كتاب الآثار

?قالوا: ما هي أصح الكتب؟ قلت: أربأ بنفسي أن أصرفها إلى هذا السؤال، أو يغيب عنكم أو عمن دونكم جوابه؟ قالوا: نحب أن نسمعه منك، قلت: لنقل الجبال أحب إلي وأخف من أن تشافهوني بمثله، وإذا أبيتم فاسمعوا أن أصح الكتب هي صحيحا البخاري ومسلم، وموطأ الإمام مالك (المسند منه). قالوا: ألست من أتباع المذهب الحنفي؟ قلت: بلى، وهل تختلف أصحية الكتب باختلاف المذاهب؟ أوَ بلغكم قول شاذ منكر فأحببتم أن تفخِّموه بتداوله مطارحة ونقاشا؟ قالوا: أليس شيخك العلامة المحدث عبد الرشيد النعماني قال بهذا القول الشاذ المنكر ذاهبا إلى أن أصح الكتب كتاب الآثار للإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى؟ قلت: بلى، كان رحمه الله وغفر له يذهب إلى ذلك له متحمسا وعليه مشددا، وقد كلمته في ذلك مرارا مجادلا إياه جدالا عنيفا ومخاصما له خصاما شديدا، قالوا: فهل تسامح في موقفه ورفق في وجهته؟ قلت: لا، بل عاش على هذا القول الغير المرضي ومات عليه من دون لين ولا هوادة، قالوا: وهل لبرهان حمله عليه ودفعه إليه دفعا فلم يستطع مقاومته؟ قلت: لا دليل له إلا أن أبا حنيفة رحمه الله تابعي وهو أقدم من مالك، فكتابه أولى بأن يعد أصح الكتب بعد كتاب الله تعالى.

?قالوا: فهل اقتنعت بقوله؟ قلت: لا، وهل يقتنع بمثله مقتنع؟ قالوا: وما لك لم ترض به قولا؟ قلت: الأول أنه لا دليل على أن كتاب الآثار من تأليف أبي حنيفة، ولو كان من تأليفه لتسارع الناس إلى سماعه منه وقراءته عليه كما تسارعوا إلى أخذ الموطأ من مالك ولتنافسوا في ذلك تنافسا كبيرا، ولم يبلغنا في شيء من الأخبار أن أبا حنيفة حدث قط بكتاب الآثار أو أنه قرئ عليه.

?الثاني أنه مليء بالآثار والمقطوعات والمراسيل، وأن الأحاديث المسندة قليلة فيه جدا، حتى إن الأحاديث التي ثبتت مسندة في الصحيحين وغيرهما تجدها في كتاب الآثار يلحقها عيب الوقف والإرسال والانقطاع، ولا شك أن الموطأ فيه أشياء من ذلك، ولكن في تناسب وتوازن جعله جامعا بين الحديث والفقه.

?الثالث أنه ينقصه الضبط والإتقان، وتخالف أحاديثه أحاديث الأئمة الثقات، متكاثرة فيه الأوهام والأغلاط.

?قالوا: ائتنا بمثال لهذا الغلط والشذوذ. قلت: في كتاب الآثار لمحمد بن الحسن، قال: أخبرنا أبو حنيفة، قال: حدثنا منصور بن زاذان عن الحسن البصري عن النبي صلى الله عليه وسلم....من كان قهقه منكم فليعد الوضوء والصلاة.

?وقال أبو يوسف في كتاب الآثار له: عن أبي حنيفة عن منصور بن زاذان عن الحسن عن معبد.

?فهذا خطأ، ولم يثبت هذا الحديث إلا عن أبي العالية مرسلا، وإن ذكر الحسن في طريق منصور بن زاذان وهم، قال الدارقطني في "السنن": وروى هذا الحديث أبو حنيفة، عن منصور بن زاذان، عن الحسن، عن معبد الجهني ، مرسلا، عن النبي صلى الله عليه وسلم، ووهم فيه أبو حنيفة على منصور. وإنما رواه منصور بن زاذان، عن محمد بن سيرين، عن معبد، ومعبد هذا لا صحبة له، ويقال: إنه أول من تكلم في القدر من التابعين، حدث به عن منصور، عن ابن سيرين: غيلان بن جامع، وهشيم بن بشير، وهما أحفظ من أبي حنيفة للإسناد.

?وقال الدارقطني بعد إيراده من طرق عن أبي العالية والحسن وابن سيرين وإبراهيم النخعي والزهري وغيرهم واستظهار الأدلة على أخذهم جميعا من الآخذين عن أبي العالية: رجعت هذه الأحاديث كلها التي قدمت ذكرها في هذا الباب إلى أبي العالية الرياحي، وأبو العالية، فأرسل هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يسم بينه وبينه رجلا سمعه منه عنه.

?قالوا: ائتنا بمثال آخر. قلت: في كتاب الآثار لمحمد، قال: أخبرنا أبو حنيفة، قال: حدثنا أبو الحسن موسى بن أبي عائشة عن عبد الله بن شداد بن الهاد عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.... قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: من صلى خلف إمام فإن قراءة الإمام له قراءة.

?فذكر جابر بن عبد الله رضي الله عنهما فيه خطأ، قال ابن أبي حاتم في "العلل" ص 370: قال أبي: ولا يختلف أهل العلم أن من قال: موسى بن أبي عائشة، عن جابر؛ أنّه قد أخطأ. قال ابن أبي حاتم: قلت: الذي قال: عن موسى بن أبي عائشة،عن جابر، فأخطأ؛ هو النّعمان بن ثابت؟ قال: نعم.

?وذكر أبو زرعة في "الضعفاء" هذا الحديث من رواية أبي حنيفة وقال: فزاد في الحديث: "عن جابر". وقال الدارقطني في "السنن": لم يسنده عن موسى بن أبي عائشة غير أبي حنيفة والحسن بن عمارة، وهما ضعيفان.

?وقال ابن عبد البر في "التمهيد" (11/48): وقد روى هذا الحديث أبو حنيفة عن موسى بن أبي عائشة، عن عبد الله بن شداد بن الهادي، عن جابر بن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يسنده غير أبي حنيفة، وهو سيّئ الحفظ عند أهل الحديث، وقد خالفه الحفّاظ فيه: سفيان الثوري، وشعبة، وابن عيينة، وجرير؛ فرووه: عن موسى ابن أبي عائشة، عن عبد الله بن شدّاد، مرسلاً، وهو الصّحيح فيه الإرسال.

?قالوا: هل توافق أهل الحديث على تضعيف أبي حنيفة؟ قلت: لا، قالوا: فلِم ضعفوه؟ قلت: ضعفوه لما في حديثه من كثرة الغلط والوهم، قالوا: توافقهم على وجود الغلط والوهم في حديثه، وتخالفهم في تضعيفه فما السر في ذلك، ولم نعهدك إلا منصفا؟ قلت: اعلموا أن أبا حنيفة رحمه الله تعالى لم يؤلف الكتب التي نسبت إليه، بل إنما أحال على الأحاديث والآثار من حفظه خلال تقريره المسائل الفقهية على أصحابه، فقيدوا أقواله وجميع ما استند إليه من حديث وأثر، ووضعوها في كتب، ثم رواها عنهم أصحابهم وهلم جرا، فظن بعض من تأخر أنها من تأليف أبي حنيفة. ولو أن أبا حنيفة ألفها لراجع أصوله ولاعتنى بها ضبطا وإتقانا كما فعله مالك وغيره في مصنفاتهم. فليس الذنب فيه لأبي حنيفة ولأصحابه، وإنما الذنب لناسبي هذه الكتب إلى أبي حنيفة من متأخري الحنفية، وهم يحسبون أنهم أحسنوا صنعا، والحق أنهم أضروا بهذا الإمام الفذ العملاق، رحمه الله رحمة واسعة.

?قالوا: ولكن أبا حنيفة لم ينفرد بكثير من الأوهام والأخطاء، بل تابعه عليها غيره، قلت: لا تغتروا بهذه المتابعات، فهي إما من الضعفاء الذين لا تقوم بهم حجة، أو أنها راجعة إلى أصل واحد، وليست متابعات في الحقيقة. قالوا: ائتنا بمثال: قلت: المثال هو حديث القهقهة الماضي ذكره، فقد روى أبو حنيفة متابعة الحسن لأبي العالية، وروى غيره متابعات الزهري وإبراهيم النخعي وغيرهما، وليست بمتابعات، أخرج الدارقطني في سننه عن علي بن المديني، قال: قال لي عبد الرحمن بن مهدي: هذا الحديث يدور على أبي العالية، فقلت: قد رواه الحسن ، مرسلا، فقال: حدثني حماد بن زيد، عن حفص بن سليمان المنقري، قال: أنا حدثت به الحسن، عن حفصة عن أبي العالية، فقلت: فقد رواه إبراهيم، مرسلا، فقال عبد الرحمن: حدثني شريك، عن أبي هاشم ، قال: أنا حدثت به إبراهيم، عن أبي العالية، فقلت: قد رواه الزهري ، مرسلا، فقال: قرأته في كتاب ابن أخي الزهري، عن سليمان بن أرقم، عن الحسن.

?قالوا: قد اقتنعنا بقولك وعلمنا براعة أئمة الحديث، وأيقنا أن نسبة كتاب الآثار وغيره من الكتب إلى أبي حنيفة واضعة من شأنه. وحاشانا أن نقترف هذه الجريرة في حق إمام كبير من أئمة المسلمين. قلت: لو أن الناس اقتصروا على إدراك ما بلغه أبو حنيفة من رفعة المكان وعلو الشأن في الفقه لكفاهم ذلك ولم يفتقروا إلى هذا التكلف المشين، وأبو حنيفة فنحبه في الله لفقهه ولصلاحه وورعه وتقواه، رحمه الله رحمة واسعة وسائر أئمة المسلمين.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين