من المُثل العليا للدعاة إلى الله تعالى

 

يقول الله تبارك وتعالى معلماً نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم، وموضحاً له المنهج السوي الذي ينبغي أن يسلكه في الدعوة إلى أشرف وأكمل رسالة عرفها الوجود البشري في تاريخ الدنيا الطويل: [قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللهِ وَمَا أَنَا مِنَ المُشْرِكِينَ] {يوسف:108}.

هذه سبيلي أي: طريقتي في الدعوة إلى دين الله الحق وهو دين الإسلام، الدين العام الخالد، دين التوحيد والإيمان، والحق، والخير، الدين الذين ليس بعده دين، لأنه خاتم الأديان، وأوقاها وأكملها، وليست دعوتي أنا ومن اتبعني دعوة مبنية على هوى، أو غرض، أو على غير دليل وبرهان، وإنما دعوتنا على بصيرة: بصيرة من العلم بحقية الدعوة، وتواتر الأدلة العقليّة والنقليّة على ذلك.

ومثل هذه الدعوة المدعّمة بالأدلّة والبراهين، وبالاقتناع التَّام من الداعي لابدَّ أن يُكتب لها النجاح وهذا ما قد كان.

فقد بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم دعوته إلى الله تعالى وإلى الإسلام بعد نزول قوله تعالى:[يَاأَيُّهَا المُدَّثِّرُ(1) قُمْ فَأَنْذِرْ(2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ(3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ(4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ(5) ]. {المدَّثر}..

وهي أول آيات نزلت بعد فترة الوحي، أي: دع النوم يا محمد، وقم وشمر عن ساعد الجد، فإنك ستبدأ حياة جديدة: حياة كلها تعب ونصب، وكفاح وجهاد في سبيل تثبيت دعائم التوحيد في الأرض، بعد أن كان يعمها الشرك والوثنية والكفر، وفي سبيل تطهير النفوس من مساوئ الأخلاق، والجهالات، واعتناق الأباطيل والخرافات وتكوين أمة هي خير أمة أخرجت للناس.

وفي طريق هذا التوجيه الإلهي قام النبي صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الله تعالى في سريَّة تامَّة، وعلى بصيرة من أمر دعوته، فكان أوَّل من آمن به من النساء: السيدة الجليلة خديجة بنت خويلد الشريفة القرشية رضي الله عنها وأرضاها، وأوَّل من آمن به من الرجال الأحرار الصدِّيق أبو بكر رضي الله عنه أفضل هذه الأمة بعد نبيها، وأوَّل من آمن به من الموالي – المماليك الذين أعتقوا – مولاه ومتبناه زيد بن حارثة الكلبي رضي الله عنه وأرضاه، وأوَّل من آمن به من العبيد بلال بن رباح الحبشي رضي الله عنه وأرضاه.

وأوَّل من آمن به من الصبيان ابن عمه، والمتربي في حجره علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه، وهكذا نرى أن الدعوة بدأت بالمؤمن الأول، والمسلم الأول سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ثم لم تلبث أن آزرها الله بامرأة، ورجل، ومولى، وعبد وصبي لم يبلغ الحلم عدد أصابع اليد الخمس ثم تلبث أن انتشرت، ثم انتشرت حتى كان أن انتشر الإسلام في قارات الدنيا الخمس وحتى صار تعداد المسلمين اليوم يزيد عن الستمائة مليون مسلم، فاعتبروا يا أولي الأبصار!

وكل ذلك بفضل الداعية الأول صلى الله عليه وسلم، والدعاة الأماثل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين باعوا أنفسهم رخيصة في سبيل الله، وفي سبيل الدعوة إلى دين الله رضي الله عنهم، وفي سبيل الدعوة إلى دين الله رضي الله عنهم، ورضوا عنه، ومن جاء بعدهم من الدعاة الهداة المخلصين إلى يومنا هذا، وإلى يوم يقوم الناس لرب العالمين لقد ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم أروع مثل في التضحية بالنفس والأهل والولد والمال في سبيل هذا الدين على الرغم من العقبات والمعوقات التي افتن فيها الكفار والمشركون، وأعداء الحق في كل زمان ومكان، ولم يدعوا وسيلة من وسائل الإيذاء إلا اتبعوها، ولا وسيلة من وسائل الإغراء إلا عرضوها، ومع كل هذا سار رسول الله صلى الله عليه وسلم في دعوته إلى الله تعالى لا يلوي على شيء مما أغروه به ولا يأبه بشيء مما آذوه به حتى عمَّ الإسلام الجزيرة العربية كلها، وأبلغ دعوته إلى كل ما أمكن وصول الدعوة إليه من ملك، أو عظيم، أو أمير، فمنهم من رد رداً جميلاً، ومنهم من رد رداً سيئاً.

ولم ينقض على وفاة النبي صلى الله عليه وسلم قرن من الزمان حتى شرَّق الإسلام وغرَّب، وبلغ ما بلغ الليل والنهار، وصدقت نبوءة رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال لأصحابه، وقد استبد بهم الضيق من شدة ما نزل بهم من العذاب والإسلام: (والله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء (1) إلى حضر موت لا يخاف إلا الله، والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون) رواه البخاري.

وقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده) رواه البخاري. 

وقد دالت كل دولة ولم تبق إلا دولة الإسلام ينعم في ظلها العالم بضعة قرون.

وفي مدرسة النبوة المحمدية تخرَّج أعظم جيل عرفته الدنيا وهم الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين ولم يعرف التاريخ رجالاً تحمَّلوا في سبيل دينهم، وإنجاح دعوتهم، وضحوا بكل شيء في سبيل عقيدتهم مثل ما عرف ذلك لأصحاب نبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحابته وسلم.

لقد استعذبوا العذاب في سبيل الله هذه العقيدة، و استساغوا المر في سبيل هذا الدين، وضربوا في ذلك أروع مثل للتضحية، وأسمى صور التفدية بالنفس، والأهل والولد، والمال وسواء في ذلك العبيد والضعفاء من أمثال بلال الحبشي وصهيب الرومي وسلمان الفارسي رضي الله عنهم، والأشراف الأعزاء من أمثال: أبي بكر، وعمر بن الخطاب، وحمزة بن عبد المطلب، وسعد بن أبي وقاص، ومصعب بن عمير، وغيرهم وغيرهم رضي الله عنهم، الذين جعلوا من أنفسهم دعاة إلى الله تعالى، وإلى الإسلام بالقول والعمل، واستقصاء الأمثلة في هذا الباب أمر يطول، ولا يكفي فيه كتاب، ولكني سأجتزئ بعض المثل الرائعة المشرقة.

أول خطيب دعا على الله تعالى:

ذلك هو الصديق أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه فقد عرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد بلغ عدد المسلمين ثمانية وثلاثين رجلاً، أن يظهروا، ويستعلنوا بدعوتهم، فقال له صلى الله عليه وسلم: (يا أبا بكر إنا قليل، ولم يزل الصديق برسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أذن لهم في الخروج إلى المسجد الحرام، وتفرق المسلمون فيه، كل رجل في عشيرته، وقام أبو بكر في الناس خطيباً!! ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس، فكان أول خطيب دعا إلى الله تعالى، وإلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على بصيرة من دعوته، ويقين من عقيدته.

وكانت مفاجأة للمشركين أثارت ثائرتهم، فانقضّوا على أبي بكر رضي الله عنه، والمسلمين وضربوهم في نواحي المسجد ضرباً شديداً وقد حمل ثقل هذا الضرب المبرّح وأعظمه الصدِّيق أبو بكر رضي الله عنه فقد وطئ بالأقدام، وصار عتبة بن ربيعة يضربه بنعلين مخصوفتين (2)، ويحرفهما لوجهه حتى فقد وعيه، فحمله بنو تيم إلى منزله، وقالوا: لئن مات أبو بكر لنقتلن عتبة بن ربيعة به، وجعل أبو قحافة والد الصديق رضي الله عنه، وقومه يكلمونه حتى أفاق، وأجاب آخر النهار.

فماذا كان من أبي بكر رضي الله عنه وقد أفاق؟ لقد كان أول ما قال: (ما فعل رسول الله؟) فمسوه بألسنتهم وعذلوه، ولكن المحب عن العذال في صمم

نعم والله... ما فكر في نفسه، ولا فكر في جراحه، ولا فكر في آلامه!! إن أول ما فكر في رسول الله صلى الله عليه وسلم وأول ما سأل عن رسول الله، فلما خلت به أمه قال لها: ما فعل رسول الله؟ فقالت والله ما لي علم بصاحبك، فقال: اذهبي إلى أم جميل بن الخطاب فاسأليها عنه وكانت أم جميل تخفي إسلامها، فذهبت إليها وقالت: إن أبا بكر يسألك عن صاحبه محمد بن عبد الله؟ فقالت – حذراً – ما أعرف أبا بكر ولا محمد بن عبد الله!! وإن كنت تحبين أن أذهب معك إلى ابنك فعلت. قالت: نعم، فمضت معها حتى وجدت أبا بكر رضي الله عنه صريعاً دنفاً (3) فدنت منه أم جميل وصاحت قائلة: إن قوماً نالوا منك هذا لأهل فسق وكفر، وإني لأرجو أن ينتقم الله لك منه.

قال: فما فعل رسول الله؟ قالت: هذه أمك تسمع، قال: فلا شيء عليك منه، قالت: سالم صالح.

قال: أين هو؟ قالت: في دار الأرقم قال: فإن لله عليَّ أن لا أذوق طعاماً، ولا أشرف شراباً، أو آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم!! فأمهلتاه حتى هدأت الرجل (4)وسكن الناس خرجتا به يتكئ عليهما حتى أدخلتاه على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكب عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبّله وقبله المسلمون، ورق له رسول الله صلى الله عليه وسلم رقة شديدة فقال: بأبي أنت وأمي ليس بي بأس إلا ما نال الفاسق من وجهي، وهذه أمي برة بولدها، وأنت مبارك فادعها على الله وادع لها عسى الله أن يستنقذها بك من النار، فدعا لها رسول الله، ودعاها إلى الله فأسلمت (5) هذا مثل فريد من المثل العليا للدعوة إلى الله وإلى الإسلام، ولحب الله، ولحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهل لنا معاشر المسلمين – ولا سيما الدعاة إلى الله تعالى – أن نجعل هذا المثل حقيقة ماثلة في حياتنا اليوم؟!

أول من جهر بالقرآن من الصحابة:

وهذا مثل آخر من أمثلة التضحية، بالنفس في سبيل الدعوة إلى الله تعالى وإلى دين الله الإسلام، فقد كان المشركون يؤذون من يجهر بالقرآن خشية تأثيره في نفوسهم وكان أول من جهر بالقرآن من الصحابة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه، ذلك أنه اجتمع يوماً أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: والله ما سمعت قريش هذا القرآن يجهر به قط، فمن الرجل يسمعهم إياه؟ فقال عبد الله بن مسعود: أنا !! قالوا: إنا نخشاهم عليك، إنما نريد رجلاً له عشيرة يمنعونه من القوم إن أرادوه (6) فقال ابن مسعود القوي بالله تعالى وبإيمانه: دعوني فإن الله سيمنعني!!

فغدا ابن مسعود رضي الله عنه حتى أتى المقام (7) في الضحى، وقريش في أنديتها حتى قام عند المقام ثم قرأ: بسم الله الرحمن الرحيم [الرَّحْمَنُ(1) عَلَّمَ القُرْآَنَ(2) خَلَقَ الإِنْسَانَ(3) عَلَّمَهُ البَيَانَ(4) ]. {الرَّحمن}..ثم استقبل السورية يقرؤها، فتأملوه فجعلوا يقولون ماذا قال ابن أم عبد؟! (8) ثم قالوا إنه ليتلوا بعض ما جاء به محمد!! فقاموا إليه، فجعلوا يضربونه في وجهه، وجميع جسده، وجعل هو يقرأ ويسترسل في قراءته، لا يثنيه عن القراءة الضرب المبرح المتواصل حتى بلغ منها ما شاء الله أن يبلغ، ثم انصرف إلى أصحابه وقد أثروا في وجهه فقالوا له: هذا الذي خشيناه عليك!!

فماذا كان جوابه؟ قال: ما كان أعداء الله أهون عليّ منهم الآن! ولئن شئتم لأغادينهم بمثلها غداً، قالوا له: لا حسبك قد أسمعتهم ما يكرهون.

ولم يكن سيدنا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في منعة من قومه، ولكنها قوة الإيمان، وما كان فارع القوام، ضخم الجثة يهابه من يلقاه، ولكنه كان قصيراً ضعيف الجسم، رفيع الساقين حتى لقب بذي السويقتين، وإن كانتا كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لرجل عبد الله أثقل في الميزان يوم القيامة من جبل أحد) وما ذلك إلا لما كان يحمله بين جنبية من نفس مؤمنة مطمئنة، وفي قلبه من عقيدة تتضاءل أمامها شُم الجبال الراسيات، فما بالك بنفوس المشركين الخاويات!!.

ثم إنه لم يعتبرها مرة، وما كل مرة تسلم الجرة، ولكنه أراد أن يكرر هذا الموقف البطولي بالغد، لولا أنه حال بينه وبين ذلك الجُلة من الصحابة، ورأوا أن في هذا المجاهرة الكفاية، في مراغمة أنوف المشركين، وأنهم ما كانوا أهون عليه مثل اليوم.

وبعد: فالإسلام اليوم في حاجة إلى دعاة من هذا الطراز الذي تهون عليه نفسه في سبيل الله تعالى، وفي سيبيل الإسلام، دعاة سمتهم التضحية بكل زخارف الحياة وزينتها في سبيل هذه الغاية الشريفة، فما المناصب مهما بلغت، ولا الجاه، ولا المال، ولا الاضطهاد، ولا الإيغال في الإيذاء بحائل بينهم وبين هذه المهمة السامية التي هي وظيفة الأنبياء والرسل الكرام، ووظيفة ورثتهم في كل عصر وزمان، إن أهل الباطل ينشطون ويبذلون، ويضحون في سبيل باطلهم أفلا يكون الأجدر بأهل الحق، والدعاة إلى الدين الحق أن يستميتوا، ويبذلوا، ويضحوا ما استطاعوا في سبيل حقهم ودينهم؟! ذلك ما نرجو، والله الموفق والمعين.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. 

المصدر: مجلة الأزهر، السنة الرابعة والأربعون، ذو القعدة 1392 - الجزء 9 

-----------------------

(1) صنعاء قيل صنعاء الشام، وقيل صنعاء اليمن وبينها وبين حضرموت مسيرة خمسة أيام أما الأولى فمسيرة شهر أو يزيد

(2) أي مرفوعتين، أو جعل جلدها طبقة فوق طبقة فهي آلم وأوجع.

(3) اشتدَّ به مرضه.

(4) قلَّ السائرون في الطريق.

(5) البداية والنهاية: ج3 ص30

(6) عشيرة: أسرة قوية لها شوكة، إن أرادوه يعني بسوء.

(7) مقام إبراهيم عليه السلام عند الكعبة.

(8) كنية أمه.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين