وحدة أخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم وشمولها وحاجة الإنسانية إليها

يُجمع المنصفون من الباحثين والمؤرخين على حقيقة أن (أخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم ) في حدِّ ذاتها دليل من أكبر الأدلة على نبوته صلى الله عليه وسلم.

وكما ورد أن الرسول محمداً صلى الله عليه وسلم قال : (إنما بعثت معلماً) كذلك ورد أنه صلى الله عليه وسلم قال : (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) مع ملاحظة أنني أرى أن وظيفة (المعلم) الحقيقية تتأكد في جانبه الأخلاق الذي يجعل لعلمه وظيفة اجتماعية وإنسانية...

وليست الأخلاق قابلة للتجزئة كما هو الحال في سلوك بعض الأفراد الذين تتناقض أخلاقهم بين حياتهم الشخصية الداخلية وحياتهم الاجتماعية الخارجية، وكما هو الحال في بعض الدول والحضارات المعاصرة التي تتعامل بأخلاقية وقانونية وإنسانية كبيرة داخل بلدانها... لكنها تستبيح لنفسها إبادة شعوب وقتل دول كاملة، فأخلاق هؤلاء أخلاق مصلحية تجارية، وليست أخلاقاً إنسانية حقيقية.

وقد أجمع من كتبوا عن شمائل الرسول صلى الله عليه وسلم وأخلاقه، أن القاعدة الكبرى التي تقوم عليها أخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم أنها أخلاق متكاملة متعانقة الخيوط، فليس ثمَّة خيط نشاز، أو خيط من فصيلة مختلفة، وإنما هي الحقيقة الأخلاقية الواحدة التي يتعامل بها الرسول صلى الله عليه وسلم مع الحياة والأحياء.

إن هذه الوحدة الأخلاقية التي تفرد بها الرسول صلى الله عليه وسلم تمثل جوهر رسالته إلى العالم وهي تفسر – في الوقت نفسه – معنى أنه رحمة ونور لهذا العالم!! فالعالم الإنساني لا نور له، ولا رحمة فيه إذا هو تجرد عن الأخلاق، وإن أزمات الحضارات، ما اندثر منها وما بقي إنما يعود إلى انحلال الأخلاق!!.

ومن عجب أن ذلك الأميّ اليتيم، الفقير صلى الله عليه وسلم عاش أخلاقياً طول عمره، لدرجة أنه كان يُنادى بصفته الأخلاقية في الجاهلية فكان يُطلق عليه (الصادق الأمين).

إن هذا النبيِّ الأميِّ كان له – كما يقول الكاتب العربي النصراني (نصري سلهب) – في مجال الأخلاق شؤون وشؤون، فبالرغم من مَهَامه الجسام، وأشغاله الكثيرة المتنوعة، وبالرغم من الغزوات والسرايا والحروب، فقد وجدَ الوقت الكافي ليُلقي على المؤمنين – بأقواله وأفعاله – دروساً في شؤون لا تمر ببال مسئول كبير في مثل مستواه وخطورته.

فذلك العظيم صلى الله عليه وسلم الذي كان يحاول تغيير التاريخ ويعدُّ شعباً لفتح الدنيا من أجل الله تعالى... ذلك الرجل وجد الوقت الكافي ليلقي على الناس دروساً في آداب المجتمع، وفي أصل المجالسة وكيفية إلقاء السلام، لكأنه معلم حصرت مهمته في تثقيف بضعة وعشرين تلميذاً، ولم يكن له مهمة سواها.

والوحدة الأخلاقية التي تمثل نسيج أخلاق محمد الرسول صلى الله عليه وسلم ليست في أنه (أخلاقي) يمتاز بمجموعة الأخلاق الإنسانية المتعارف عليها، فلا يندُّ عنه خُلق، فهو الأمين إذا ذكرت الأمانة، وهو الصادق إذا ذكر الصدق، وهو الوفي... وهو الكريم... وهو الشجاع، وهو الزاهد، وهو المتواضع، وهو الرحيم، وهو البار، وهو الحكيم، وهو الفصيح البليغ، وهو العابد.

إن هذه الوحدة الأخلاقية التي ترجمتها شخصية محمد صلى الله عليه وسلم الاجتماعية ليست في هذا كله – وحسب – بل – وهو الأهم – في أنه – عليه الصلاة والسلام – لم يسمح للظروف الصعبة كل الصعوبة – في أن تغير شيئاً من نسيج أخلاقه، ولم يجعل لتقلبات حياته من شدة إلى يُسر أي أثر في ذلك!!

فأخلاقه فوق الظروف.. وفوق التقلبات - عليه الصلاة والسلام -.

فإذا كان التاريخ قد ذكر أن قوم موسى من بني إسرائيل حين خرجوا من مصر أخذوا حليّ المصريات ودائع، ثم هربوا بها، فإن محمداً صلى الله عليه وسلم وأصحاب محمد رضي الله عنهم ما سمح لهم نظامهم الخُلقي أن يفعلوا شيئاً من ذلك، بل إنهم تركوا أموالهم وديارهم للمشركين، أما محمد صلى الله عليه وسلم فإنه أبقى علياً رضي الله عنه ليؤدي الأمانات إلى أهلها.

وما رأيك في أن الشخصية الأخلاقية لهذا النبي صلى الله عليه وسلم لم تسمح بأن يرد هذه الأموال وهذه الديار إلى أصحابه المسلمين بعد فتح مكة؟!!

لماذا؟ لأنهم فقدوها في سبيل الله، ولأنهم كتبوا في سبيل هذا المغرم من المهاجرين السابقين الأولين... فلا يجوز لهم أن يشوهوا هذا الشرف بطلب ما فقدوه في سبيل الله!!

بل ما رأيك في أن النبي صلى الله عليه وسلم الوفي لم يقبل أن يأخذ مفتاح الكعبة من (عثمان بن طلحة) ويعطيه (لعلي بن أبي طالب) حتى لا يعطي مقابلاً مادياً للإسلام ويحرم آخرين من حقوق تاريخية عرفت لهم:

قال ابن اسحق يصف ما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم بعد فتحه مكة:

(حدثني أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام على باب الكعبة فقال : لا إله إلا الله وحده لا شريك له، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ألا كل مأثرة أو دم أو مال يدعى فهو تحت قدمي هاتين إلا سدانة البيت وسقاية الحاج... يا معشر قريش : إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء، الناس من آدم وآدم من تراب... يا معشر قريش : ما ترون أني فاعل بكم؟ قالوا : خيراً أخ كريم وابن أخ كريم، قال : اذهبوا فأنتم الطلقاء، ثم جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد فقام إليه علي بن أبي طالب ومفتاح الكعبة في يده، فقال : يا رسول الله اجمع لنا الحجابة مع السقاية صلى الله عليك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (أين عثمان بن طلحة؟ فدعي له، فقال: هاك مفتاحك يا عثمان، اليوم يوم بر ووفاء)!!

فحتى في هذه اللحظة الفاصلة.. لحظة الانتصار الكاسح، لم يتخل محمد الرسول عليه الصلاة والسلام عن طبيعته الأخلاقية: العفو عن العتاة المذنبين... والوفاء لأصحاب الحقوق... والوقوف من أصحابه – المنتصرين – الموقف الصارم العادل.

إنه لقادر على أن يلتزم الموقف الأخلاقي المناسب مهما تكن اللحظة التاريخية حرجة وحاسمة...إنه نبي يشرع بسلوكه، وينطلق من منهج واضح وليس (من رد فعل) تمليه أو تفرضه أية ضواغط أو ظروف!!

وقد كانت صفحة حياته – عليه الصلاة والسلام – كما نقلت إلينا بكل دقة وتوثيق أخلاقية إنسانية بلغت من السمو غاية ما يستطيع إنسان أن يبلغ، وكانت لذلك أسوة حسنة لمن هداه الله تعالى أن يحاول بلوغ الكمال الإنساني من طريق الإيمان والعمل الصالح.

والغريب أن هذه الإنسانية الأخلاقية قد طبقت على هذا النحو الخارق للعادة في أروع صور البساطة واليسر... فبدت – مع سموها – وكأن البساطة وعدم التقعر أو التكلف هو نسيجها الذي يجمع بين خيوطها المترابطة.

فعن عائشة رضي الله عنه قالت: (ما لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم مسلماً من لعنة تذكر، ولا انتقم لنفسه شيئاً يؤتى إليه ألا تنتهك حرمات الله، ولا ضرب بيده شيئاً قط إلا أن يضرب بها في سبيل الله، ولا سُئل شيئاً قط فمنعه إلا أن يُسأل مأثماً، فإنه كان أبعد الناس منه، ولا خُيِّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما).

وكان خادمه أنس بن مالك رضي الله عنه يقول: خدمت النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين فما قال لي أُفّ قط، ولا قال لشيء صنعته لِمَ صنعته، ولا لشيء تركته لِمَ تركته... وإذا كان هذا شأنه مع خادمه فكيف كان شأنه مع كل الناس عليه الصلاة والسلام؟ إنها الأخلاق مع كل الناس بغض النظر عن مستوياتهم!!!

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. 

المصدر: مجلة منبر الإسلام، السنة الستين، ربيع الأول 1422 - العدد 651 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين