثلها، فقصد مضاهاته، وبعث الأمير أقجبا وأبجيج المهندس للكشف على دهيشة حماة ومعرفة ترتيبها، وكتب لنائب حلب بحمل ألفي حجر أبيض، ولنائب دمشق بحمل ألفي حجر أحمر، وحشرت الجمال لحملها حتى وصلت إلى قلعة بالجبل، وصرف في حمولة كلّ حجر من حلب إثنا عشر درهماً، ومن دمشق ثمانية دراهم، واستدعى الرخام من سائر الأمراء وجميع الكتاب، ورسم بإحضار الصناع للعمل، وقد بلغ مصروفها خمسمئة ألف درهم، سوى ما قدم من دمشق وحلب وغيرهما، وعمل لها من الفرش والبسط والآلات ما يجلّ وصفه.

توفي الملك المؤيد سنة 632، وهو في الستين من عمره، ومن الغريب أنه كان يقول ما أظن أني أستكمل الستين سنة من العمر فما في أهلي، يعني بيت تقي الدين، من استكملها! فمات رحمه الله في أوائل الستين، ودفن بتربته في الدهيشة كما أسلفنا.

ولما مرض الملك المؤيد فرّق كثيراً من كتبه على أصحابه، إضافة إلى ما أوقفه في جامعه، وله كذلك وقف على جامع ابن طولون بمصر وهو خان كامل بحوانيته بدمشق رحمه الله.

وبعد وفاة الملك المؤيد عين السلطان مكانه ولده محمداً وتسمى بالملك الأفضل، وهو ابن عشرين سنة، ويتبين من مرسوم تعيين الولد مقدار مكانة الوالد لدى صديقه السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون، فقد جاء فيه:

أما بعد، فإننا ولله الحمد ممن نحفظ بإحساننا كل وديعة، ونتقبل لمن أقبل من الملوك على سؤال صدقتنا الشريفة كل ذريعة، ونتكفل لمن مات على ولائنا بما لو رآه في ولده لسره ما جرى، وعلم أن هذا الذي كان يتمنى أن يعيش حتى يبصر هذا اليوم ويرى، وكان السلطان الملك المؤيد عماد الدين قدس الله روحه، هو بقية بيته الشريف، وآخر من حل في ملوكهم ذروة عزه المنيف، ولم يزل في طاعتنا الشريفة على ما كان من الحسنى عليه، ومن المحاسن التي لقي الله بها ونور إيمانه يسعى بين يديه ... فوجدنا من الحزن عليه ما أبكى كل سيفٍ دما، وأن كل رمح يقرع سنه ندما، وتأسفنا على ملك كاد يكون من الملائك، وأخٍ كريم أو أعز من ذلك، وسلطانٍ عظيم طالما ظهر شنب بوارقه في ثغور الممالك. وقمنا من الحزن في مشاركة أهله بالمندوب، ثم قلنا: لكم في ولده العوض، ولا ينكر لكم الصبر يا آل أيوب.

واستمر الملك الأفضل على حماة حوالي 10 سنوات لم يستطع فيها أن يملأ ثياب أبيه، ثم عين السلطان الأمير طقزدمر نائباً للسلطنة في حماة سنة 642، ونقل الملكَ الأفضل إلى دمشق أميرَ مئة ورأس الميسرة، وأطلق له من دخل حماة 1.200.000 درهم في كل سنة، وكان الملك الأفضل جواداً متلافاً، فقد توفي بعدها بقليل وترك عليه من الدين أكثر من 2.000.000 درهم!

وكان الملك المؤيد علم له مشاركات في علوم متعددة من الفقه والهيئة والطب والفلسفة وغير ذلك، وله مصنفات عديدة، منها تاريخ حافل أسماه المختصر في أخبار البشر، ويعرف بتاريخ أبي الفداء، ترجم إلى الفرنسية واللاتينية وقسم منه إلى الإنكليزية، وله في الجغرافيا كتاب تقويم البلدان، حدد فيه مواقع البلدان في جداول وفقاً لخطوط الطول والعرض، ترجمه إلى الفرنسية المستشرق رينو Reinaud، وكتاب تاريخ الدولة الخوارزمية، وكتاب نوادر العلم، وكتاب الكناش في النحو والصرف، وكتاب الموازين، كتبه وهو صغير، وغير ذلك من العلوم في مجلدات كثيرة. واعترافاً بمكانته في الجغرافيا والفلك قام الاتحاد الفلكي العالمي بإطلاق اسم أبي الفدا على سلسلة من الفوهات البركانية على سطح القمر.

وكان الملك المؤيد متمكناً في الفقه الشافعي، إلى درجة استطاع معها من أن ينظم شعراً كتاب الحاوي الصغير في فروع الفقه الشافعي الذي ألفه الفقيه عبد الغفار القزويني المتوفى سنة 665.

وكان للملك المؤيد معرفة بالطب والعلاج فقد ذكر الشيخ جمال الدين الإسنوي في طبقاته: اتفق قدوم الملك المؤيد إلى الديار المصرية في بعض السنين، واستدعاني إلى مجلسه على لسان الشيخ زين الدين ابن القويع فحضرت معه وصحبتنا الصلاح بن البرهان الطبيب المشهور، فوقع الكلام اتفاقا في عدة علوم فتكلم فيها كلاماً محققاً، وشاركناه في ذلك، ثم انتقل الكلام إلى علم النباتات والحشائش، فكلما وقع ذكرُ نبات أورد صفته الدالة عليه، والأرض التي ينبت فيها، والمنفعة التي فيه، واستطرد في ذَلِكَ استطراداً عجيباً، وهذا الفن الخاص هو الذي كان يتبجح بمعرفته الطبيبان الحاضران وهما ابن القويع وابن البرهان، فإن أكثر الأطباء لا يدرون ذَلِكَ، فلما خرجا تعجبا إلى الغاية، وقال الشيخ زين الدين: ما أعلم أن ملكاً من ملوك المسلمين وصل إلى هذا العلم!

كذلك اعترف بفضله في الطب رئيس الأطباء في مصر، إذ حدث في أثناء إحدى زياراته لمصر أن مرض ولده الملك الأفضل محمد، فجهز إليه السلطان الحكيم جمال الدين إبراهيم ابن المغربي رئيس الأطباء، فكان يجيء إليه بكرة وعشياً، فيراه ويبحث معه في مرضه، ويقرر الدواء، ويطبخ الشراب بيده في دست فضة، فقال له ابن المغربي: يا خوند، أنت والله ما تحتاج إلي، وما أجيء إلا امتثالاً لأمر السلطان. ولما عوفي ابنه أعطاه بغلة بسرج وكنبوش زركش وتعبية قماش وعشرة آلاف درهم والدست الفضة، وقال: يا مولاي، اعذرني فإني لما خرجت من حماة ما حسبت مرض هذا الابن.

ويبدو أن الملك المؤيد رحمه الله كان مع علوه في اللغة العربية يتحدث مع من حوله بالتركية في أموره اليومية، فقد جاء إليه ابن خالته الأمير الملك الكامل محمد بن عبد الملك بن إسماعيل، وكان من أمراء دمشق، ثم نقل إلى حماة، ثم أعيد إلى دمشق، ولما حضر إليها اجتمع بأصحابه، فسألوه عن حماة، فقال: أنا ما كنت في حماة بل كنت في الأردو! يعني بذلك أن الملك المؤيد يتكلم بالتركية.

وكان الملك المؤيد عالماً ثم أصبح ملكاً، فلذا كان يحب العلماء ويقربهم على اختلاف علومهم وبلدانهم، ورتب لبعضهم المرتبات، ومن هؤلاء أمين الدين الأبهري عبد الرحمن الفقيه الشافعي المواقيتي الحلبي، وكانت له يد طولى في الرياضيات وحساب الوقت، وعلي بن أحمد التجيبي الأندلسي المالكي، المعروف بالحرالي، العالم بالتفسير والأصول والفرائض والفلك والمنطق والطبيعيات، والمتوفى سنة 637، وتولى التوقيت بجامع الملك المؤيد بحماة وتوفي بها، وزين الدين عبد الرحمن بن علي بن إسماعيل بن البارزي المعروف بابن الولي، كان وكيل بيت المال بحماة، وبنى بها جامعاً، وكانت له مكانة ومروءة ومنزلة عند الملك المؤيدـ وتوفي سنة 633، والقاضي شهاب الدين ابن البارزي، أحمد بن عبد الله، ناظر الأوقاف بدمشق، وكان قبلها مع الملك المؤيد في حماة، ثم جاء دمشق بعد وفاته سنة 641.

ومنهم نجم الدين أبو القاسم ابن أبي جرادة العقيلي الحلبي الحنفي، عمر بن محمد المتوفى سنة 634 عن 45 عاماً، وقد عينه الملك المؤيد قاضي القضاة سنة 621، وكان الملك المؤيد يعظمه ويثني على فضائله ويتعجب لذهنه إذا تصرف في مسائله.

ومنهم أحمد بن أبي الخير بن منصور بن أبي الخير الشماخي السعدي، المتوفى سنة 729 عن 74 عاماً، وسمع عليه الملك المؤيد سنن أبي داود.

ومنهم أحمد بن محمد الفيومي ثم الحموي، الذي دعاه الملك المؤيد فرحل من الفيوم في مصر إلى حماة فقطنها، ولما بنى الملك المؤيد جامع الدهشة في حماة قرره في خطابته، وكان فاضلاً عارفاً باللغة والفقه، وهو صاحب المصباح المنير في غريب الشرح الكبير، وهو معجم صغير الحجم كثير الفائدة حسن الإيراد.

ومنهم أسد الطبيب الجراح اليهودي المعروف بأسيدة، المتوفى بعد 730، ولم يُر أقدر منه على الجراحة في جبر ما يكسر من العظم، باشر الجراحات العظيمة للأمراء الكبار، وكان الملك المؤيد يحبه ويقربه، وأوصى له بشيء من كتبه، وقال هذا الطبيب مفتخراً: جبرت رِجلاً وداويتها بقدوم ومنشار ومثقب!

وكانت مروءته وفضله يشملان رجال الدولة ممن احتاج إلى العون والمساعدة، فقد جاءه الرئيس الكبير الصاحب شرف الدين يعقوب بن عبد الكريم ناظر حلب وطرابلس إلى الملك المؤيد في حماة ليتداوى برعايته، وأقام بها مدة عليلاً، وكان الملك المؤيد أثناءها يعوده ويزوره ويصله، ولما توفي سنة 729 صلى عليه ومشى في جنازته.

من تواضع الملك المؤيد أنه زوج ابنته من مملوك له يدعى الأمير سيف الدين طقصبا، اشتراه وهو صغير وقربه ورباه وأحسن تربيته وزوجه ابنته وأمَّره، وكان يرسله بهداياه إلى الملك الناصر محمد بن قلاوون، وكان الملك الناصر يقبل عليه إقبالاً زائداً. ولما مات أستاذه رحمه الله تعالى استمر في خدمة ولده الملك الأفضل على عادته وهو أمير طلبخاناه بحماة، إلى أن توفي رحمه الله تعالى في شهر رمضان سنة 751.

وكان للملك المؤيد سبط - ابن بنت – هو الأمير شرف الدين موسى بن محمد بن شُهري التركماني، وكان قد ولي نيابة سيس، وهو ممن جمع بين فضيلتي السيف والقلم، وبرع في الفضل وأفتى على المذهب الشافعي، وكان يحب العلماء ويكرمهم ويجالسهم ويبحث معهم، وكان يميل إلى العدل والإنصاف ونصر الحق، وتوفي سنة 780.

كان الملك المؤيد ينظم الشعر ويميل إليه جداً، كيف لا وهو العالم الأديب، وكانت بضاعة الشعر في بلاطه رائجة، ولذا توافد الشعراء بمدائحهم عليه في حماة، رغبة في جوائزه السنية، حتى قيل: ما اجتمع لأحد الملوك من المدائح ما اجتمع للملك المؤيد من ابن نباتة والشهاب محمود وغيرهما، إلا سيف الدولة، وقد مدح الناس غيرهما من الملوك كثيراً، ولكن اجتمع لهذين من الكثرة والإجادة من الفحول ما لم يتفق لغيرهما.

وقد مدحه بقصائد الشاعر البارع صفي الدين الحلي، عبد العزيز بن سرايا، المتوفى سنة 750 عن 73 عاماً، ومما مدحه به قصيدة موشحة ومنها:

زار وصبغ الظلام قد نصلا بدرٌ جلا الشمس في الظلام ألا فاعجبِ

جاء وسجف الظلام قد فتقا

والصبح لم يبق في الدجى رمقا

وقد جلا نورُ وجهه الغسقا

وأدهم الليل منه قد جفلا وقد أتى رائد الصباح على أشهبِ

أفديه بدراً في قالب البشرِ

قد جاء في حسنه على قدر

يرتع في روض خده نظري

خد بلطف النعيم قد صقلا كأنه من دمي إذا خجلا يخضب

هلا تعلمت بذل ودك لي

من المليك المؤيد بن علي

سلطانُ عصر سما على الأُول

لولا أياد بها الورى شملا لأصبح الناس كالسماء بلا كوكب

ملك مغانيه للورى حرم

إلى معاليه ينتهي الكرم

قد أغرق الناس سيله العرم

سحاب جود على الورى هطلا لا برقه مبطئ النوال ولا خُلبِ

حماة أصبحتِ للأنام حمى

حويتِ مَلِكاً على الملوك سما

بحراً غدا بالعلوم ملتطما

ملكاً لرزق الأنام قد كفلا فصار في الناس جوده مثلا يُضرب

يا من عطاه قبل السؤال بدا

ومن حبانا قبل الندى بندى

هيهات ينسى صنيعكم أبدا

عبدٌ على فرط حبكم جبلا عليكم إن أقام أو رحلا يـُحْسَبِ

أما شهابُ الدين محمود بن سلمان، كان كاتب السر بدمشق المتوفى سنة 725، وكان في عصره علامة الأدب وعَلَمَ البلاغيين فله فيه كما سبق مدائح كثيرة منها ما قاله في قصيدة ابتدأها بالغزل ثم المديح نسج فيها على منوال الشعر العربي الأصيل :

ميعادًُ صبري وسُلوي الـمَعاد ... فالحُ امرأً يُسليه طولُ البعادْ

ولا تَلُم مَنْ دمعُ أجفانه ... إن ظنَّ صرفَ الدهر بالقربِ جاد

فبينَ جفني والكرى نفرةٌ ... وبينَ قلبي والغرامِ اتحاد

فلا تعِد بالنومِ جفني فما ... يرجعُ يوماً برُقاك الرُقادْ

وإن تُرِد علم بديع الهوى ... فأتِ لي عندي فعندي المراد

فمقلتي للدمعِ والجسمِ للأسقامِ والقلبِ لحفظِ الوداد

يا راكباً يفري جوادَ الفلا ... على أمُون جَسرةٍ أو جواد

يسري فتبديه ظهورُ الربا ... طوراً وتخفيه بطون الوهاد

مُدَّرِعاً فوق الربا بالدجا ... مثلَ خطيبٍ في شعار السواد

معتسفاً ليسَ له إن خبت ... أشعةُ النجم سوى الشوق هاد

بلى ونَشرٌ عاطرٌ مر من ... حماة في المسرى إلى خير ناد

قبِّل ثراها إذ تراها وكرّره فأحلى اللَّثمِ لثمٌ مُعَاد

حيثُ الندا والفضل بادي السنا ... والعدل والمعروف واري الزناد

أضحت وقد شيد أرجاءَها المولى عمادُ الدين ذاتَ العماد

حمى حِماها بأسُه والندى ... فأهلها من عدله في مهاد

وإن يطل عهدُ الرّيا والحيا ... جدد بالجودِ عهودَ العُهاد

مَنْ حاتمٌ يوم القِرى والندا ... مَنْ عامرٌ يومَ الوغى والجلاد

مَنْ أحنفٌ في الحلمِ دع ذكره ... ولا تقس قساً به في إياد

عالي المدا داني الندى باسلٌ ... أروعُ بسامٌ طويلُ النجاد

من أسرةٍ أعلوا منارَ الهدى ... وذللوا أعناقَ أهلِ العناد

واسترجعت أسيافُهم عُنوة ... ما استودعت أعداؤهُم من بلاد

وشيدوا دينَ الهدى فاعتلى ... بين جهادٍ منهمُ واجتهاد

وحكمت أيديهمُ وفدهم ... فيما رجوا من طارفٍ أو تلاد

قد أنشرَ اللهُ به ذكرهم ... فقيلَ عاشَ الفضلُ والعدلُ عاد

أما الشاعر الناثر الإمام المفتن جمال الدين أبو بكر ابن نباتة، محمد بن محمد المتوفى سنة 768 عن82 عاماً، فقد انتقل من مسقط رأسه القاهرة إلى الشام سنة 715، وانقطع إلى الملك المؤيد وأقام عنده، وكان له منه راتب في كل سنة ستمئة درهم، غير ما يتحفه به، وله فيه غرر مدائح، ثم رثاه بعد موته، ومن مدائحه:

أقسمتُ ما الملك المؤيَّد في الورى ... إلا الحقيقةُ والكرام مَجَاز

هو كَعْبَةً للفضل ما بين النَّدى ... منها وبين الطالبين حِجاز

وله قصيدة طريفة يهنئه فيها بعيد الفطر ويشبه الهلال في بدايتها، وأولها قوله:

يا شاهر اللحظ حبي فيك مشهور ... وكاسر الجفن قلبي منك مكسور

فإنه هنأه فيها بعيد الفطر، ثم استطرد فيها إلى تشبيه الهلال تشبيهات عديدة جميلة، فقال:

كأن شكل هلال العيد في يده ... قوس على مهج الأعداء موتور

أو مخلب مده نسر السوء لهم ... فكل طائر قلب منه مذعور

أو منجل لحصاد الصوم منعطف ... أو خنجر مرهف الحدين مطرور

أو فصل تبر أجادت في هديته ... إلى جواد ابن أيوب المقادير

أو راكع الظهر شكراً في الظلام إلى ... من فضله في السماء والأرض مشكور

أو زورق جاء فيه العيد منحدراً ... حيث الدجى كعباب البحر مسجور

أولا فقُلْ شفة للكأس مائلة ... تذكر العيش إن العيش مذكور

أولا فنصفُ سوار قام يطرحه ... كف الدجى حين عمته التباشير

أولا فقطعةُ قيد فك عن بشر ... أخنى الظلام عليه فهو مأسور

أولا فمن رمضان النون قد سقطت ... لما مضى وهو من شوال محصور

وكتب إليه الملك المؤيد رسالة بخط يده فأرسل له جواباً هذه الأبيات:

فديتك من ملك يكاتب عبده ... بأحرفه اللاتي حكتها الكواكبُ

ملكت بها رقي وأنحلتني الأسى ... فها أنذا عبدٌ رقيقٌ مكاتَب

ولما مات الملك المؤيد رثاه ابن نباتة بقصيدة اشتهرت منها:

ما للنّدى لا يلبي صوتَ داعيه ... أظنُّ أنَّ ابن شادي قام ناعيهِ

ما للرجاء قد اشتدّت مذاهبه ... ما للزمان قد اسودّت نواحيه

نعى المؤيد ناعيه فيا أسفا ... للغيث كيف غدت عنّا غواديه

واروعتا لصباح من رَزِيَّته ... أظنُّ أن صباح الحشر ثانيه

واحسرتاه لنظمي في مدائحه ... كيف استحال لنظمي في مراثيه

أبكيه بالدر من دمعي ومن كلمي ... والبحر أحسن ما بالدر أبكيه

أروي بدمعي ثرى ملك له شيم ... قد كان يذكرها الصادي فترويه

أسيل ماء جفوني بعده أسفا ... لماء وجهي الذي قد كان يحميه

جار من الدمع لا ينفك يطلقه ... من كان يطلق بالإنعام جاريه

ومهجة كلما فاهت بلوعتها ... قالت رزية مولاها لها: إيه

هلاّ بغيرِ عمادِ البيتِ حادثةٌ ... ألْقتْ ذُراه وأوهت من مبانيه

هلاّ ثنى الدهرُ غرباً عن محاسنه ... فكان كوكبَ شرقٍ في لياليه

كان المديح له عرشٌ بدولته ... فأحسن اللّه للشّعر العزا فيه

يا آل أيّوب صبراً إن إرثكم ... من اسم أيوب صبراً كان منجيه

هي المنايا على الأقوام دائرة ... كلٌّ سيأتيه منها دور ساقيه

وفيها يخاطب ابن الملك المؤيد:

ومِن أبيك تعلّمت الثناء فما ... تحتاج تُذْكَرُ أمراً أنت تدريه

لا يخْشَ بيتُك أن يُلوي الزمان به ... فإنّ للبيت ربّاً سوف يحميه

بيت المؤيد لا زادت عوارفه ... فزاد قلبي المعنى من تلظيه

ليت الحمام حبا الأيام موهبة ... فكان يفني بني الدنيا ويبقيه

ليت الأصاغرَ يُفدى الأكبرون بها ... فكانت الشهب في الآفاق تفديه

ذكرنا أن الملك المؤيد قد نظم كتاب الحاوي الصغير شعراً، وكان ينظم المقطعات من الشعر الغزلي، ومن شعر الملك المؤيد:

اقرأ على طيب الحياة سلام صبٍّ مات حزنا

اعلِمْ بذاكَ أحبّةً ... بخِلَ الزمانُ بهم وضنّا

لو كان يُشرى قربهم ... بالمال والأرواح جُدنا

متجرّعٌ كأسَ الفراق يبيت للأشجان رهنا

صبٌّ قضى وجداً ولم ... يُقضى لهُ ما قد تمنى

وله أيضاً:

كم من دمٍ حلّلتْ وما ندمت ... تفعلُ ما تشتهي فلا عُدمتْ

لو أمكنَ الشمسَ عند رؤيتها ... لثمَ مواطي أقدامها لثمت

ومنه:

سرى مسرى الصَبا فعجبتُ منه ... من الهجرانِ كيف صبا إليا

وكيفَ ألمَّ بي من غيرِ وعدٍ ... وفارقني ولم يعطف عليا

ومن شعره عفا الله عنه ملغزاً في مليح اسمه حمزة:

اسم الذي أنا أهواه وأعشقه ... ومَنْ أعِّوذُ قلبي من تجنِّيه

تصحيفُه في فؤادي لم يزل أبدّا ... وفوق وجْنته أيضا وفي فيه

وحل هذا اللغز: همزة، وحُمرة، وخمرة.

هذا هو أبو الفداء الملك المؤيد، جمع الفضائل بعلمه وتقواه ونباهته، لم يتعارض علمه مع سياسته، ولم يغط جهاده على أبحاثه وتآليفه، عاش ملكاً متواضعاً جواداً، لم يخالط نفسه حب المال والتهالك على الدنيا، أحب الناس وأحبوه، رحمه الله تعالى.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين